الانتكاس






كتبه/ عبد العزيز خير الدين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد كان يصلي مع الناس في الصفوف الأولى في المساجد، محبًّا لكتاب الله -عز وجل-، متبعًا لسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، يجهر بالحق، متعاونًا، واصلًا لرحمه، محبًّا للخير، وفجأة انقلب، وتغير، وانتكس، وتبدل حاله من الصلاح إلى الفساد؛ فهجر المساجد، وأضاع وقته في اللهو والمعاصي، ولم يستطع أن يميز بين الحق والباطل، أو النور والظلام!

وكما يقال -إذا عرف السبب بطل العجب-؛ فلا زال طريق التوبة مفتوحًا، والرجوع للحق مطلبًا؛ بعد أن يعرف العبد سبب انتكاسته والعمل على إزالة هذه الأسباب، كما يبحث المريض عن سبب مرضه ليعالج المرض.

وأول وأهم هذه الأسباب: ألا يدرك المسلم أن طريق الالتزام والطاعة ليس مفروشا بالورود، بل هناك سنن كونية في الابتلاء مرت بالأنبياء والصحابة والصالحين، فإذا علم العبد ذلك واستعد له نجح في مواجهة أي فتنة، واستمر في الاستقامة، بخلاف الجاهل بها تراه من أول ابتلاء انحرف عن المسار الصحيح، وفي هذا يقول الله -عز وجل-: (*وَمِنَ *النَّاسِ *مَنْ *يَعْبُدُ *اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج: 11).

ومن أهم الأسباب أيضًا: أصدقاء السوء -شياطين الإنس- الذين يحاولون في كل لحظة أن يبدلوا حال أصدقائهم ويفتنونهم ويوقعونهم في الضلال، والمفتون بهم لا يدري ولا ينتبه من غفلة غوايتهم إلا بعد فوات الأوان؛ كما قال -تعالى-: (*وَيَوْمَ *يَعَضُّ *الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا . يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا . لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) (الفرقان: 27-29).

كما أن استحقار الذنوب واستصغارها من الأسباب التي تضعف إيمان المسلم وتجعله دائمًا في معصية، ينتقل من واحدة إلى الأخرى، حتى تضعف إيمانه ويمرض قلبه أو يموت، ويصل إلى الانتكاس -والعياذ بالله-، كما جاء في صحيح مسلم من حديث حُذَيْفَةُ -رضي الله عنه- قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدَ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ).


من هنا نقول: ليست المعصية أو الانحراف هي نهاية المسلم، بل الجريمة الكبرى أن يستمر في هذا الطريق غافلًا عمَّن يعصيه، بل عليه من جديد، أن يعيد أوراقه ومنهجه واستقامته، وأقرانه، ويعود إلى الله الذي يفرح بعودة العبد وتوبته، بل سيغفر له ويرحمه؛ قال -تعالى-: (*قُلْ *يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).