سلامة الصدر

طارق محمد امعيتيق



إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفُسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، يعلم خائنةَ الأعين وما تُخفي الصدور، له الحمد في الأولى والآخِرة على كلِّ نعمة أنعمَها علينا، القائل في محكم التنزيل: ﴿ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا ﴾ [الإسراء: 36]، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أرسله بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا بين يدي الساعة؛ ليُخرجَ الناسَ من الظُّلمات إلي النُّور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.
وبعد:
فإنَّ أمَّتنا الإسلاميَّة أمَّةُ صفاء ونقاء، فهي تنهى عن التباعُد والتشاحُن، وعما يَبعث بين الناس الفُرقةَ والعداوة؛ فقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تَباغَضُوا، ولا تَحاسَدوا، ولا تَدابَروا، ولا تَقاطَعوا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، ولا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أن يَهْجُرَ أخاه فوقَ ثلاث))؛ أخرجه مسلم.
وقد حَرَص حرصًا شديدًا على التآلُف والمودة والتماسك؛ ولهذا امتنَّ الله على المؤمنين بهذه النِّعمة العظيمة، فقال: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران 103].
وحتى تظهرَ هذه المودة والأُلْفة بين المسلمين لا بدَّ لها من سلامة الصدور.
فسلامةُ الصدر مِن أسباب دخول الجنَّة؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كنَّا جلوسًا مع الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((يَطْلعُ عليكم الآنَ رَجُلٌ مِن أهل الجَنَّة))، فطَلع رجلٌ من الأنصار، تنطف لحيتُه من وضوئه، قد تعلَّق نعليه في يده الشِّمال، فلمَّا كان الغدُ قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مثل ذلك، فطلع ذلك الرجُل، مثل المرة الأولى، فلمَّا كان اليومُ الثالث قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مثل مقالتِه أيضًا، فطلع ذلك الرجُل على مِثْل حاله الأولى، فلمَّا قام النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - تَبِعه عبدُ الله بن عمرو بن العاص فقال: إنِّي لاحيتُ أبي، فأقسمتُ ألَّا أدخُلَ عليه ثلاثًا، فإن رأيتَ أن تؤويني إليك، حتى تمضيَ فعلتَ، فقال: نعم، قال أنس: وكان عبدُ الله يُحدِّث أنَّه بات معه تلك الليالي الثلاث، فلم يرَه يقوم مِن اللَّيْل شيئًا، غير أنَّه إذا تعارَّ وتقلَّب على فراشه ذَكَر الله - عز وجل - وكبَّر، حتى يقومَ لِصلاة الفجر، قال عبدُ الله: غير أنِّي لم أسمعْه يقول إلَّا خيرًا، فلمَّا مضَت الثلاثُ الليالي، وكدتُ أن أحتقرَ عملَه، قلتُ: يا عبدَ الله، إنِّي لم يكن بيني وبين أَبِي غضبٌ، ولا هَجْرٌ، ولكن سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول لك ثلاث مرار: ((يَطْلع عليكم الآنَ رَجُلٌ مِن أهل الجَنَّة))، فطلعتَ أنتَ المرارَ الثلاثَ، فأردتُ أنْ آويَ إليك؛ لأنظرَ ما عملك، فأقتديَ به، فلم أرَكَ تعمل كثيرَ عمَل، فما الذي بَلَغ بك ما قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ فقال: ما هو إلَّا ما رأيتَ، غير أنِّي لا أَجِد في نفسي لأحد مِن المسلمين غِشًّا، ولا أَحْسُدُ أحدًا على خيرٍ أعطاه الله إيَّاه، فقال عبدُ الله: هذه التي بلغَتْ بك وهي التي لا نُطيق"؛ أخرجه أحمد.
وقد أخبر اللهُ - تعالى - عن حال أهْل الجَنَّة، فقال: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ﴾ [لأعراف: 43].
وقال - سبحانه -: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾[الحجر: 47].
إنَّ المتأمِّلَ في سِيَر الأنبياء والصالحين يَظهرُ له جليًّا صفاءُ السريرة، ونقاءُ السيرة، وسلامة الصدر، وقدوتُنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - له مواقفُ جليلة تَبرُز فيها سماحتُه، وسلامة صدْره، وسعَته، سواء مع أعدائه أو غيرهم.
ومن هذه المواقف:ما روتْه عائشة - رضي الله عنها - أنَّها قالت: يا رسول الله، هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ مِن أُحُد؟ فقال: ((لقد لقيتُ مِن قومِك ما لقيتُه، وكان أشدُّ ما لقيتُ منهم يومَ العقبة، إذ عَرَضْتُ نفسي على ابنِ عبد يَالِيل بن عبد كُلَال، فلم يُجبْني إلى ما أردتُ، فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفقْ إلَّا بقرن الثعالب، فرفعتُ رأسي، فإذا أنَا بسحابة قد أظلَّتْني، فنظرتُ فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إنَّ الله - عز وجل - قد سمع قولَ قومِك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بَعَث إليك مَلَكَ الجبال؛ لِتأمُرَه بما شئتَ، إن شئتَ أن أُطبِقَ عليهم الأخشبَين؟ فقال له رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بل أرجو أن يخرجَ مِن أصلابهم مَن يَعبُد اللهَ وحده، لا يُشرك به شيئًا)).
لقد ربَّى النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - صحابتَه على سلامة الصدور مِن الحِقد والحسَد، فكانوا - رضي الله عنهم - أعلامًا في الصفاء والنقاء، كانت قلوبُهم بيضاء نقيَّة، لا تباغض ولا تحاسد، فلله دَرُّهُم مِن رجال!
وإليك بعضًا من مواقفهم في ذلك:
- هذا الصِّدِّيقُ - رضي الله عنه - مع مِسْطح بن أُثَاثَة؛ إذ كان الصدِّيق يُنفِق على مسطح، فلمَّا كانت حادثةُ الإفك كان مسطح ممَّن خاضوا فيها، فأقسَم الصديقُ ألَّا يُنفقَ على مسطح، فأنزل الله قوله – تعالى -: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِي نَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22]، فمَا كان من الصديق إلَّا أن أعادَ النفقة على مسطح.

ثم استمِعْ إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - وهو يقول: إنِّي لأسمع أنَّ الغيث قد أصاب بلدًا مِن بلدان المسلمين، فأفرح به، ومالي به سائِمة.
أما أبو دجانة- رضي الله عنه - فقد دُخِل عليه وهو مريض، فرأوا وجهَه يتهلَّل، فكلموه في ذلك فقال: ما مِن عملِ شيءٍ أوثق عندي مِن اثنين: كنتُ لا أتكلَّم فيما لا يَعنيني، والأخرى كان قلبي سليمًا للمسلِمين.
قال سفيان بن دينار: قلتُ لأبي بشر: أخبِرْني عن أعمال مَن كان قبلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيرًا، ويُؤْجَرون كثيرًا، قال: قلتُ: ولِمَ ذاك؟ قال: لسلامةِ صدورهم.
هكذا كانت حياةُ أولئك الأبرار، ومثلهم مَن أتى بعدَهم ممَّن اقتفى أثرَهم، فقد ذَكَر اللهُ حالَهم أيضًا فقال: ﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [الحشر: من الآية 10].
فأين نحن من هؤلاء؟!
وأخيرًا: أخي في الله، أنصحك نصائحَ، أسال الله أن ينفعني وإيَّاك بها:
أكثِرْ مِن الدعاء، واسألِ الله قلبًا سليمًا، فقد كان مِن دعاء نبيِّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وأسألك قلبًا سليمًا)).
حسِّن الظَّنَّ، واحمل الكلامَ على خير محملِه، يقول عمر - رضي الله عنه -: لا تظنَّ بكلمة خرجتْ مِن أخيك المؤمنِ شرًّا، وأنتَ تجد لها في الخير مَحْملًا.
الْتمِسِ العُذرَ لأخيك، وتغاضَ عن الزلَّات، يقول ابن سيرين: إذا بَلغَك عن أخيك شيءٌ، فالْتمِسْ له عذرًا، فإن لم تجد فقل: لعل له عذرًا لا أعْرِفه.
حُبُّ الخير للمسلمين سبيلُك لاكتساب قلب سليم.
ادفعْ بالتي هي أحسَن، وإيَّاك والغِيبةَ والنميمة، واجعلِ الإخلاصَ أمامَ ناظرَيْك.

وصلَّى الله وسلَّم وبارك على سيِّدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.