دور الدعاة في مواجهة أزمة العقلانية



شريف عبدالعزيز



لا أعلم قضية معاصرة عانت من تطرف متناوليها مثل قضية العقلانية وما يتعلق بدور العقل البشري في بناء منظومة معلوماتية كاملة ومتسقة، فقد ظُلم العقل من قبل أعدائه ومناصريه على حد السواء، ظُلم من قبل المشعوذين والدجالين الذين ألغوا دور العقل بالكلية وعطلوه عن العمل حتى في أبسط الأمور، وظُلم من قبل الفلاسفة الذين حرموا نور الهداية فعبدوه وألّهوه، وامتطوه للخوض في أمور لا يحسن فهمها ولا إدراكها، فجاءوا بالطوام والمهلكات. ودعاة الإسلام وعلماؤه هم أجدر الناس على فض هذا الاشتباك وحل هذا الإشكال بتنظيم وترشيد وتفعيل الدور الحقيقي والأمثل للعقل البشري بحيث يوضع على مضماره السليم ويعمل في مجاله الصحيح.
لقد جاء الإسلام وأشرقت أنواره على البشرية وهي ترفل في ظلمات بعضها فوق بعض، والعقل البشري في أحلك ظروفه وأسوأ أوضاعه، فغالبية البشرية قد ألغت عقلها وسلمت نفسها للكهنة والدجالين والسحرة يسيطرون عليهم ويتحكمون في كل مناحي حياتهم، مستخدمين الخرافات والدجل والسحر، في حين البقية القليلة الباقية آثرت أن تواجه الشطط بشطط مقابل له تمثل في تقديس العقل وذلك على يد الفلاسفة الذين ظنوا أن اليقين والمعرفة لها طريق واحد هو طريق العقل، وبين هذا الشطط وذاك ضاعت ماهية العقل الصحيح، حتى جاء الإسلام وأعاد للعقل دوره ووضعه على مساره القويم.
ولكن مع توسع حركة الفتح الإسلامي، ودخول شعوب وأمم جديدة في الإسلام مع ما تحمله من موروثات ثقافية وتصورات عقلية عن الكون والحياة، حدث تغير في التركيبة البنيوية للعقل البشري، وبدأت هذه الثقافات تتسرب للحياة الثقافية الإسلامية وانتشرت على يد بعض الفرق الضالة في الإسلام وخاصة فرقة المعتزلة التي كانت تقدم العقل على النقل وتبالغ في تعظيمه وتقديسه، ومما ساعد أيضا على انتشار هذه الثقافات حالة النشاط الفكري في القرن الثالث الهجري التي أعقبت بناء بيت الحكمة في عهد الخليفة المأمون العباسي الذي أمر بترجمة كتب اليونان والهند وخاصة كتب الطب والفلسفة، ولما أصبحت الدولة واقعة تحت تأثير الفكر الاعتزالي راج سوق هذه الثقافات والأفكار بصورة كبيرة، واستعمل المعتزلة سلطان الخلافة لإجبار الناس على اعتناق هذا الفكر، وكانت محنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ونشأ ما عرف تاريخيا بعلم الكلام بديلا عن علم العقيدة، ونشبت معارك كلامية عنيفة بين أهل السنة وأرباب الثقافات الأخرى، ولكن مع مرور الزمان اندرست هذه الثقافات والفرق الضالة الفلسفية كتنظيمات قائمة، ولكن بقيت أصولها العقلية ومبادئها الفكرية، ومن أهمها تقديس العقل وتقديمه على النقل.
ومع دخول العصر الحديث التقت أفكار العلمانيين في أوروبا مع موروثات تقديم العقل على النقل عند المسلمين فنشأت خلطة العقلانية في أسوأ تجلياتها، بحيث أصبحت أزمة عصية من أزمات البشرية في عصر سيطرة المادة وهيمنة القيم الاستهلاكية، ذلك أن دعاة العقلانية قد شنوا حملات منظمة وعاتية ضد الدين والمتدينين وحاولوا تفتيت مرجعية الوحي وسلب قدسية القرآن واختزاله بأساليب عديدة.
وعلى الدعاة لدين الله عز وجل بما لهم من اتصال بشتى شرائح المجتمع مسئولية فضح هؤلاء المعتزلة الجدد الذين يستغلون توافر العديد من المنابر تحت أيديهم لنشر هذا الفكر الخطير، وعلى الدعاة التركيز في خطابهم الدعوي على عدة أمور توضح حقيقة العقل البشري ومركزه في الإسلام، من هذه الأمور:
أولا: محدودية حاسة العقل البشري، فالعقل حاسة من ضمن حواس البشر لها حدود ومجال تتحرك فيه وتحسن فيه توظيف قدراتها، مثل السمع والبصر واللمس إلى آخر هذه الحواس، والعقل مرتبط بما تنقله له باقي الحواس للوصول لمعرفة الأشياء المجهولة، فالعقل أشبه بجهاز استقبال المعلومات وتحليلها وتقييمها، وهذا يعني أن العقل لا يحسن الخوض في أمور لا تتوافر له فيها معلومات كافية، لذلك نجد أن العقل عاجز مثلا عن إدراك أو تفسير ماهية الخلق ولماذا خلقوا، وكيفية عمل القضاء والقدر، وسائر الغيبيات، كما أنه يعجز عن وضع تشريعات تراعي مصالح الناس على اختلافهم وكثرة حاجاتهم وتوالي عصورهم، دون أن يقع منه حيف وجور على طائفة منهم، كما أنه يسهل خداعه جدا إذا ما تم تزويده بمعلومات خاطئة؛ لأنه سيؤدي إلى نتائج واستنتاجات خاطئة، فالخلاصة كون العقل حاسة بشرية يجعله في النهاية مهما كان ألمعيا أو متقدما أو قادرا على التعامل مع الكم الكبير من المعلومات، بشريته تجعله قاصرا عاجزا عن التعامل مع الكيف والصفات.
ثانيا: تأثير البيئة المعرفية على العقل البشري؛ فالعقل ليس كيانا مستقلا بذاته معزولا عن البيئة المعلوماتية السائدة بمشاكلها وقضاياها المعاصرة، بل ثمة تأثير كبير لهذه البيئة على طريقة أداء العقل وعمله وتعامله مع المعطيات والبيانات المعرفية، مما يجعل العقل يتأثر بضغوط هذه البيئة وتوجهاتها ومزاجاتها السائدة، وهذه الأمور تجعل العقل يتراجع كثيرا عن مواقفه وآرائه ومقولاته، وهذا مشاهد بكثرة عبر التاريخ القديم والحديث؛ فكم من مفكر وعبقري رجع عن آرائه وأطروحاته، وخاصة الفلاسفة مثل الأشعري والرازي والغزالي والجويني وغيرهم كثير ممن رجع عن تقديم العقل وتعظيمه على النقل، وهذا الرجوع والاضطراب في عمل العقل البشري يجعله غير مؤهلا لقيادة شئون الحياة، وعندما قاد العقل البشرية هوى بها إلى مزالقَ كبرى وحروب عالمية ودمار وخراب لأسباب واهية، بل إن إبداعات العقل قد أوجدت مشاكل كثيرة عجز البشر عن حلها حتى اليوم، مثل قضية تلوث البيئة ومخلفات وأضرار الطاقة النووية، وسيطرة الآلة على حياة الناس، أضف إلى ذلك فشل العقل البشري عن حل كثيرا من مشاكل البشر المعاصرة مثل مشكلة الإدمان بأنواعه الكثيرة.
ثالثا: العقل البشري عاجز عن عدة أمور لا تستغني عنها البشرية بحال، فهو عاجز عن تحقيق اليقين والطمأنينة التي تشرح الصدور وتهدئ النفوس وتسكب السكينة في الأرواح، والفلاسفة الذين هم أكثر الناس استخداما لعقولهم من أجل الوصول الحقيقة المطلقة واليقين التام عجزوا جميعا عن الوصول لهذا المطلب الغالي وفشلوا في تقديم الدواء المناسب لحاجات النفوس والقلوب، في حين أن الدين والوحي تقدم وبسهولة ويسر الأطر الواسعة والشاملة لليقين والمعرفة، وترشد البشرية لما فيه صلاحها واطمئنان قلوبها.
أيضا العقل البشري عاجز عن التنبؤ الدقيق بمآلات المستقبل وبلورة رؤية شاملة للكون تُعرفنا بُنْيَتَهُ وعناصره ونواميسه، والغرب منشغل بهذه القضية كثيرا، والمعامل الأمريكية والأوروبية تجتهد من أجل معرفة هذا السر العظيم الذي اختص الله عز وجل به نفسه -الغيب- وقد أجرت أوروبا تجربة الانفجار العظيم وأنفقت عليه عدة مليارات لمعرفة كيفية بدء الخليقة -يعني معرفة الماضي- ولكنها لم تصل لشيء وأنفقت ملياراتها هباء منثورا، في حين أن الوحي أخبرنا بقصة بداية الخليقة بتفاصيلها الكاملة في آيات معدودات، فيا لحيرة البشرية حين تترك وحي السماء المعصوم وتلجأ إلى العقل المحدود ليجيب على هذه التساؤلات.
رابعا: ضعف العقل البشري تجاه غزوات الثقافات الشعبية، بحيث نجد أن العقل -عند كثير من الناس- يتورط في قبول الخرافات وترويجها؛ فكيف له إذاً أن يقيم الأمور ويقود شئون الحياة، فالعقل البشري يتقبل الأخبار والمعلومات ما دامت في دائرة معقولاته، فإذا خرجت من هذه الدائرة فإنه يرفضها ويردها، وهنا تبرز المشكلة الكبيرة للعقل البشري، أن دائرة المعقولات متباينة عند البشر، فما يرفضه عقل ما في بيئة ما قد يقبله عقل آخر في بيئة أخرى، اعتمادا على تباين الخبرات والأنظار ورؤية الحوادث، مما يجعل الخرافة تتسرب كثيرا في هذه التباينات بين معقولات البشر لتحتل مكانة مرموقة في التركيبة البنيوية للعقل البشري.

ومن خلال هذه المحاور الرئيسية لطبيعة وآلية عمل العقل البشري نستطيع أن نتعرف على موضع الداء في أزمة العقلانية التي أوجدت صداما عنيفا عند كثير من مثقفينا خاصة الشباب منهم؛ فالإسلام ليس دينا متصادما مع العقل أو لاغيا له، بل هو حاكما له بالأصول والمبادئ المعصومة، وإن تفويض كل شئون الحياة للعقل وأربابه يشتمل على مخاطر كبرى للبشرية، ومخاطر ليس لها حل سوى بالرجوع بالعقل إلى وظيفته الأصلية في التفاعل والإنتاج والحركة في إطار ومسلمات الوحي التي تمتلك الحقيقة المطلقة عن الكون والحياة من البداية إلى النهاية.