الهجرة
الشيخ: مجد مكي
لماذا هَاجَرَ رسولُ الله من مكة المكرمة؟:
أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر وبضعة أيام، لم ينقطع يوماً من الأيام عن تبليغ رسالته، والدعوة إلى عبادة الله وحده، ومع ما بذله من جهود، وما صبر عليه من أذى وشدة، وما سلكه من سبيل الحكمة، لم تنجح دعوتُه بمكة، ولم تلق من أهلها إلا إعراضاً وإباءً واستكباراً.
ولم يقفوا عند حدِّ الإعراض عنها، بل جاوزوه إلى مقاومتها، ووضع العقبات في سبيلها، وحاولوا وَأْدَها في مهدها، والقضاء عليها بشتى الوسائل.
لجؤوا أولاً إلى وسائل الإغراء والمساومة فقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: إن كنت تريد مالاً جمعنا لك المال الوفير فصرت أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد السيادة والملك نادينا بك سيدنا ومليكنا، ولكن هيهات أن تغري هذه المساومات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو إنما يبلغ رسالة ربه، ويدعو إلى توحيده، ولا يبتغي بما يدعو بديلاً، ولهذا كان جوابه: (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أرجع عما أدعو إليه ما رجعت).
لجؤوا بعد هذا إلى وسائل العنف والشدة، وأخذوا في إيذاء الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ومن آمن به بألوان شتى من الأذى، فسلَّطوا عليهم أيديهم وألسنتهم وكل ما استطاعوا من قوى شرهم وبغيهم، فلم يسلم من أذاهم أحد من المؤمنين في نفس ولا عرض ولا مال.
شهَّروا بالرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم بكل أنواع التشهير، [وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ] {الحجر:6}. وقالوا: [شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ] {الطُّور:30}.، ولم يتركوا مقالة سوء إلا آذوا بها الرسول ومن آمن به.
وكما أسرفوا في التشهير أسرفوا في التعذيب، فعقبة بن أبي معيط قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فخنقه بردائه واشتد يريد قتله لولا أن دفعه عنه أبو بكر رضي الله عنه.
وأمية بن خلف صهر دروع الحديد على بلال، وكان يلقيه في الرمضاء في حرِّ الشمس وعلى صدره الأحجار.
وياسر بن عامر، وزوجته سمية وولدهما عمار، وعبد الله رضي الله عنهم كان يمرُّ بهم رسول الله وهم يسامون العذاب فيقول لهم: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة.
وبلغ بهم أن قاطعوا بني هاشم جميعهم وتركوهم في شعبهم في عزلة لا يعاملهم أحد، ولا يتعاون معهم أحد، حتى كانت أيام جهد ومشقةٍ على قوم الرسول صلى الله عليه وسلم بني هاشم.
ويطول المقام بنا إذا عددنا ضروب المحن، وأنواع العذاب التي ابتلي بها الرسول صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه في مكة المكرمة، وقد كانت بلا ريب محناً قاسية، وبلايا شديدة، تضعف أمامها أقوى العزائم، وينفد من عنفها صبرُ الصبور، ولكنها ما أوهنت من عزيمة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا زلزلت من ثباته، ولا فتنت أحداً ممن آمنوا به، فما رجع أحد عن إيمانه، ولا ارتاب مؤمن في عقيدته، بل ازدادوا بالشدائد إيماناً على إيمانهم، واستعذبوا العذاب في سبيل دينهم.
لما رأى مشركو مكة أنه لم تنجح للقضاء على الدعوة المحمدية وسائل الزلفى والإغراء، والمساومة، ولا وسائل الإيذاء والتعذيب والمقاطعة، ورأوا أن أتباع محمد يزيدون ولا ينقصون، لجؤوا إلى آخر وسيلة يلجأ إليها المدعو لإفساد نفس الداعي والفت من عضده، وتلك هي أن ييئسوه ويقنطوه ويقطعوا أسباب الأمل في استجابتهم لدعوته، ولذلك صارحوا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن لا رجاء في استجابتهم، ولا أمل في أن يعيروه أذناً صاغية، أو قلباً واعياً:[وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ] {فصِّلت:5}. [وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] {الأنفال:32}.
