العلم والعمل (1)
الشيخ عبدالله بن جار الله آل جار الله
الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، وصلى الله وسلم على محمد القائل فيما رُوِي عنه: ((طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم))[1].
وبعد، فقد أَوْجَد الله الإنسان وأخرجه من بطن أمِّه لا يعلم شيئًا، وجعل له السمع والبصر والعقل والفؤاد واللسان، وعلَّمه ما لم يكن يعلم؛ كما قال - تعالى -: ﴿ وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78]، وقال - تعالى -: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ ﴾ [الرحمن: 1- 4]، وقال - تعالى -: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1- 5]، وقال - تعالى -: ﴿ أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 8- 10].
وقال في فضل العلماء والمتعلمين: ﴿ هَل يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلبَابِ ﴾ [الزمر: 9]، وقال - تعالى -: ﴿ يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11]، وأمَر نبيَّه أن يسأله الزيادة من العلم؛ فقال - تعالى -: ﴿ وَقُل رَبِّ زِدْنِي عِلمًا ﴾ [طه: 114].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن سَلَكَ طريقًا يبتغي فيه علمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمَن أخذه أخذ بحظٍّ وافر))[2].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن يُرِد الله به خيرًا يفقِّهِّه في الدين))[3]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع))؛ رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وقال الشاعر:
العِلْمُ يَرْفَعُ بَيْتًا لاَ عِمَادَ لَهُ
وَالجَهْلُ يَهْدِمُ بَيْتَ العِزِّ وَالشَّرَفِ
وقال آخر:
اطْلُبِ العِلْمَ وَلَا تَكْسَلْ فَمَا
أَبْعَدَ الخَيْرَ عَلَى أَهْلِ الكَسَلْ
فِي ازْدِيَادِ العِلْمِ إِرْغَامُ العِدَا
وَجَمَالُ العِلْمِ إِصْلاَحُ العَمَلْ
لاَ تَقُلْ قَدْ ذَهَبَتْ أَرْبَابُهُ
كُلُّ مَنْ سَارَ عَلَى الدَّرْبِ وَصَلْ
وَاهْجُرِ النَّوْمَ وَحَصِّلْهُ فَمَنْ
يَعْرِفِ المَطْلُوبَ يَحْقِرْ مَا بَذَلْ
فالعلم حياة والجهل موت، وما يستوي الأحياء والأموات، والعلم نور والجهل ظلمات، وما يستوي الظلمات والنور، والعالم بمنزلة البصير، والجاهل بمنزلة الأعمى: ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ ﴾ [فاطر: 19].
وطلب العلم على قسمين: فرض عين على كلِّ مسلم ومسلمة، وفرض كفاية إذا قام به مَن يكفي سقط الإثم عن الباقين؛ كعلم القضاء والإفتاء، ففرض العين هو الذي تحصل به معرفة الله - سبحانه وتعالى - ومعرفة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ومعرفة دين الإسلام بالأدلة، فمعرفة الله بأنه واحد أحد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وأنه لا إله غيره، ولا رب سواه، وأنه - تعالى - يرانا ويسمعنا، ويعلم سرَّنا وعلانيتنا، وأنه أمرنا ونهانا، وأنه يثيب الطائعين ويعاقب العاصين، والإيمان بالله يتضمَّن محبَّته وخوفه، ورجاءه وطاعته، بامتثال أمره واجتناب نهيه.
ومعرفة نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه عبدٌ لا يُعبَد، ورسول لا يُكذَّب، بل يُطاع ويُتَّبع، شرَّفه الله بالعبودية والرسالة.
وأنه يجب علينا محبَّته وتصديقه، وامتثال أمره واجتناب نهيه، ويجب علينا أن نعرف دين الإسلام بالأدلة من القرآن والسنة، ونعرف ما فيه من أوامر فنمتثلها ونواهٍ فنجتنبها، وفي مقدمة ذلك القيام بأركان الإسلام الخمسة علمًا وعملًا واعتقادًا ودعوة، وأصول الإيمان الستة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، ومعرفة الإحسان؛ وهو: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فإذا عرفنا أولًا ربنا ونبيَّنا وعرفنا دين الإسلام بالأدلة - وجب ثانيًا علينا العمل بهذا العلم، وثالثًا يجب علينا الدعوة إلى الله، ورابعًا يجب علينا أن نصبر على ما يصيبنا في ذلك؛ كما قال - تعالى -: ﴿ وَالعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1- 3]، فأقسم الله في هذه السورة الكريمة أن كلَّ إنسان خاسر إلا مَن اتَّصف بأربع صفات؛ وهي: الإيمان الصادق المُثمِر للعمل الصالح وهو الخالص لله المُوافِق لسنة نبيِّه، ثم التواصي بالحق؛ أي: بما أمر الله به ورسوله، والانتهاء عمَّا نهى عنه ورسوله، والتواصي بالصبر على طاعة الله، والصبر عمَّا حرَّم الله، والصبر على أقدار الله، فدلَّت هذه السورة العظيمة سورة العصر قليلة الألفاظ كثيرة المعاني، دلَّت على وجوب تعلُّم العلم النافع، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى فيه، ودلَّت على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ذلك، وأن مَن فقد هذه العناصر الأربعة التي تضمَّنتها السورة أو فقد بعضها فقد خسر كما دلَّت على ربح وفوز مَن اتَّصف بها، ولهذا قال فيها الإمام الشافعي - رحمه الله -: لو فكَّر الناس فيها لكفَتْهُم.
ودلَّت على وجوب جهاد النفس، وأنه أربع مراتب كما قال الإمام ابن القيِّم - رحمه الله - في "زاد المعاد في هدي خير العباد" صلى الله عليه وسلم:
1- جهادها على تعلُّم الهدى ودين الحق، الذي لا صلاح لها في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين.
2- أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرَّد العلم بدون عمل إن لم يضرها لم ينفعها، فإن اليهود علماء ولم يعملوا بعلمهم فغضب الله عليهم، والنصارى يعبدون الله على جهل وضلال؛ ولهذا شُرِع لنا في دعاء الفاتحة سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم، وأن يجنبنا ربنا طريق اليهود والنصارى المغضوب عليهم والضالين.
3- الثالث من جهاد النفس الذي دلَّت عليه سورة العصر جهادها على الدعوة إلى الله بقوله - تعالى -: ﴿ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ ﴾، وكما قال - تعالى -: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]، وكما قال - تعالى -: ﴿ قُل هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف: 108]، فالدعوة إلى الله هي طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وهي طريقة الخلفاء الراشدين وأتباعهم إلى يوم القيامة، فواجب المتعلم أن يتعلَّم لينقذ نفسه وغيره من زمرة الجاهلين، وواجب العالم أن ينشر علمَه في الناس؛ ليفوز بعظم الأجر، ويَسْلَم من الإثم والوِزْر، ولئلا يقع في الكتمان؛ قال - تعالى -: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ﴾ [آل عمران: 187].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((بلِّغوا عنِّي ولو آية))[4]، ودعا لِمَن بلَّغ فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((نضَّر الله امْرَأً سمع مقالتي فوعاها فأدَّاها كما سمعها، فرُبَّ مبلَّغ أَوْعَى من سامع))[5]، وقال أيضًا: ((مَن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا))[6]، وعكس ذلك مَن دعا إلى ضلالة.
وإذا لم يَقُم العالم بما أوجب الله عليه من العمل بعلمه والدعوة إليه كان من الذين يكتمون ما أنزل الله ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله، وفي الحديث: ((أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه))[7]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله وملائكته وأهل السماوات وأهل الأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت - ليصلُّون على معلِّمي الناس الخير))[8].
وقال الشاعر:
وَكُنْ عَامِلاً بِالعِلْمِ فِيمَا اسْتَطَعْتَهُ
لِيُهْدَى بِكَ المَرْءُ الَّذِي بِكَ يَقْتَدِي
حَرِيصًا عَلَى نَفْعِ الوَرَى وَهُدَاهُمُ
تَنَلْ كُلَّ خَيْرٍ فِي نَعِيمٍ مُؤَبَّدِ
4- أن يجاهد نفسه على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله وأذى الخلق في سبيل دعوته.
فإذا استكمل المسلم هذه المراتب الأربع التي هي: العلم، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى فيه - كان من الربانيين؛ قال - تعالى -: ﴿ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آل عمران: 79]، فمَن علم وعمل وعلَّم فذلك يُدعَى عظيمًا في ملكوت السماء[9].
============================== =====
[1] رواه الطبراني وغيره ورمز السيوطي لصحَّته.
[2] رواه أبو داود والترمذي وأصله في مسلم.
[3] متفق عليه.
[4] رواه البخاري.
[5] رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
[6] رواه مسلم وغيره.
[7] رواه الطبراني والبيهقي وابن عدي، وضعَّفه السيوطي والمنذري قال المناوي: وله أصل أصيل عند الحاكم في "المستدرك".
[8] رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
[9] انظر: "زاد المعاد في هدي خير العباد"؛ لابن القيِّم (ج2/ 106، 107).