إشكالات في ترجمة دلالات الأصوات المشاكِلَةِ للمعنى في القرآن الكريم
(دراسة نقدية تحليلية)
د. محمد زبير عباسي
إنَّ علماء الدِّلالة الْمُحدَثين تطرَّقوا إلى تفصيل الكلمة في أنواع الدَّلالة، فقسَّموها إلى الدلالة الصوتية، والصرفية، والنحوية، والمعجمية أو الاجتماعية، والسياقية.
هذا الموضوع يدرُس الدلالة الصوتية بشكل مُجمَل، ولكنه يركِّز بصفة أساسية على جانب دقيق من جوانب الدلالة الصوتية، أو مظهر من مظاهرها، وهذا الجانب يُعنى بمقابلة أصوات الطبيعة، ومن علماء العربية نجد ابن جنيٍّ رحمه الله يهتم بهذا الموضوع، ويدرسه بدقة وعناية؛ تناول ابن جني هذا الموضوعَ قائلًا: "باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني"، وقبل أن نتقدم في الموضوع ينبغي أن نتصور فذاذة العقل، وصقل الفكر لدى ابن جني؛ حيث وضع هذا الباب بعنوانٍ يُصرِّح بالعلاقة القوية بين حروف الكلمة ودلالتها، أو بين الألفاظ ومعانيها، دلَّ ابن جني القارئَ على اعتبار المعنى، وإنتاج الدلالة من خلال اللفظ أحيانًا، فكأن المادة المعجمية أو الهجائية أو الأبجدية في ذاتها تصلح أن تكون قرينةً، أو حالًا، لإرشاد القارئ إلى المعنى المراد.
نستوضح الموضوع أكثر من كلام ابن جني في الباب؛ يقول: "فأما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث، فباب عظيم واسع، ونهج متلئب – ثابت - عند عارفيه مأموم، وذلك أنهم كثيرًا ما يجعلون أصوات الحروف على سَمْتِ الأحداث المعبَّر بها عنها، فيعدِلونها بها ويحتذونها عليها، وذلك أكثر مما نقدِّره وأضعاف ما نستشعره".
هذا الموضوع يثير تساؤلًا حول وجود هذا النوع من الألفاظ، واشتمالها على أصوات مشاكلة للمعنى في القرآن الكريم، وفي حال وجودها - وإن كان يسيرًا - فهل يمكن ترجمتها إلى لغات أخرى؟
ولنفهم الموضوع أكثر ينبغي أن نتناول بعض الأمثلة؛ ومن ذلك قولهم: خَضْم، وقَضْم؛ فالخضم للأكل الرطب، كالبِطِّيخ والقِثَّاء، وما كان نحوهما من المأكول الرطب، والقضم للصُّلب اليابس؛ يُقال مثلًا: قضمت الدابة شعيرها، ونحو ذلك؛ يقول ابن جني في إيضاح سر الدلالة فيهما: "فاختاروا الحاء لرخاوتها للرطب، والقاف لصلابتها لليابس؛ حَذوًا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث، اختيار الخاء بدلًا من القاف في الأولى لمقتضى المعنى، واختيار القاف بدلًا من الخاء في الثانية لمقتضى الدلالة.
ومن ذلك قولهم: النضح للماء ونحوه، والنضخ أقوى من النضح؛ قال الله تعالى في سورة الرحمن: ﴿ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ﴾ [الرحمن: 66]، للتعبير عن القوة المرادة لدى الله سبحانه وتعالى في المعنى للكلمة على اعتبارها صفة للكلمة السابقة.
اتضح مما تقدم أن الحاء تدل على الرِّقة؛ فجعلوها للماء الضعيف، والخاء لغلظها جعلوها لِما هو أقوى منه، وكل هذا وذاك يفيد إثارة صوت على صوت؛ لِما فيه من قوة على غيره في الكلام المنطوق، وهذا الصوت المفرد في الكلمة له قيمة دلالية تُضفي على المعنى، فقوة الحرف في الكلمة أكسبه معنى القوة والعنف، الذي أثاره هذا الصوت في الكلمة.
والأمر لا يقف عند هذا الحد، بل ثمة ألفاظ تشتمل على أصوات شبيهة بأحداثها التي تعبِّر عنها مع ترتيبها، وتقديم ما يُضاهي آخر الحدث في آخره، وتوسيط ما يناسب أوسطه؛ قال ابن جني: "وذلك قولهم: بحث، فالباء لغلظها تشبه بصوتها خفقة الكف على الأرض، والحاء لصَحَلِها - البحة في الصوت - تشبه مخالب الأسد، وبراثن الذئب، ونحوهما إذا غارت في الأرض، والثاء للنفث، والبث للتراب، وهذا أمر تراه محسوسًا محصَّلًا".
ويقول في قولهم: جرَّ الشيء يجُرُّه: إنهم قدموا الجيم لأنها حرف شديد، وأول الجر بمشقة على الجار والمرور جميعًا، ثم عقبوا ذلك بالراء، وهو حرف مكرر، وكرروها مع ذلك في نفسها؛ وذلك لأن الشيء إذا جُرَّ على الأرض في غالب الأمر اهتز عليها، واضطرب صاعدًا عنها، ونازلًا إليها، وتكرر ذلك منه على ما فيه من التَّعْتَعَة والقلق، فكانت الراء لِما فيها من التكرير، ولأنها أيضًا قد كررت في نفسها في (جرَّ) و(جرَّرت) أوفق لهذا المعنى من جميع الحروف غيرها.
حاول ابن جني أن يوضِّح للقارئ أن الحرف يدل بصوته وحده على معناه مفردًا ومركبًا، وإذا كانت هذه الدلالة موجودة بين الحرف وصوته ومعناه، في الصوت المفرد، ومرتبطة به، فإن هذه الدلالة موجودة مرتبطة أيضًا بين الصيغ ومعانيها، ومن هذا الباب ما جاء في المضعف الثلاثي؛ قال الخليل: "كأنهم توهَّموا في صوت الجُنْدُب استطالة ومدًّا، فقالوا: صرَّ، وتوهموا في صوت البَازِي تقطيعًا، فقالوا: صَرْصَرَ.
فمن هذا المنطلق أعود بالقارئ العزيز ثانية إلى مبدأ الحديث عن قضية الإشكالات في ترجمة هذه الدلالات التي تَمُتُّ بصلتها إلى ذوات الألفاظ في حروفها؛ حيث تتغير تلك الدلالة بتغير الحرف ذاته، أو باختلاف ترتيبه.
ولعل ذلك هو الإعجاز الصوتي العلمي للغة العربية من بين العربيات من ناحية، ولسان القرآن الكريم من ناحية أخرى؛ حيث اختار الله هذه اللغة الدقيقة لكتابه، وفوق هذا فقد أنزله بنفسه، فاختار لغته بنفسه من بين اللغات، وانتقى مباني اللغة من الثروة الهائلة، وجعلها مفردة ومركبة فجاءت ألفاظها منتظمة في النظم (النص)، وأصبح من المستحيل فضلًا عن العسير أن يتحداه؛ ولذلك ما أحد يستطيع أن يصل إلى كُنْهِ المعنى المراد للسان الله جل وعلا، فضلًا عن ترجمتها إلى لغاتٍ ضعيفة المباني مقارنة بالعربية، ومتغايرة في أساسها؛ أي: في نحوها وصرفها، واشتقاقها ودلالتها ومعجمها، من أجل اختلاف ناطقيها، فلا تقوى على الوقوف في وجه عواصف الدهر، بل تتحول من صورة لأخرى من زمان لآخر.
وهذا الإعجاز الصوتي للسان القرآن الكريم له مقاصدُ ومطالبُ، وبخاصة الأصوات المشاكلة للمعنى فيه، وهذا الأمر جَلَلٌ في ذاته، ويحتاج إلى دقة النظر من قِبَلِ القارئ المترجِم، فمواطن الأصوات المشاكلة للمعنى (المترجَمة إلى لغات أخرى) في القرآن الكريم تحتاج للعناية والدراسة، والتحليل والإنتاج والاستنتاج، وهذا لا يتحقق إلا بعد الإحاطة بمقاصد النظم وأبعاضه، واستقراء المعاني والدلالات فيه.