ماذا يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه البيئة الفاسدة، وإزاء هذه النفوس العنيدة المتمردة، وأمام تلك القلوب المتحجرة. هل يترك الشجرة الطيبة في هذا الجو الفاسد فلا تنمو ولا تؤتي ثمرها؟ وهل يستمر على بذر البذر الصالح في هذه الأرض السبخة فلا ينبت الزرع ويضيع مجهود الزارع سدى، أو يلتمس جواً غير هذا الجو، وأرضاً غير هذه الأرض لأنه واثق أن شجرته طيبة، وأن بذوره من أنقى البذور وأصلحها؟
وهذا ما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد عزم أن يولي وجهه بلداً غير مكة، ويلتمس لدعوته ناساً غير قريش.
والزارع الواثق بجودة بذره وطريق زراعته لا ييأس إذا فشلت تجربته في أرضه بل ينشد النجاح في أرض أخرى من أرض الله الواسعة.
والقائد الواثق من قوة جنده وكمال عدده، إذا لم ينجح في ميدان يلتمس ميداناً آخر.
فما كانت هجرة الرسول من مكة فراراً من الكفاح في سبيل الدعوة، ولا وهناً ولا ضعفاً أمام المحن والشدائد، ولا نكوصاً وتراجعاً عن احتمال المتاعب، وإنما كانت تخيراً لموقف النجاح، والتماساً للتربة الطيبة، ونقلاً للجهاد من ميدان إلى ميدان، بل كانت دروساً في التضحية وانتصاراً للإرادة القوية والعزيمة الصادقة، والمخاطرة الجريئة وثقة بالله وبالمستقبل والنجاح.
لماذا كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يثرب؟
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وَهَلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب).
من عجيب سنن الله في خلقه أن الشر قد ينتج الخير، وأنَّ المكاره قد تؤدي إلى المغانم، وأن الأجسام ربما صَحَّت بالعلل.
كان بيثرب قبيلتان من قبائل العرب من نصارى نجران هما الأوس والخزرج، وعلى ما كان بين القبيلتين من صلة القربى كانت نار العداوة بينهم لا تنطفئ، ورحى الحرب فيهم لا تقف، وكانت الخزرج أكثر من الأوس عدداً، وأقوى عدة، ففكرت الأوس في أن يرسلوا وفداً منهم إلى مكة ليفاوضوا قريشاً لعقد مُحَالفة بينهم يقوى بها جانبهم، ويستعينون بها على حرب الخزرج، واختاروا نفراً وَفَد إلى مكة لهذه الغاية، وما كان يعلم إلا الله أن هذا وفد الإخاء والسلام، لا وفد العداء والخصام، وأنَّ خطواته إلى الهدى والنور لا إلى الفتن والشرور.
وصل هذا الوفد الأوسي إلى مكة في الوقت الذي صَحَّت فيه عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يلتمس لدعوته غير قريش، ويولي وجهه قبائل أخرى من العرب، فدعا ثقيفاً بالطائف فردوه أسوأ ردٍّ، وأغروا به سفهاءهم وصبيتهم يرمونه بالحصى حتى عاد مخضبةً قدماه بالدم.
ودعا وفوداً من فزارة وغسان ومحارب وغيرهم، فلم يستجيبوا لدعوته، ولم يسلم من أذاهم.
فلما علم بمقدم الوفد الأوسي لقيهم، ولما عرف من حديثهم ما جاؤوا من أجله قال لهم: هل لكم في خير مما جئتم له؟ قالوا: وما هو؟ فدعاهم إلى الإيمان بالله وحده، وحدثهم عن رسالته وما يدعو إليه، وتلا عليهم آيات من القرآن الكريم.
وقد لمح الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الوفد آيات تؤذن بالخير، وبأن الدعوة أوشكت أن تصادف بيئتها الصالحة، فقد رقَّ قلب أحدهم: إياس بن معاذ لما سمعه، وقال: يا قوم هذا والله خير مما جئتم به، ولكن أحدهم قال لسائرهم: لقد جئنا لغير هذا. وانصرفوا عائدين إلى المدينة بعد جلسة مع الرسول صلى الله عليه وسلم كانت قصيرة الزمن، ولكنها عظيمة الأثر، فقد خلَّفت أثرين حميدين: خلَّفت في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم أنه توسَّم النجاح، ولمح الفجر الصادق، واهتدى إلى ضالته التي ينشدها، وخلصت في نفس الوفد أن هذا الذي حدثهم به محمد خير مما جاؤوا له، وأن ما يدعو إليه حقيق أن يستجاب له.
ولما عادوا إلى المدينة كان حديثهم بشأن محمد صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه وما سمعوا من القرآن الكريم , وسرى هذا الحديث في أنحاء المدينة سريان الكهرباء.
وفي الموسم التالي وفد إلى مكة وفد من الخزرج، فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بمقدم هذا الوفد الخزرجي لقيهم، ودعاهم إلى ما يدعو إليه، وتلا عليهم آيات من القرآن، فرقت أفئدة هؤلاء الخزرجيين لما سمعوا، وشرح الله صدورهم لإجابة الدعوة.
ولما أجابوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما دعاهم إليه صارحوه بأنهم تركوا قومهم بيثرب تأكلهم نار العداوة والبغضاء، وأنهم يرجون أن يجمعهم الله بك، وأن يؤلف قلوبهم بدعوتك.
عاد هذا الوفد إلى المدينة المنورة بالإيمان والهدى والنور، وانصرفوا عن حديث العداوة بينهم وبين الأوس إلى الحديث عن الدعوة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فأخذوا يبشِّرون بها، ويرددون ما سمعوا من آيات، حتى لم يبق دار بالمدينة من دور الأوس والخزرج إلا وفيها حديث عن محمد وما يدعو إليه.
وفي الموسم التالي ـ وقد كان قبل الهجرة بسنة وشهور ـ وفد إلى مكة وفدٌ من الأوس والخزرج معاً، عدتهم اثنا عشر رجلاً، فلقيهم الرسول صلى الله عليه وسلم عند جمرة العقبة، وبايعوه على التوحيد والإسلام والطاعة وسائر ما جاء في قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {الممتحنة:12}.
ولهذا سمى المؤرخون بيعة جمرة العقبة: بيعة النساء.
ولما تمت هذه المبايعة وعزموا على العودة إلى المدينة المنورة، بعث معهم الرسول صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه يقرئهم آيات القرآن، ويعلمهم أحكام الإسلام، ولم يبق دار من دور الأوس والخزرج إلا وفيها رجال مسلمون ونساء مسلمات، فكانت عودة هذا الوفد وعودة مصعب معهم أساس النجاح للدعوة في المدينة المنورة.
وفي الموسم التالي ـ وقد كان قبل الهجرة بشهور ـ وفد من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة مصعب بن عمير ومعه من مسلمي الأوس والخزرج ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان رضي الله عنهم جميعاً، ومعهم نفر ممن لم يسلموا وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن موعد لقائهم ليلاً في أوسط أيام التشريق عند جمرة العقبة، فالتقى بهم رسول الله في الوعد، وفي هذا اللقاء تبادل الرسول صلى الله عليه وسلم ووفد الأوس والخزرج تصريحات ساطعة قاطعة زادت الرسول صلى الله عليه وسلم ثقة وطمأنينة أن هؤلاء هم أنصاره وأن أرضهم هي المنبت الطيب لدعوته.
ونص المبايعة: (أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ـ فبايعوه على ذلك ـ وعلى السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول الحق، وألا يخافوا في الله لومة لائم).
وزادت الوفد ثقة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم اتخذهم قومه وحلفاءه في حربهم وسلمهم، وصارحهم الرسول أنه يريد أن يعاهدوه على أن ينصروه ويؤازروه ويحموه مما يحمون منه أبناءهم وأعراضهم.
فقال الناطق بلسانهم من الخزرج: يا رسول الله خذ لنفسك ولربك ما أحببت، وصارحوا الرسول بأنهم قاطعوا ما بينهم وبين يهود يثرب من عهود، ومؤثرون في حلفه على كل حلف، ولهذا أرادوا أن يعاهدهم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن لا يدعهم ولا يرجع إلى قومه إذا أظهره الله وكتب له النجاح، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (بل الدم الدم، والهدم الهدم، أي: أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم).
على أثر هذه المقابلة وتبادل هذه المعاهدة الصريحة، صحَّت عزيمة الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يهاجر من مكة إلى المدينة، وأخبر الأنصار أنه بعد أن يأذن الله له قادم هو وصحبه إليهم.
عاد الوفد إلى المدينة فرحاً مسروراً، وزفُّوا إلى إخوانهم بشرى قدوم محمد بن عبد الله إليهم، وكانت هذه البشرى نوراً أضاء أرجاء المدينة، وابتهاجاً عمَّ الأوس والخزرج، وأخذوا يرتقبون مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم ويعدون العدة لاستقباله.
آثار الهجرة:
أظهر آثار الهجرة، هذا الحادث التاريخي العظيم تكوين جبهة إسلامية قوية، وفاتحة عهد التوحيد وعزة المسلمين...
1 ـ من أظهر آثار الهجرة: تآلف الأوس والخزرج، وتآخيهم مع من هاجروا إليهم من مكة، فقد لبثت الأوس والخزرج عشرات السنين لا يتقاربون ولا يتحابون، وما هو إلا أن هاجر محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فقويت الإلفة والمودة بين الأوس والخزرج، وصاروا قلباً واحداً ويداً واحدة، وتآخوا هم ومن هاجر إليهم من مكة، وأصبحوا بنعمة الإسلام إخواناً متحابين، ونسي الأوسي أوسيته، والخزرجي خزرجيته، وصار لقبهم وعنوان فخرهم أنهم أنصار الرسول صلى الله عليه وسلم، ونسي المكي مكيَّته وقرشيته، وصار لقبهم وعنوان فخرهم أنهم المهاجرون مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد امتن الله على المسلمين بنعمة هذه الألفة، وهذه الأخوة، فقال جلَّ ثناؤه: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] {آل عمران:103}.
2 ـ ومن أظهر آثار الهجرة: قوة الروح المعنوية في نفوس المسلمين، وضعف الروح المعنوية في نفوس المشركين. أما قوة الروح المعنوية في نفوس المسلمين فسببها نجاح الخطة التي نفِّذت بها الهجرة، رغم ما عقده المشركون من مؤامرات وما بذلوه من جهد ليحولوا بين المسلمين والرسول وبين الهجرة، فلما تمت الهجرة بهذا النجاح بعثت في نفوس المسلمين من أنصار ومهاجرين روحاً قوية، وزاد هذه الروح قوة تآخي المهاجرين والأنصار، واعتزاز كل فريق بالآخر، وتنافسهم في حماية الدعوة وإعلاء كلمة الله، وإقامة المسلمين شعائر الإسلام جهاراً بعد أن ظلت هذه الشعائر لا تقام بمكة إلا خفية، ولا تجتمع على إقامتها جماعة.
وأما ضعف الروح المعنوية في نفوس المشركين فسببه أنههم كانوا موقنين ومحمد بينهم أنهم لابدَّ قاضون على دعوته، وقرروا أن يحولوا بين بينه وبين الهجرة، لأنه لو أفلت من أيديهم عزَّ وعلت كلمته... فلما خاب سعيهم، وفشلت خططهم، وحبط ما عملوه، ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واستقبل فيها بالبِشر والترحيب، والتفت حوله الأوس والخزرج والمهاجرين سقط في أيديهم، ورأوا أنهم قد فشلوا، فيئسوا من إحباط الدعوة، ووهنت عزيمتهم في مقاومتها، وضعفت روحهم المعنوية:[ اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ] {المائدة:3}.
3 ـ ومن أظهر آثار الهجرة أن الدعوة المحمدية تعرضت لمحنة اليهود في المدينة، لأنها كانت معقل اليهود وكان اليهود يعرفون من كتبهم وأخبارهم أن نبياً عربياً آن وقت ظهوره، وعرفوا من آيات قاطعة أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو ذلك النبي، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، وكتموا الحقَّ وهم يعلمون، لأنه سيذهب بسيادتهم، ويكشف أباطيلهم... ولهذا لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته من حربهم وكيدهم وفتنتهم ما لقيه من عنت قريش وعنادهم، فقد كان سلاح قريش: التشهير والإيذاء والاعتداء على الأنفس والأموال، وسلاح اليهود: المكر والدس والتحريف والافتراء، وقد انتصرت الدعوة في الميدانين، ولم يؤثر فيها واحد من السلاحين.
وكل دعوة تبتلى بأنواع من المعارضة والمقاومة، لأن المعارضة تمحص الحق وتظهر ما في الدعوة من ضر، والعدو قد يكون سبباً في ظهور فضل عدوه، والحسود قد ينشر فضل من يحسده، والنار تفيح العَرْف الشذي من العود الطيب...
ومن هنا نفهم الحكمة في أن القرآن الكريم أسهب في الحديث عن بني إسرائيل وحجاجهم وتذكيرهم بنعم الله عليهم، كما أسهب في الحديث عن المشركين وحجاجهم، لأن هذين الفريقين تسابقوا في خصومة الدعوة، وفي شهر أسلحتهم في وجهها، وباؤوا بالخذلان والفشل، فشأنهما واحد، وغايتهم واحدة، وعاقبتهما كانت واحدة، وهو مصداق قوله تعالى:[لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا] {المائدة:82}.
أشار الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه أن يخرجوا من مكة ويلحقوا بإخوانهم من الأوس والخزرج في المدينة المنورة، وقال لهم: (إن الله قد اختار لكم إخواناً وداراً تأمنون بها).
وأخذ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة أرسالاً، رجالاً ونساءً، خفة وجهراً، وقاسوا من عَنَتِ قُريش في سفرهم مثل ما قاسوا منهم في مقامهم بينهم.
أخبر الرسول صاحبه أبا بكر: أن الله، أذن له في الهجرة،فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله ؟ فقال له الرسول: الصحبة. وقد أعد لهما الزاد والراحلة، وقد خرجا من مكة فجر يوم الجمعة 28 من شهر صفر، ووصلا إلى غار ثور فكمنا فيه ثلاث ليال، والمشركون يجدُّون في طلبهما، ولكن الله حفظهما وأعمى عيون أعدائهما...
أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بكل الأسباب الممكنة فخطَّط وأحسن التخطيط، ورتب فأحسن الترتيب، هيأ من يبيت في فراشه (علي ) ومن يرافقه في رحلته (أبا بكر) ومن يدله على الطريق (عبد الله بن أريقط)، واختار الغار الذي يختفي فيه أياماً حتى يهدأ الطلب عنه (غار ثور) ولم يختر ناحية يثرب حتى يعمي على القوم، وهيأ من يأتي بالزاد (أسماء) وبالأخبار (عبد الله بن أبي بكر) ومن يعفي على آثارهما بغنمة (عامر بن فهيرة).
ومع هذا كله استطاع القوم أن يصلوا إلى الغار، وأن يتوقفوا عنده، وهو ما جعل أبو بكر يقول شفقاً على مصير الدعوة إن مسَّ رسول الله سوء لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فيرد عليه النبي ما ظنك باثنين الله ثالثهما: [إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا] {التوبة:40} .
لقد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ما قدر عليه، فتركه لربه متوكلاً [فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] {التوبة:40}.
فالمتوكل يقدم الأسباب ـ التي أمر بها ـ وتدخل في وسعه، وتُكمل القدرة الإلهية ما يعجز عنه ولا يدخل في وسعه.
انظر إلى موسى عليه السلام وقد أوحى الله إليه:[وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ] {الشعراء:52}.
فخرج بقومه في جنح الليل، فارين من فرعون، متجهين ناحية البحر، وشعر فرعون، وجنوده بخروجه، فاتبعوهم مشرقين، يريدون أن يفتكوا بهم:[فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ] {الشعراء:61}. نظر أصحاب موسى إلى الأسباب وحدها: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. سيدركنا فرعون وجنوده ولا نجاة لنا منهم، فالبحر أمامنا، و هم من خلفنا.
لم يقف كليم الله عند الأسباب، بل رنا ببصره إلى خالق الأسباب، والسنن ومدبر الأمر كله... وقد هداه الله إلى المخرج من المأزق.[فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ(63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآَخَرِينَ(64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ(65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآَخَرِينَ(66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ(68) ]. {الشعراء}.
لقد كان الزمن بين الكليم موسى والحبيب محمد ـ عليهما السلام. زمناً طويلاً، ولكن الموقفين متشابهان، وتكاد العبارات تتفق بينهما: عبارة موسى: إن معي ربي سيهدين، وعبارة محمد: إن الله معنا، ولا غرو فهما يصدران من مشكاة واحدة.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين