تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: نحن أولى بسليمان عليه السلام منهم

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي نحن أولى بسليمان عليه السلام منهم

    نحن أولى بسليمان عليه السلام منهم(1)


    أ. حسام الحفناوي




    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه والسلام، وبعد؛

    فإن توضيح الواضحات من أَعْضَل المُعْضِلات، وتَبيين المُسَلَّمات من أَشْكَل المُشْكِلات، وكم من الواضحات تَمَسُّ الحاجة إلى توضيحها عند فُشُو الجهل! وكم من المُسَلَّمات يَلْزَم أهل الحَقِّ تَبيينها إذا رُفع العلم!

    والمَرْجُو من هذا المقال: إماطة اللِّثام عن مُسَلَّمَة من المُسَلَّمات، حالتْ دون إدراكها حُجُبٌ كثيفة، أَسْدَلَها انْهِيار صَرْح الولاء والبراء في قلوب أكثر المسلمين، تحت مَعاوِل الغَزْو الفِكْري، ومَرْدوداته التي لا تُحْصَى عَدَدًا، والمُبْتَغى من ورائه: إزالة اللَّبْس عن حقيقة رَّاسخة، غَشِيَها غُموض شديد، واعْتَراها تَخْلِيط كثير.

    وقد ارْتَأيْتُ التَّقْديم بين يدي البَدَهِيَّة الشرعية المؤمَّل إجْلاؤها بثلاث مُقَدِّمات تَوْطِئةً وتَمْهيدًا.

    المقدمة الأولى:
    الإسلام دين جميع الرسل والأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين:
    من القَواطِع المعلومة بالضرورة من دين الإسلام أن أصل الدين لدى جميع الأنبياء والرسل عليهم السلام واحد لا يتعدد، وإنما وقع التعدد في الشرائع المُنَزَّلَة من عند الله تعالى على رُسُله الكرام عليهم الصلاة والسلام.

    قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ﴾ [آل عمران:19]، وقال سبحانه: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران:85]، وقال عز وجل حكاية عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ﴿ ﴾[يونس:72]، وقال تبارك وتعالى: ﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة:131،130]، وقال عَزَّ مِنْ قائل عن الخليل عليه السلام: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [آل عِمران:67]، وذكر الله تعالى من دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهما يرفعان قواعد البيت قولهما: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾ [البقرة:128]، وقالت الملائكة الكرام الذين أُرْسِلوا لمعاقبة قوم لوط حين نزلوا ضيوفًا على خليل الرحمن: ﴿ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ, فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الذريات:35-36] أي بيت قوم لوط عليه السلام، وامرأته مستثناة من ذلك كما هو مذكور في مواضع عدة من كتاب الله تعالى، وقال تعالى عن يعقوب عليه السلام وبَنِيه من الأسباط الذين جاء بنو إسرائيل جميعاً من نسلهم: ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة:133]، وكان من دعاء يوسف بن يعقوب عليهما السلام الذي حكاه القرآن عنه: ﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف:101]، وقال تعالى واصفًا أنبياء بني إسرائيل: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيّ ُونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ﴾ [المائدة:44]، وقال موسى عليه السلام لقومه: ﴿ يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ﴾ [يونس:84-86]، وقال فرعون حين أدركه الغرق: ﴿ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس:90-91]، وأرسل سليمان عليه السلام إلى ملكة سبأ: ﴿ أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل:31]، وقال سليمان عليه السلام: ﴿ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل:42] أي من قبل ملكة سبأ، وقالت تلك الملكة حين رأت الآيات: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل:44]، وقال الله عز وجل عن المسيح عليه السلام حين أَحَسَّ الكفر من بني إسرائيل: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّون َ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران:52].

    وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما ـ واللفظ لمسلم ـ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلاَّتٍ وَأُمَّهَاتُهُم ْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ».

    فدين أنبياء الله تعالى واحد؛ وهو توحيد الله عز وجل، وإفراده سبحانه بالعبادة، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل:36]، وقال جل وعلا: {﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء:25] وكان أُسُّ دعوة كل نبي كريم وأساسه: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾.

    والإخوة من عَلَّات: هم أبناء الرجل الواحد من أمهات شَتَّى، والعَلَّات هُنَّ الضَّرائِر. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «إِخْوَةٌ مِنْ عَلاَّتٍ» عند أكثر أهل العلم: أن أصل دينهم واحد؛ وهو التوحيد، وإن اختلفت فُروع الشرائع، كما أن أولاد العَلَّات من أب واحد، وأمهات شَتَّى.[1]

    المقدمة الثانية[2]:
    استعلاء المؤمنين بإيمانهم:
    قال الله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنَافِقون:8]، وقال سبحانه: {﴿ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران:139]، وقال عز وجل: ﴿ فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد:35]، وقال تبارك وتعالى: ﴿ وَجَعَلَ كَلِمَة الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا ﴾ [التّوبَة:40].

    فالمؤمنون لا يُعْطون الدَنِيَّة في دينهم، ولا يتَزَلَّفون للكفار اسْتِجْداءً لمؤازرتهم، ولا يُطَوِّعون أحكام الشرع لأهواء المشركين تَمَلُّقًا ومُداهنة، ولا يُفَرِّطون في قليل ولا كثير مما يَدينون الله تعالى به تقريبًا للآراء كفعل المُنْهَزِمين نفسيًا.

    وكيف تَنْهَزِم نُفوسهم وهم يَحُوزون بين ضُلوعهم إيمانهم الذي يأبى الخُنوع للباطل، ويَسْتَعْلِي بأصحابه عن الاسْتِخْذاء للكفر، ويوْرِث أَتْباعه العِزَّة والكرامة والسُّؤدد؟

    ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ﴾[فاطر:10] لا تُنال إلا بطاعته تبارك وتَقَدَّس، مَنْ رجاها عند غير الله تعالى، فقد رجا المُحال، وعَوَّل على الوهم، وسعى وراء السراب، قال الله تعالى عن المشركين: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾[مريم: 81، 82]، وقال تعالى عن المنافقين: ﴿ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ﴾ [النساء:139].

    إنه الإيمان الذي تَشْمَخ أُنوف أتباعه اسْتِنْكافًا عن الخُضوع لأهواء الذين لا يعلمون، قال تبارك وتعالى: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [الجاثية:19،18].

    إنهم يَسْتَعْلون اسْتِعْلاء لا أَشَر فيه، ولا بَطَر، ويَشْمَخُون شُمُوخًا لا طُغيان فيه، ولا تَجَبُّر، فاسْتِعْلاء الإيمان مَمْزوجٌ بالخُشُوع لرب العالمين، وشُمُوخ المؤمنين مَقْرونٌ بالإخْبات لجَبَّار السماوات والأرض.

    [1] شرح السُّنَّة للبغوي (13/200)، وشرح النووي على صحيح مسلم (15/119)، وفتح الباري (6/489).

    [2] الأَلْيَق بهذه المقدمة أن تكون الثالثة، لكن اضطرني طول المقدمة المتعلقة بالمسجد الأقصى إلى إفرادها بمقال، وتقديم الثالثة عليها.


  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: نحن أولى بسليمان عليه السلام منهم

    نحن أولى بسليمان عليه السلام منهم(2)


    أ. حسام الحفناوي




    المقدمة الثالثة:


    المسجد الأقصى مُتَعَبَّد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وإرْث أتباعهم من أهل الإسلام:
    من الثوابت التاريخية عند علماء المسلمين: أن المسجد الأقصى كان مَنْبَعًا للدعوة إلى توحيد الله تعالى، ومَجْمَعًا لتعليم شرائعه، والحَضِّ على طاعته عز وجل، ومَوْطِنًا لعبادته وحده لا شريك له، في رِحابه يَصْدَع الأنبياء والصّدّيقون بالمِلَّة الحَنِيفِيَّة، وفي ساحاته يُعْذِرُون إلى ربهم بالوَعْظ والتَّذْكير، والبيان والإرشاد، وفي جَنَباته يَقْنُتون آناء الليل سُجُودًا وقِيامًا، قد أَطْبَق على ثُبوت ذلك أهلُ الرِّواية، والدِّراية، والرِّعاية، وأَجْمَع على الجَزْم بصحته عُدُول المؤرخين، وثقات الأَخْبارِيين.[1]


    وانْدِراج هذا الأمر في عِداد الثَّوابت ليس دَفْعًا بالصَّدْر، ولا تَحَكُّمًا بالرأي؛ بل بتواطؤ نُصوص الوَحْيَيْن على إثباته، وتعاضُدها على تَقْريره.


    ولا يُشَوِّش على ما ذكرنا اختلاف أهل العلم في تَعْيين مُبْتَدِئ البناء للمسجد؛ فكون المُبْتَدِئ للبناء هو آدم عليه السلام، أو أحد أبنائه، أو سام بن نوح عليه السلام، أو إبراهيم عليه السلام، أو يعقوب عليه السلام، أو الملائكة الكرام لا يُزَعْزِع الثابت التاريخي الذي ذكرناه آنفًا، ولا يُوْهِن رُسُوْخَه؛ فقد اتصف المسجد المبارك بما وصفناه آنفًا على مَرِّ العُصور التالية لإنشائه، أيًا كان واضِع أساسه الأول، وأحيا الله تعالى تلك المآثر على يدي المُجَدِّدين لعمارته من الأنبياء والرسل.


    وقد كان التجديد الأكبر لعمارة المسجد من نصيب سليمان عليه السلام، فاشتهرت نسبة المسجد له، وإن لم يكن مُؤسسه أول مرة.[2]


    قال الإمام الخطابي رحمه الله تعالى: يُشْبِه أن يكون المسجد الأقصى أول ما وضع بناءه بعض أولياء الله قبل داود وسليمان، ثم داود وسليمان، فزادا فيه ووسعاه، فأضيف إليهما بناؤه.[3]

    وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: المسجد الأقصى كان من عهد إبراهيم عليه السلام، لكن سليمان عليه السلام بناه بناء عظيمًا.[4]


    وهذا البناء العظيم أشمل وأوسع من المسجد الحالي، فيدخل فيه بالمعنى الشرعي كل ما احتواه السور الكبير ذي الأبواب، فالأقصى اسم للمسجد كله، ولا يختص بالمسجد القائم بالناحية القبلية الجنوبية، كما يظنه بعض الناس.


    وقد تعرض المسجد الأقصى للتخريب والتدمير مرتين: أولاهما: على يد ملك بابل نبوخذ نصر (بُخْتنَصَّر) في عام سبع وثمانين وخمسمائة قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وثانيهما: في العام السبعين من ميلاد المسيح عليه السلام على يد تيتوس (طيطوس) الروماني، وتعرض للامتهان زمنًا طويلًا قبل الفتح الإسلامي؛ حيث اتخذ البيزنطيون النصارى من مَوضع الصخرة وما حولها ـ وهو قِبْلة اليهود ـ مَجْمَعًا للقاذورات والنَّجاسات؛ مُجازاة لليهود على صُنْعهم ذلك بمَوضع صَلْب شَبيه المسيح عليه السلام[5].


    وظل ذلك المَوْضِع الشريف على تلك الحال المُزْرِية، حتى فتح المسلمون بيت المقدس، وتسلمها عمر بن الخطاب رضي الله عنه من بطريرك القدس في العام السادس عشر من الهجرة النبوية الشريفة، فتم تطهير موضع الصخرة من القاذورات، وصَلَّى الفاروق رضي الله عنه في المسجد.[6]


    وقد دخلت مرحلة فاصلة في التاريخ المعماري للمسجد الأقصى في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان رحمه الله تعالى؛ حيث بناه بناء ضخمًا مهيبًا، واعتنى به من بعده العديد من الملوك والأمراء، إلى أن وقع المسجد أسيرًا في أيدي الصليبيين سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وظل في أيديهم إلى أن خَلَّصه الله تعالى منهم على يدي السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، ثم سَلَّمه الملك الكامل الأيوبي دون قتال إلى الإمبراطور الألماني فريدريك الثاني[7] تسليمًا ملؤه الخزي والعار سنة ست وعشرين وستمائة؛ إيفاءً بوعد غير شريف، منحه الكامل لفريدريك الصليبي لغرض خبيث؛ وهو إشغال أخيه عيسى المُلَقَّب بالمُعَظَّم، واضطر إلى تنفيذ الوعد المشؤوم؛ لانشغاله بحيازة ممتلكات ابن أخيه الناصر داود بن عيسى، الذي تولى عقب وفاة والده[8]، إلى أن أراح الله المسلمين من هذا البلاء سنة اثنتين وأربعين وستمائة على يد الجيش المصري بقيادة ركن الدين بيبرس مملوك الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله تعالى، مدعومًا بالجيش الخوارزمي الذي استدعاه الصالح.


    وظل القدس الشريف منذ ذلك الحين في حَوزة المسلمين، حتى وقع فريسة الجيش الإنكليزي الصليبي في آخر العام السابع عشر من القرن الميلادي العشرين، فحكموه ثلاثين عامًا، وَطَّدوا فيها دعائم الوجود اليهودي في أرض فلسطين المباركة، وعَبَّدوا الطريق أمام قيام دولة إسرائيل التي أعلن بن جوريون عن قيامها قبل إنهاء الانتداب ـ الاحتلال ـ البريطاني بساعات قلائل، والتي تلا إعلانها قيام الحرب من العام نفسه، والتي تَمَخَّضت عن توسيع تلك الخَلِيَّة السَّرَطانية لمساحتها المُعْلَنة من قبل، بَيْد أن القدس الشرقية التي تضم المسجد الأقصى بين جَنَباتها قد ظلت تحت حكم المملكة الأردنية إلى يوم الخامس من يونيو في العام السابع والستين من القَرْن المُنْصَرِم، ليدخل المسجد الأقصى مباشرة تحت الحكم اليهودي البغيض، فَكَّ الله أَسْرَه من أغلاله المشؤومة.


    فمن أحق الناس بإرث الأنبياء والمرسلين؟
    إن الأحق بالأرض المقدسة، مُتعبَّد إبراهيم، ومِحْراب داود، ومسجد سليمان هم أتباعهم من الموحدين، وأشياعهم من المسلمين.
    ألم يقل الله تعالى: ï´؟ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ï´¾ [آل عمران: 68].


    ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم عن اليهود: "نحن أولى بموسى منهم"[9]؟
    ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: "أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِى الأُولَى وَالآخِرَةِ"[10]؟


    بل الموحدون هم الأحق بالأرض كلها، كما قال سبحانه: ï´؟ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ï´¾ [الأنبياء: 105].
    وقال سبحانه: ï´؟ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ï´¾ [النور: 55].


    والنصوص الشرعية في هذا المعنى كثيرة جدًا، لا يسعنا سَرْدها في مثل هذا المقام.

    [1] لا يعارض ما ذكرناه تَسَلُّط بعض أحبار السوء على تولي زمام الأمور فيه بما يخالف دعوة الأنبياء والمرسلين؛ فهو عارض مُباين لنهج المؤسسين والمجددين من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم من الموحدين، وهل غَيَّر نَصْبُ مُشْرِكي العرب أوثانهم حول الكعبة المشرفة - وهي أفضل من المسجد الأقصى قطعًا - من كونها مُتَعَبَّدًا للحُنَفاء من أتباع الخليل عليه السلام وخير بقعة على ظهر الأرض وكونهم أولى الناس بها؟
    [2] يُعْرَف مسجد سليمان عليه السلام في المصادر اليهودية باسم هَيْكل سليمان، قال الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (4/260): الهيكل: كلمة يقابلها في العبرية «بيت همقداش»، أي «بيت المقدس»، أو «هيخال»، وهي كلمة تعني «البيت الكبير» في كثير من اللغات السامية (الأكادية والكنعانية وغيرهما).
    والبيت الكبير، أو العظيم: هو الطريقة التي كان يُشار بها إلى مَسْكَن الإله، فكلمة «فرعون» تعني «البيت الكبير»، وهي تُشْبِه إلى حدٍّ ما عبارة «الباب العالي».
    وقد تبدَّت الطبقة الحلولية اليهودية التي تراكمت داخل التركيب الجيولوجي اليهودي في شكل تقديس الأرض الذي تمثَّل في عبادة يسرائيل والعبادة القربانية المركزية المرتبطة بالدول العبرانية المتحدة (1020 ق.م) التي قام الكهنة بالإشراف على إقامة شعائرها. ومركز هذه العبادة القربانية هو الهيكل.
    ومن أهم أسماء الهيكل «بيت يهوه»، لأنه أساساً مسكن للإله وليس مكاناً للعبادة (على عكس الكعبة مثلاً). ومن هنا، ورغم أنه كان مصرَّحاً للكهنة بل لعبيد الهيكل بالدخول فيه، فلم يكن يُسمَح لهم بالتحرك فيه بحرية كاملة. ولم يكن يُسمَح لأحد على الإطلاق بدخول قدس الأقداس إلا الكاهن الأعظم في يوم الغفران،انتهى.
    وشرحه لكلمة البيت الكبير بالصورة الحرفية السابقة مرتبط بعقيدة الحلول التي ذكر في غير موضع تغلغلها في الفكر اليهودي، وإلا فإن ثمة شرحاً للكلمة منسجماً مع عقيدة التوحيد؛ فإن وصف مَوضع عبادة الله سبحانه ببيت الله تعالى لا يلزم منه حُلول ممقوت أبدًا؛ فبَيْتُ الله تعالى ـ وهو المسجد ـ هو بيت خُصص لعبادة الله تعالى، وذكره، وهو تعبير ثابت في كثير من النصوص الشرعية، ولكن الدكتور المسيري لم يُفَرِّق في مواضع عدة من كتابه بين ما كان عليه أنبياء بني إسرائيل، وأتباعهم بإحسان من الأحبار والرهبان، وما نسبه إليهم مَنْ يشترون بآيات الله ثمنًا قليلًا من كَذَبة الأحبار والرهبان، ولا تكاد تجده يتعقب الروايات التاريخية اليهودية المكذوبة في حق داود وسليمان عليهما السلام، وإنما يتابع تلك المصادر في وصفهما بالمَلَكِيَّة دون اقتران بالنبوة، بل يسير على دَرْبها في نسبة العظائم لهما.
    ومما قاله في هذا الباب (4/266): وكثيرًا ما كان ملوك اليهود يضطرون إلى إدخال العبادات غير اليهودية؛ تعبيرًا عن تحالفاتهم السياسية، فأنشأ سليمان مَذابح لآلهة زوجاته الأجنبيات، الأمر الذي يتنافى مع مبدأ التوحيد.
    وقال عن دولة هذا النبي الكريم الذي دعا الله تعالى أن يرزقه مُلكًا لا ينبغي لأحد من بعده (4/291): لا ينبغي مع ذلك أن نظن أن دولة سليمان كانت دولة عظمى؛ فاقتصادها كان محدودًا، ونشاطها التجاري الداخلي كان محصورًا في نطاق ضيِّق جدًا، وكانت الصناعة بِدائية ومُتَخَلِّفة.
    وقال في الموضع نفسه: وتذكر التوراة أن سليمان صاهر فرعون، ملك مصر، وتزوَّج ابنته (ملوك أول 3/1)، وقد حصل على مدينة جيزر (بالقرب من القدس)، وكانت تابعة لمصر، مهرًا لزواجه، ثم يعلق قائلًا: وهذا هو التوسع الوحيد الذي أنجزه سليمان. ويبدو أن هَيْبَة مُلوك مصر في تلك الحقبة كانت قد هبطت، حتى ارتضت مصر أن يتزوَّج مَلِك صغير الشأن كسليمان من إحدى أميراتها.
    وقال (4/292): ويقف كثير من النُّقَّاد موقف المُسْتَرِيب إزاء قصة مَجْد سليمان التي توردها أسفار الملوك والأيام، ويقولون: إن التَّحَيُّز القومي لدى كُتَّاب متأخرين هو الذي دعاهم إلى الإضافة والمغالاة في القصة.
    وقد نقل عن المصادر اليهودية (4/263ـ265) وصف معبد سليمان عليه السلام المُسَمَّى بالهيكل، دون نَقْد لما تضمنه ذلك الوصف من مظاهر الوثنية، ولا تعقيب لما حواه من مُضاهاة معابد الجاهلية، بل أكد ذلك المعنى بقوله عن الهيكل: وهو لا يختلف كثيرًا في تقسيمه الثلاثي (المدخل، والهيكل أو البهو المقدَّس، وقدس الأقداس) عن الهياكل الكنعانية، كما تم العثور على هيكل في سوريا، بجوار قصر ملكي يعود تاريخه إلى القرن الثامن أو التاسع قبل الميلاد، يكاد يكون نسخة من هيكل سليمان.
    وقوله: لا يختلف هيكل سليمان في معماره عن الهياكل الكنعانية، التي يبدو أنها تأثرت بالطراز الفرعوني، الذي أخذه الفينيقيون من مصر، وأضافوا إليه ما أخذوه من الآشوريين والبابليين من ضروب التزيين، ولذلك، فإن الطراز الذي بُني عليه الهيكل يُسمَّى «الطراز الفرعوني الآشوري».
    ولا يمكن القول بصدور تلك الأقوال ونظائرها منه على سبيل الحكاية؛ لما يظهر في العديد من المواضع الفائتة وغيرها من التعليق والنقد الذَّاتيين، دون الاقتصار على النقل المُجَرَّد، فضلًا عن كونه لا يعامل المسيح عليه السلام ـ وهو مسيح كذاب حسب اعتقاد اليهود - معاملة داود وسليمان عليهما السلام، ويصفه بما ينبغي له من النبوة والتكريم، والشواهد على ذلك كثيرة جدًا، ليس المقام مقام حَصْرها.
    ولم أعمد إلى حَشْد النقول السابقة إسقاطًا للقيمة العلمية لموسوعة الدكتور المسيري، بل إيضاحًا لخَلل عَقَدي كبير لا يجوز السكوت عنه، ويَلْزَم المُتَصَفِّحين لتلك الموسوعة الضخمة ـ فضلًا عن الدَّاعين إلى قراءتها والمُزَكِّين لها ـ وَضْعَه في الاعتبار، وأَخْذ الحَيْطة منه. أما مؤلف الموسوعة، فنرجو أن يكون قد تراجع عن الآراء الآنفة ومثيلاتها، وقد صَنَّف سيرة ذاتية في آخر عمره، أفصح فيها عن الأطوار الفكرية التي مر بها، ولم أظفر بنسخة منها، وأرجو ألا يضيق صدر بعض المُعْجَبين بموسوعية الرجل، ومواقفه السياسية من النقد السابق؛ فإن أنبياء الله تعالى الكرام أعز وأكرم عند المسلم من كل أحد، ولا أحسب هذا يحتاج إلى بَرْهَنَة.
    [3] انظر: فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى (6/409).
    [4] انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (27/351).
    [5] ذكر العليمي في كتابه [الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل] (2 /171،170) أن هيلانة أم قسطنطين هي التي أمرت أن يُصْنَع ذلك بالصخرة في السنة الحادية عشرة من مُلْك ابنها، وأضاف أنها خَرَّبت هيكل بيت المقدس إلى الأرض. والمشهور أن الهيكل خُرِّب على يدي بختنصر البابلي، وأُعيد بناؤه على مدار حكم ثلاثة من أباطرة الفرس، وهم: قورش، ودارا الأول، وأرتحشتا، ولكنه كان بناء متواضعًا، فسعى هيرود الروماني بدءًا من العام العشرين قبل الميلاد في بنائه بناء كبيرًا، فقام بهدمه وإعادة بنائه، واستمر العمل فيه حتى عهد أجريبا الثاني الروماني الذي بدأ عهده في عام أربع وستين بعد الميلاد، ثم قام تيتوس الروماني بهدمه قبل وضع اللمسات الأخيرة فيه في عام سبعين، ولم يُبْنَ بعد تخريبه بناء يُذْكَر؛ ولذلك يُسَمِّي اليهود الهيكل الذين يعتزمون إعادة بنائه بالهيكل الثالث، وبعضهم يطلق الهيكل الثالث على هيكل هيرود، فأين الهيكل بعد تدميره الأخير حتى تهدمه هيلانة؟ إلا أن يكون المراد بذلك الإتيان الكامل على بعض ما تبقى من خراب هيكل هيرود، أو هدم هيكل بسيط بناه اليهود بإمكاناتهم المحدودة في تلك الأزمنة، والتي لم تجعل منه بناء مذكورًا في التاريخ.
    [6] روى الإمام أحمد في مسنده (1 /38) عن عبيد بن آدم، قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لكعب: أين ترى أن أُصَلِّي؟ فقال: إن أخذت عنى، صليت خلف الصخرة، فكانت القدس كلها بين يديك، فقال عمر رضي الله عنه: ضاهيت اليهودية، لا، ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم إلى القبلة ـ وقد رُوي أن هذه القبلة هي محراب داود عليه السلام ـ فصَلَّى، ثم جاء فبَسَط رِداءه، فكَنَس الكناسة في ردائه، وكَنَس الناس.
    وقد روى الحافظ الضياء المقدسي هذا الأثر في المختارة (برقم241) من طريق الإمام أحمد، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في البداية والنهاية (7 /268) بعد ذكر رواية الإمام أحمد: وهذا إسناد جيد، اختاره الحافظ ضياء الدين المقدسي في كتابه المستخرج، وقد تكلمنا على رجاله في كتابنا الذي أفردناه في مُسْنَد عمر، وحَسَّن إسناده الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى في حاشيته على المسند، سيرًا على منهجه في قبول توثيق ابن حبان رحمه الله تعالى لمن لم يرو عنه إلا راو واحد، وهو ما لم يقبله المُضَعِّفون للأثر، كالشيخ المعلمي اليماني رحمه الله تعالى في الأنوار الكاشفة ص115، والشيخ الألباني رحمه الله تعالى في كتاب الإسراء والمعراج ص106، والشيخ شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
    [7] وَرِث عن والديه عَرْشي ألمانيا، وصقلية، وتَوَّجَه البابا أونوريوس الثالث إمبراطورًا على الإمبراطورية الرومانية المُسَمَّاة بالمُقَدَّسة، فصار ملكًا على إيطاليا، وألمانيا، وسويسرا، وتَمَلَّك قُبرص والقدس لعدة سنوات، وقد دخل في صراع مع البابوية، وكثر عليه الخارجون والمتؤلبون، حتى اشتد به الغم، ومات في عام خمسين ومائتين وألف وفق التاريخ الميلادي النصراني، وكان متقنًا للعربية، وله مؤلف فلسفي بها، وأتقن أيضًا الألمانية، والإيطالية، واليونانية، واللاتينية، وكان قد نشأ في صقلية بين مُسْلِميها، فأورثه هذا ميلًا إليهم، مع تشربه ـ شأن ملوك أوروبا في عصره ـ بالروح الصليبية. انظر: تاريخ ابن الوردي (2 /147)، والأنس الجليل (1 /406،405) وتاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وجنوب إيطاليا للأمير شكيب أرسلان (هامش ص274)، ومقال "حضارة العرب في صقلية وأثرها في النهضة الأوروبية" للدكتور عبد الجليل شلبي المنشور بمجلة الأمة، العدد 27، ربيع الأول 1403هـ.

    [8] تقتضي الأمانة العلمية أن أُشير إلى اشتراط الكامل الكثير من الشروط على فريدريك، وتقييده بكثير من القيود، وإلى التزام فريدريك إلى حد كبير بهذه القيود والشروط، ولكن هذا كله لا يُسَوِّغ فِعْلَه الكامل، ولا يُبَرِّرُها ألبتة؛ فتسليم جزء من أرض الإسلام إلى الكفار - ولو اقترن بالعديد من القيود والشروط - جريمة شنعاء، ناهيك عن كونها من أحب البقاع إلى المسلمين، وأفضلها عندهم.
    [9] وفي لفظ (أنا أولى) وفي لفظ (أنتم أحق) وكلها في صحيح البخاري.
    [10] جزء من حديث أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، واللفظ لمسلم، ولفظ البخاري "في الدنيا والآخرة".

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: نحن أولى بسليمان عليه السلام منهم

    نحن أولى بسليمان عليه السلام منهم(2)


    أ. حسام الحفناوي

    البَدَهِيَّة الشرعية الغائبة


    إذا تَقَرَّر:
    أنَّ مِن القَواطِع المعلومة بالضرورة مِن دِين الإسلام أنَّ جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام قد بُعِثوا بدِين الإسلام.

    وأنَّ المسجد الأقصى هو إرْثٌ خالصٌ لأتْباع الأنبياء مِن أهل الإسلام، لا حَظَّ فيه لِغيرِهم.

    وأن العِزَّة والعُلُوَّ مِن نَصِيب أهل الإسلام، والذُّلَّ والصَّغار مِن شأن غيرِهم، مما يُغْنِي أهلَ العِزَّة عن اسْتِجْداء أهلِ الذِّلَّة، ولا يُحْوِج الأَعْلَيْن إلى اسْتِرْضاء الصَّغَرَة[1].

    أقول: إذا تَقَرَّر كل هذا - وهو مُقَرَّرٌ كما بَيَّنَّا آنفًا - فلا غَرْو أن يكون مِيراثُ سليمان عليه السلام حقًّا خالصًا للمسلمين، وجزءًا لا يتجزَّأ مِن تُراث الأُمَّة الإسلامية المُمتدَّة بامتداد تاريخ الخَلِيقة.

    فإذا سَلَّمنا أنَّ البناء الذي بناه سليمان عليه السلام للعبادة كان يُسَمَّى بالهيكل - ومعناه: "بيت الله" في لغات عِدَّة، وقد قَدَّمْنا ما يُبَيِّن الأصلَ اللُّغويَّ للكلمة - فلا شكَّ أنَّ ذلك الهيكل مِن إرْث أهل الإسلام، لا قَتَلَةِ الأنبياء وعَبَدَةِ الطَّاغوت، فالهيكل - إنْ جاز التعبير - هيكلُنا نحن المسلمين، لا شأنَ لِغيرنِا مِن الأمم به.

    ومِن هنا: يَنكشف الغُبار عن بُطْلان ما يُدَنْدِن به كثيرٌ مِن المُدافِعين عن المسجد الأقصى المبارك - فَكَّ الله أَسْرَه - مِن وَصْفٍ للهيكل بالمزعوم، ونَفْيٍ لوجودِ أيِّ أَثَرٍ له، وتأكيدٍ على وقوع المُعْتَقِدين بوجوده في الوَهْم.

    وليس احتمالُ وجودِ شيءٍ مِن أثر ذلك البناء مِن عدمِه مَحِلًّا للبحث والنِّقاش؛ فهذا لا يَعنينا نحن المسلمين في شيء، ولا يَنْبَني عليه شيءٌ مِن الاعتقاد أو العمل، وإنما المَعْنِيُّ هنا هو تَصْحِيح مَفْهُومٍ خاطئ، وتَقْويم تَصَوُّرٍ مُعْوَجٍّ.

    فقد كان سليمان عليه السلام نبيًّا مُسلمًا، وقد بَنى ذلك النبيُّ الكريم بناءً لعبادة الله تعالى وحده، وما كان على ذلك النحو لا يَضِيْر أُمَّة الإسلام أن يُوقَف له على أَثَر، أو يُعْثَر له على خَبَر، فهذه بضاعتُنا رُدَّتْ إلينا، فماذا كان؟

    إنَّ الحِرْص على نَفْي وُجود أثرٍ للهيكلِ ليس بسبيلِ للحفاظ على المسجد الأقصى المبارك، وإنما سبيل ذلك هو الوضوح في عَرْض عقائد الإسلام وثوابته دون مُداهَنة، وإنَّ الإصرار على وصْف ذلك البناء - بغَضِّ النظر عن تسميته - بالمَزْعوم لا يُعَدُّ طريقًا قَويمًا لِصيانة الهُوِيَّة الإسلامية لتلك البُقْعة المُشَرَّفة، بل الطريقُ القَويم هو الجَهْرُ بالمفاهيم الشرعية مِن غير اسْتحياء يَعْتَرِيه.

    وما عسى أولئك النَّافين المُصِرِّين أن يقولوا إنْ عَثَر علماءُ الآثار على شيء يعُود لحِقْبة سليمان عليه السلام في نطاق البُقْعة المباركة، وقَدَّموا الأدلة والبراهين العلمية على ذلك؟

    على أننا نقطع ببُطْلان نسبة شيء مِن آثار الهياكل ذات الصِّبْغة الوثنيَّة - إنْ فُرِض العُثور على شيء منها - لعصرِ سليمان عليه السلام، أو غيرِه مِن أنبياء بني إسرائيل، وإنما يُنْسَب ذلك - على الفَرْض المُتَقَدِّم - إلى بعض أَحْبار السُّوء الذين راموا استرضاءَ مُلوك الفرْس، أو الرومان، أو غيرِهم مِن الملوك الوثنيِّين، ممن أَذِن لهم في إعادة بناء هيكلهم المُدَمَّر.

    شبهة وجوابها:
    قد يقول قائل: إنَّ مَبْعَث الحِرْص على نفي وجودِ أثرٍ للهيكل: هو حَشْدُ التأييد العالميِّ الدَّاعِم لقضيَّة المسجد الأقصى، والضَّاغط على حكومة الاحتلال البغيض؛ إذ يختلف أسلوبُ خطابِ الكافرين عن أسلوب خطاب المؤمنين؛ لاختلاف المَرْجِعِيَّات والمَوازِين، وتُبَايِنُ - للعِلَّة ذاتها - طَرائِقُ البَرْهَنة لهؤلاء وسائلَ الاستدلال لأولئك.

    والجواب عن ذلك يتمثَّل في عِدَّة نِقاط:
    أولها: أنَّ مواقف الدول المؤثرة في سياسة العالمِ المعاصرِ المُسَمَّاة بالدول الكبرى في مُجْمَلها داعِمةٌ للمُغْتَصِب اليهودي، ومؤيِّدة لمَساعِيه التَّهْوِيديَّة ، سواء كان ذلك الدَّعْم نابعًا مِن مَوقف عَقَدِيٍّ، كموقف البروتوستانت والإنجيليِّين، أو مِن وجودِ مَوقفٍ عدائيٍّ مُشْتَرَك تجاه أمَّة الإسلام، كمَوقف الهندوس، والبوذيِّين، وغيرهم ممن يتربَّصون بالمسلمين الدَّوائر، أو مِن الحرْص على مَصالحهم الاقتصادية والسياسية في ظلِّ هَيْمَنةٍ يهوديَّة عالميَّةٍ على المجالين الاقتصادي والإعلامي، وغزارة جماعات الضَّغْط اليهودية (lobbies) على سياسات الدول الكبرى.

    ثانيها: أنَّ المواقف الدَّاعِمة لقضيَّة المسلمين في بيت المقدس، الصَّادِرة مِن بعض الطوائف مِن بعض الشعوب الغيرِ إسلامية لا تَعْدو أن تكون مواقفَ عاطفيةً خافِتة، عديمة التأثير في المجال السياسي العالمي؛ لما عُرِف عن حكومات تلك الشعوب مِن عدم اكتراثٍ بما يُخالِف مصالحَها السياسية، وخُططها الاستراتيجية، وإنْ تظاهرَت بضد ذلك، فضلًا عن نُبُوع تلك المواقف مِن طوائف مَحْدودة مِن تلك المجتمعات، لا تَرْقى لمستوَى الدَّعْم الشَّعْبيِّ العامِّ، كما أن تلك المواقف لا تَتَخَطَّى حُدودَ التَّعْبير البَسيط المُتَمَثِّل في التظاهرات والاعتصامات إلى الفعل المؤثر في واقع أمثال تلك الدول، كالإضرابات العامَّة؛ نظرًا لصُدُورها مِن مُنْطَلَق عاطفيٍّ، لا مِن مَنْطِقٍ عَقَدِيٍّ يَحْمِل صاحبَه على مُكابَدَة المَشاقِّ في سبيل بُلوغ هَدَفِه المَروم.[2]

    ثالثها: لو سَلَّمْنا أنَّ الدَّعْمَ العالميَّ المَذْكور قد يَرْقى لمُسْتوى الضَّغْط السياسي في بعض الأحيان؛ فإنه إنما يُمَثِّل ورقةَ ضغطٍ ثانوية هامشية، لا رئيسية أساسية، فلا ينبغي تَضْخِيمه فوق حَجْمه، ولا الاكْتِراث بالتَّعْويل على مَرْدوداته، فضلًا عن تَطْويع المفاهيم الشرعية لأهواء الكافرين طلبًا لمؤازرتهم المُدَّعاة.

    رابعها في العدد وأولها في المَنْزِلة: أنَّ أهل الحقِّ لا يَضُرُّهم ضلالُ الضَّالين إنِ اهتدَوا، ولا يَضِيرُهم مُخالفة المُخالِفين وخُذْلان المُخَذِّلِين إنْ قاموا بأمْر الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105]، وقال النبُّي صلى الله عليه وسلم: ((لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ))[3].

    فَلتَقَرَّ أَعْيُنُ المسلمين ما اسْتَمْسَكوا بشرع الله تعالى، قال تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216].

    ولتَهْنَأ مَعايشُهم ما لَزِموا الهُدَى الذي أُرْسِل به محمدٌ صلى الله عليه وسلم القائل: ((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ، حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ))[4].

    وليُرِيحوا أنفسَهم مِن عناء تَلَمُّس مَرْضاة الكافرين؛ طمعًا في مُعاضَدة مَوهومة، ولا يُكَدِّروا خَواطِرهم بالتَّنْقِيب عن بَراهين مُتَناغِمة مع أَمْزِجة المشركين؛ تَشَوُّفًا لمُناصَرَة شَلَّاء.

    فليوَحِّد أهلُ الإسلام جِهْةَ الرَّجاء، وليَسْعوا حَثيثًا في فعل ما أُمِروا به إزاء تلك النَّازلة
    فمُتْ ماجدًا أو عِشْ كريمًا فإنْ تَمُتْ ♦♦♦ وسَيْفُك مَشْهورٌ بكفِّك تُعْذَرِ [5]

    ولا حَرَج عليهم فيما بعدُ مِن التَّلَطُف في إيصال ما يحملونه مِن حقٍّ دُون تفريط ورَخاوة، ولا بأس مِن تَنْمِيق صياغة الخطابِ الدعويِّ لغير المسلمين تَنْمِيقًا مُقْتَرِنًا بصيانة المُحْتوَى، ومَصْحوبًا بالحرص على رَوْنَقه وبَهائه.

    [1] جمع الصَّاغِر، وهو الرَّاضي بالذًّل، وكلُّ مَن أَشرَك مع الله تعالى غيرَه، فقد رَضِي بالذُّل.

    [2] لا يُفْهَم مِن هذا الكلام بالطبع مُطالبة لتلك الأمم بفِعْل زائدٍ على ما تقُوم به، بل يُراد منه تنبيه المسلمين إلى عدم جدوَى تلك المشاركات العاطفية واقعيًّا، وعدم موائمة التعويل عليها للشرع والعقل والواقع، وما حَكَّ جِلْدَك مثلُ ظفْرِك.

    [3] أخرجه البخاري ومسلم مِن حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، واللفظ لمسلم، وأخرجه مسلم أيضًا مِن حديث ثوبان رضي الله عنه بلفظ: ((لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ))، وفي الباب عن غيرِ واحدٍ مِن الصحابة رضي الله عنهم.

    [4] أخرجه أبو داود في سُننه (3/ 291)، وأحمد في الزهد - كما في الوهم والإيهام لابن القطان (5/ 296)، ولم أجدْه في المطبوع مِن الزهد - مِن حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وصَحَّح ابن القطان إسناد الأخير، وصحح الألباني الحديث بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة(1/ 15).

    [5] البيتُ مِن قصيدةٍ لِيزيدَ بنِ الحكم الثقفي أَنشَدَها يزيد بن المهلَّب حين خلَع يزيد بن عبد الملِك بن مروان.


الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •