تدبر آية: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُم ْ / رقية العلواني
قد نأخذ سنوات طويلة لأجل أن نبني علاقات اجتماعية قوية، علاقات صداقة، علاقات تعارف فيما بيننا ولكن ربما لا يأخذ الأمر منا سوى بضع ساعات لكي تتحطم الكثير من تلك العلاقات حين نسمع كلمة ربما غير صحيحة، حين نعطي و نطلق لأنفسنا العنان أن نسيء الظن بالآخرين، أن نصدق كل ما قيل عنهم، أن نصدّق أن فلانًا من الناس بعد كل العشرة الطويلة قد قال عني كذا وقال عني ذاك، وهذا لا يليق وذاك لا يصح، وإذا بتلك العلاقة التي أخذت سنوات لأجل أن تُبنى وتتعزز في نفوسنا تتحطم وتتهاوى في لحظات أو ربما ساعات!.
يا ترى هذه الممارسات الاجتماعية غير الصحيحة التي باتت واضحة في مجتمعاتنا سرعان ما نصدّق الكلام السيء ولكن ربما نأخذ وقتًا طويلًا لكي نصدّق كلامًا حسنًأ أو جيدًا.
لماذا صار توقع الشر من الآخرين أسبق إلى نفوسنا من توقع الخير؟! في حين أن الأصل في الإنسان أنه بريء حتى تثبت إدانته وليس العكس!
الناس ليسوا في الأصل على اتهام ولا على تهمة إلى أن تثبت البراءة لدينا تجاههم. يا ترى هذه المفاهيم هل القرآن يعالجها فعلاً؟
هذا الكتاب العظيم ما ترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحاط بها وقدّم لي الوسائل التي أستطيع من خلالها أن أتعامل مع المشاكل والأمور التي تطرأ لي في حياتي، كل ما أحتاج إليه أن أتعلم وأتعرف كيف اقترب من ذلك القرآن العظيم ليجيب على تساؤلاتي ويعطيني الحلول لهمومي وأزماتي. تأملوا قول الله عز وجل في سورة النور(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُم ْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴿١٥﴾ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴿١٦﴾ يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿١٧﴾ النور)
الآيات تتحدث عن ظاهرة في عموم أسبابها ونحن نريد أن نتوقف عند قوله تعالى (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُم ْ) عادة الإنسان أنه يتلقى الأخبار بالأذن، بالسماع، يستمع إليها، ولكن تأملوا دقة التعبير في القرآن العظيم (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُم ْ) وكأن الإنسان حين يستمع لذلك الخبر السيء أو لذلك الكلام الرديء عن الآخرين في بعض الأحيان لا يعطي لنفسه حتى مجرد فرصة أن يعذي لنفسه فرصة أن يستمع الخبر ويتأكد من صحته وإنما يقفز مباشرة إلى عملية نقل للمعلومة أو الخبر دون التريث دون التأكد دون النظر دون محاولة تمرير ذلك الخبر على العقل لكي يتعقله، لكي يقف عنده، لكي يتأكد من صحة المعلومة التي وصلت إليه.
(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُم ْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ)
وأتساءل يا ترى كم من المرات نحن نمارس هذه الممارسات السيئة؟ كم من المرات نقفز إلى تصديق الخبر الذي نسمع؟ نقفز إلى إيصال خبر نحن لسنا على علم ولا يقين بأنه صحيح، كم من المرات نقفز لنقول شيئًا ليس لنا به علم؟! والقرآن يقول لنا في أكثر من موضع (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴿٣٦﴾ الإسراء).
الكلمة مسؤولية فكم من بيوت وأُسر وصداقات وعلاقات قوية متينة وعمل مؤسساتي فسد بسبب كلمة قد قيلت وكلمة قد تم نقلها وتداولها وإشاعة تم عرضها في مجالس متعددة فإذا بتلك العلاقات تنهار كأنها لم تكن!. الكلمة تفعل فعلًا كبيرًا في حياتنا، نقل الأخبار يفعل فعله في حياتنا كأفراد وكمجتمعات. فلماذا ذلك الإقبال الشديد على نشر المعلومة دون التأكد منها؟! لماذا أصبحنا نعتقد دائمًا أن من ينقل الكاذب ليس بكاذب على اعتبار أن ناقل الكفر ليس بكافر؟!
لماذا ما أصبحنا نفهم ونتفكر بأن من ينقل الكذب صحيح ليس هو من قال بالكذبة الأولى ابتداء ولكنه ساهم في نشرها، ساهم في نشر تلك الأخبار المشوشة السيئة وخاصة ونحن نعيش في ورة في عالم الاتصالات وعالم التواصل، الخبر الذي يقوله إنسان في شرق الأرض في دقائق أو أقل يصل إلى غرب الأرض! والوسائل كل الوسائل متاحة وهذا الأمر يزيد من عظم المسؤولية التي تقع على عاتق الأفراد والمجتمعات في نقل الأخبار وتداولها. لماذا أصبحنا لا نهتم لتلك المسؤولية؟ لماذا أصبحنا نشعر أن الأمر عادي مع شيوع هذه الوسيلة التي نتعامل فيها الواتس آب على سبيل المثال، تأتي العبارة فيها مختلف القصص، مختلف الروايات، ناهيك عن الأحاديث، ناهيك عن أشياء أخرى متعلقة بالدين، متعلقة بالطب، بالعلوم وإذا بالأيدي تتلقف تلك المعلومات وتنشر وتكتب “انشرّ ويقوم الجميع بالنشر دون أن نتوقف ولو للحظات عن مسؤوليتي وأنا أنشر أو أمرر أو أعبر رسالة إلى مجموع القائمة الموجودة عندي، أين المسؤولية في ذلك؟! وأين أنا من ذلك الخُلُق القرآني العظيم؟!
(وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ)
أين مسؤوليتي فيما أقول؟ الكلمة مسؤولية لا ينبغي أن أقول شيئا ليس لي به علم على اعتبار أني مجرد ناقل؟ ولماذا أكون أنا الوسيلة لنقل أشياء يمكن أن تكون مكذوبة، ممكن تكون مغشوشة، أو يكون لها نتائج وعواقب سلبية جدًا والأمر يتفاقم حدة ويشتد خطورة حينما يتعلق الأمر بشيء من القضايا الأسرية والقضايا الاجتماعية وما يتعلق بأعراض الناس كما في الآية وسبب نزولها والحديث عن الآخرين بسوء، الأمر ليس من باب الأخبار، كم من العلاقات أفسدناها بسبب تصديق الأخبار الكاذبة أو على الأقل التي لم نتأكد من صحتها، كم علاقة صداقة هدمنا؟ كم علاقة قوية انتهينا منها بسبب هذه التصرفات؟! فأين منطق العقل في هذا؟ أين نحن من تحكيم منطق القرآن حين يقول لي (وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) هذا معنى أن نعرض تصرفاتنا وسلوكياتنا على القرآن العظيم، أن نعيد من جديد للقرآن فعله في حياتنا ليغيّر فينا، لنبدّل من سلوكياتنا،
لنتعقّل قبل أن نقول الكلمة ونمرر الكلمة، لنتوقف لحظات ونستحضر أننا سنسأل عن تلك الكلمة وتلك الرسائل التي نمرر دون نظر فيها ودون حتى إتمام قرآءتها في بعض الأحيان، آن الأوان أن نسترجع كل ذلك.
تفريغ موقع إسلاميات حصريًا