تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: وقفات مع حديث الشفاعة العظمى

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي وقفات مع حديث الشفاعة العظمى

    وقفات مع حديث الشفاعة العظمى (1)





    كتبه/ محمد سعيد الشحات

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فنحن بين يدي مشهدٍ من مشاهد يوم القيامة؛ وهو مشهدُ "الشفاعةِ العُظمى" لبدء الحساب، ونتناول هذا المشهد من خلال حديث الشفاعة الطويل، وسنقفُ -بإذن الله- وَقفَاتٍ يسيرة مع عبارات هذا المشهد حتى تتمَّ الفائدة.

    ففي الصحيحين عَن أَبِي هُرَيرَةَ -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ فَنَهَشَ مِنْهَا نَهْشَةً، ثُمَّ قَالَ: (أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ مِمَّ ذَلِكَ؟) قال: (يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ البَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الغَمِّ وَالكَرْبِ مَا لاَ يُطِيقُونَ وَلاَ يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ النَّاسُ: أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ، أَلاَ تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟)، وفي روايةٍ: (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ).

    ففي هذا الموقف في ساحة الحساب يجمع الله الأولين والآخرين كلهم، لا يغيب منهم أحد، ولا يتخلَّف منهم أحد، ولا ينسى منهم أحد: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا . لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا . وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) (مريم: 93-95)، فالله -عز وجل- يُبصرهم ويسمع ما يقولون، لا يخفى عليه من ذلك شيء: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) (الحاقة: 18).

    وفي هذا الموقف الرَّهيب يكون الناس في كرب عظيم؛ فالشمس تقترب من الناس، فيبلغ بهم الكرب والغم أعلاه، ويأتيهم ما لا يطيقون، وقد فصَّل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ما يصيب الناس من كَربٍ في حديث آخر؛ فقال: (تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا) (رواه مسلم).

    وعندما ينظر الناس إلى ما هم فيه من البلاء والغمِّ والكرب، يقول الناس بعضهم لبعضٍ: (أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ، أَلاَ تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟) (متفق عليه)، وفي رواية: (يَقُولُونَ: لَو اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا) (رواه البخاري)، ورُوي عن قتادة في قوله: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، قال: "يقومون مقدار ثلاثمائة عام"، أي: قبل بدء الحساب يوم عصيب، كما قال الحسن: "ما ظنك بأقوام قاموا لله -عز وجل- على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة، لم يأكلوا فيها أكلة، ولم يشربوا فيها شربة".

    وهنا تتجه الأنظار إلى الأخيار من البشر الذين لهم المقامات العاليات عند الله، وفي مقدمتهم سادة الرسل والأنبياء، أمَّا المتجبرون والمتكبرون في الدنيا من أصحاب المال والجاه، والملك والسلطان: كفرعون وهامان، وقارون، ونمرود، وجنكيزخان وأمثالهم، فلا يُلتفت إليهم ولا يُذكرون؛ لأنهم يحشرون في صورة مهينةٍ ذليلةٍ؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُون َ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ *الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الخَبَالِ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني). والذرُّ: صغارُ النمل، وصغار النمل لا يعبأ به الناس؛ فيطؤونه بأرجلهم وهم لا يشعرون.

    قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: عَلَيْكُمْ بِآدَمَ) (رواه البخاري)، وفي روايةٍ: (يَأْتِي الْمُؤْمِنُونَ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، فالذي يطلب الشفاعة من الرسل هم المؤمنون من بين جميع الناس؛ لأن المؤمنين هم أهل العقل والفهم الصحيح، وأما الكفار فقد كفروا بالرسل؛ فكيف يأتون إليهم؟!

    وللحديث بقية -إن شاء الله-.



  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: وقفات مع حديث الشفاعة العظمى



    وقفات مع حديث الشفاعة العظمى (2)









    كتبه/ محمد سعيد الشحات

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    موقف آدم -عليه السلام-:

    قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: عَلَيْكُمْ بِآدَمَ، فَيَأتُونَ آدَمَ -عليه السلام- فَيَقُولُونَ لَهُ: أَنتَ أَبُو البَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلاَئِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ: فَإِنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ).

    فأول مَن يقصده الناس أبوهم آدم -عليه السلام-، فيأتونه طالبين منه أن يشفع إلى الله -عز وجل- لمحاسبة العباد والفصل بينهم، ويذكرون له المؤهلات التي تؤهله لهذا المقام؛ فهو: (أبو البشر - خلقه الله بيده - نفخ فيه من روحه - أسكنه الجنة - أسجد له ملائكته - علَّمه أسماء كل شيء)؛ فهم يهيجونه ويشجعونه ليشفع لهم عند الله لبدء الحساب.

    فاعتذر لهم آدم -عليه السلام-، وذكر لهم أسباب عدم استطاعته، فقال: (إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ). وفي روايةٍ لمسلم: أنهم يذكِّرونه بأنهم أبناؤه، فيقولون له: (يَا أَبَانَا، اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ). وفي رواية: (فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ -أي: لستُ أهلاً لذلك-، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ: أَكْلَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا)؛ فقد نهاهُ الله -عز وجل- أن يأكل من الشجرة: (وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)؛ ولكن عدوهما الشيطان وسوس لهما، وقاسمهما أنه ناصح لهما؛ فغرهما ونسي آدم ما عاهد عليه رَّبهُ وأكل من الشجرة؛ فعُوقب بأن أُخرج من الجنة إلى الأرض لحكمة يريدها الله -عز وجل-.


    وعلى الرغم من أنه تاب من خطيئته، وتاب الله عليه وغفر له؛ إلا أنه من خشيته وانكساره وحيائه لم يستطع أن يشفع لهم، كما في رواية ابن حبان: (فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَهَا؛ فَيَسْتَحْيِي مِنْ رَبِّهِ مِنْهَا).

    ثم يقول لهم آدم -عليه السلام-: (نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي)، وفي روايةٍ: (لا يُهِمُّنِي اليَومَ إِلَّا نَفْسِي)، أي: يكفيني اليوم أن أنجوَ بنفسي؛ ولكنه مع ذلك دلَّهم على نوحٍ -عليه السلام- لعلَّه يستطيع أن يشفع لهم عند الله -عز وجل-، فقال: (اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ: فَإِنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ)، وفي رواية البزار: (عَلَيْكُمْ بِنُوحٍ؛ فَإِنَّهُ أَوَّلُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَكْبَرُهُمْ)، وفي روايةٍ في المسند: (وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا رَأْسَ النَّبِيِّينَ).

    وللحديث بقية -إن شاء الله-.




  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: وقفات مع حديث الشفاعة العظمى

    وقفات مع حديث الشفاعة العظمى (3) موقف نوح -عليه السلام-






    كتبه/ محمد سعيد الشحات

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فقد قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (فَيَأتُونَ نُوحًا، فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، إِنَّكَ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ، وَقَدْ سَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُهَا عَلَى قَوْمِي، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ؛ فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ) (متفق عليه).

    يذهب الناس إلى نوحٍ -عليه السلام- لعلَّ الفَرَجَ يكون على يديه؛ فيطلبون منه أن يشفع إلى الله -عز وجل- لبدء الحساب، ويذكرون له المؤهلات التي تؤهله لهذا المقام، فهو:

    - أول الرسل إلى أهل الأرض: فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ، فَلَمَّا اخْتَلَفُوا بَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِين َ، وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ، فَكَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً" (رواه الحاكم، وصححه الألباني)، وللبخاري عنه في قوله -تعالى-: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) (نوح: 23)، قال: "أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ؛ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ: أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ، وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ".

    - سمَّاه الله عبدًا شكورًا: كما قال -تعالى-: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) (الإسراء:3)، فهم يشجعونه ليشفع لهم عند الله لبدء الحساب؛ فاعتذر لهم نوح -عليه السلام-، وذكر لهم أسباب عدم استطاعته، فقال: (إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعوَةٌ دَعَوتُهَا عَلَى قَومِي)، وفي رواية: (وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ: سُؤَالَهُ رَبَّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ).

    فيحتمل أن يكون اعتذر بأمرين:

    الأول: أنه استوفى دعوته المستجابة؛ لأنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ دَعَا بِهَا فِي أُمَّتِهِ، فَاسْتُجِيبَ لَهُ إلا النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فقد أخَّر دَعوَتهُ شَفَاعَةً لأُمَّته يَومَ الْقِيَامَةِ، فنوحٌ -عليه السلام- قد دعا دعوته وجعلها على قومه، وهي التي أغرق الله بها الأرض: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) (نوح: 26).


    والثاني: سُؤَالُهُ رَبَّهُ بِغَيرِ عِلمٍ، وذلك لَمَّا غرق ولده ولم يركب معه في السفينة: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ . قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ . قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (هود: 45-47).

    ثم قال لهم نوحٌ -عليه السلام-: (نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي)، وفي روايةٍ: (لا يُهِمُّنِي اليَومَ إِلَّا نَفْسِي)، أي: يكفيني اليوم أن أنجوَ بنفسي، ولكنه مع ذلك دلَّهم على إبراهيم -عليه السلام-، فقال: "اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ؛ فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ".

    وللحديث بقية -إن شاء الله-.



  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: وقفات مع حديث الشفاعة العظمى

    وقفات مع حديث الشفاعة العظمى (4) موقف إبراهيم -عليه السلام-



    كتبه/ محمد سعيد الشحات

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فقد قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (فَيَأتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَنتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، اشفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَدْ كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى: فَإِنَّهُ عَبْدٌ آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ، وَكَلَّمَهُ، وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا)، وفي رواية: (وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ).

    يذهبون إلى إبراهيم -عليه السلام- لعلَّ الفَرَجَ يكون على يديه؛ فيطلبون منه أن يشفع إلى الله -عز وجل- لبدء الحساب، ويذكرون له المؤهلات التي تؤهله لهذا المقام، فهو: "خليلُ الرحمن"، كما قال تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (النساء: 125)، والخُلة أعلى أنواع المحبة، وهذه المرتبة حصلت للخليلين محمد وإبراهيم -عليهما الصلاة والسلام-، وأما المحبة من الله فهي لعموم المؤمنين، وإنما اتخذ الله إبراهيم خليلًا؛ لأنه وفَّى بما أُمر به؛ فجعله الله إمامًا للناس واتخذه خليلًا.

    ومع ذلك اعتذر لهم إبراهيم -عليه السلام-، وذكر لهم الأسباب، فقال: (إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَدْ كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ).

    وقد بيَّن النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- هذه الكَذَبَات الثلاث، فقال: (لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ -عليه السلام- إِلَّا ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ، ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ -عز وجل--أي لأجله-، قَوْلُهُ: (إِنِّي سَقِيمٌ)، وَقَوْلُهُ: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا)، وَوَاحِدَةٌ فِي شَأنِ سَارَةَ، وَهي قَولُهُ لامْرَأَتِهِ حِينَ أَتَى عَلَى الْمَلِكِ: إِنَّهَا أُخْتِي) (متفق عليه).

    وهذه الثلاث ليست كذبًا في حقيقة الأمر؛ لأنها من المعاريض، وحتى لو كانت كذبًا لكانت جائزة؛ لأنَّ الشرع أذِن في مثل ذلك، وهذه الكذَبَات الثلاث هي:

    الأولى: قَولُهُ: (إِنِّي سَقِيمٌ): أي مريض، وذلك بعدما نظر في النجوم والكواكب التي كانوا يعبدونها مع الأصنام، قال ذلك لقومه حتى لا يخرج معهم في يوم عيدهم خارج البلد ويبقى ليُكسِّر الأصنام، بعد ما خلا مكان الأصنام من الحراس والزوَّار.

    الثانية: قَولُهُ: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا): قالها لهم عندما كسَّر أصنامهم، كما قال تعالى عنهم: (قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ . قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ . قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ . قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ)؛ فأشار إلى إصبعه نحو الصنم الكبير الذي علَّق به الفأس قائلًا: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا)، وَوَرَّى بإصبعه تحاشيًا للكذب، أو أنه ذكر ذلك على سبيل التحدي لهؤلاء الذين يعبدون الأوثان.

    الثالثة: فِي شَأنِ سَارَةَ، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (قَدِمَ إِبْرَاهِيمُ أَرْضَ جَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ، وَكَانَتْ أَحْسَنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبْ عَلَيْكِ؛ فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي، فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الإِسْلاَمِ؛ فَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ فِي الأَرْضِ مُسْلِمًا غَيْرِى وَغَيْرَكِ...)، وفي رواية في المسند: (فَإِنِّي مُخْبِرُهُ أَنَّكِ أُخْتِي).

    ففي الحقيقة: أنَّ هذه الأمور ليست من الكذب المحرم؛ لكنه لشدة ورعه وحيائه وخشيته من ربِّه اعتذر لهم بها، كما في رواية ابن حبان: (فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ؛ فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا)، وفي روايةٍ لمسلم: أنَّ إبراهيم -عليه السلام- قال لهم: (إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلاً مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ)، أي: من وراء حجاب، أمَّا اليوم فنحن نقفُ عَيانًا أمام الجبار -عز وجل-، وهذه الكلمة: (مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ) تذكر على سبيل التواضع، أي: لستُ بتلك الدرجة الرفيعة.

    ثم يقول لهم إبراهيم -عليه السلام-: (نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي)، وفي روايةٍ: (لا يُهِمُّنِي اليَومَ إِلَّا نَفْسِي)؛ ولكنه مع ذلك دلَّهم على موسى -عليه السلام- لعلَّه يستطيع أن يشفع لهم عند الله -عز وجل-.

    وللحديث بقية -إن شاء الله-.



الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •