(الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فإن من أنفع الكتب في علاج أدواء القلوب كتابَ العلَّامة ابن القيم المشهور باسم: "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي"، والذي سُمِّي أيضًا: "الداء والدواء"، ولا عجب في ذلك؛ فمؤلِّفه رحمه الله من أمهر أطباء القلوب، وأعرفهم بأسقامها وما يصلح لها من دواء، مُنتهجًا في طبِّه نهجَ السلف الصالح رضوان الله عليهم؛ بالرجوع لكتاب الله المنزَّل هدًى ورحمةً وشفاءً للمؤمنين، وسُنَّة نبيِّه المبعوث رحمةً للعالمين.
والكتاب إنما جاء جوابًا لاستفتاء وَرَدَ على مؤلفه رحمه الله، قال فيه السائل: "ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في رجل ابتُلِيَ ببليَّة، وعلِم أنها إن استمرت به، أفسدت عليه دنياه وآخرته، وقد اجتهد في دفعها عن نفسه بكل طريق، فما تزداد إلا توقُّدًا وشدةً، فما الحيلة في دفعها؟ وما الطريق إلى كشفها؟"، بَيدَ أن السائل هنا لم يُسمِّ البليَّة، ولم يخبر عن ماهيتها، فما كان من ابن القيم رحمه الله إلا أن ألَّف في الرد على هذا الاستفتاء فصولًا طوالًا شافياتٍ، استعرض فيها أمراض القلوب، شارحًا أسبابها وأعراضها، وسُبُلَ علاجها والوقاية منها.
والإجزال في إجابة السائل ليس بغريب عنه، فهو دَيْدَنُه وديدن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه؛ كما قال في مدارج السالكين: "الجود بالعلم وبذله، وهو من أعلى مراتب الجود، والجود به أفضل من الجود بالمال؛ لأن العلم أشرف من المال، والناس في الجود به على مراتب متفاوتة، وقد اقتضت حكمة الله وتقديره النافذ ألَّا ينفع به بخيلًا أبدًا.
ومن الجود به: أن تبذله لمن لم يسألك عنه، بل تطرحه عليه طرحًا.
ومن الجود به: أن السائل إذا سألك عن مسألة استقصيتَ له جوابها شافيًا، لا يكون جوابك له بقدر ما تدفع به الضرورة، كما كان بعضهم يكتب في جواب الفُتيا «نعم» أو «لا»، مقتصرًا عليها.
ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك أمرًا عجيبًا: كان إذا سُئِل عن مسألة حُكْمِيَّة، ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة إذا قدر عليه، ومأخذ الخلاف، وترجيح القول الراجح، وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته، فيكون فرحه بتلك المتعلقات واللوازم أعظم من فرحه بمسألته.
وهذه فتاوَاه بين الناس، فمن أحب الوقوف عليها رأى ذلك.
فمن جود الإنسان بالعلم: أنه لا يقتصر على مسألة السائل، بل يذكر له نظيرها ومتعلقها ومأخذها، بحيث يشفيه ويكفيه".
وقد قمت - بفضل من الله - بالوقوف على لطائف هذا الكتاب القيِّم، وجمعِها في سلسلة من المقالات، سائلًا المولى سبحانه وتعالى التوفيقَ والسداد.
لكل داء دواء:
حيث ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً)).
وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكلِّ داءٍ دواءٌ، فإذا أُصيب دواءُ الداءِ، بَرَأ بإذن الله)).
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أسامة بن شريك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله لم يُنزِل داءً إلا أنزل له شفاءً، علِمه من علِمه، وجهِله من جهِله)).
وفي لفظ: ((إن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً أو دواءً، إلا داءً واحدًا، قالوا: يا رسول الله، ما هو؟ قال: الهَرَمُ))؛ [قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح].
وهذا يعُمُّ أدواء القلب والروح والبدن، وأدويتها.
القرآن كله شفاء:
وقد أخبر سبحانه عن القرآن أنه شفاء؛ فقال تعالى: ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ﴾ [فصلت: 44].
وقال: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: 82]، و"من" ها هنا لبيان الجنس لا للتبعيض، فإن القرآن كله شفاء، كما قال في الآية الأخرى؛ فهو شفاء للقلوب من داء الجهل والشك والرَّيب، فلم ينزل الله سبحانه من السماء شفاءً قط أعمَّ ولا أنفع، ولا أعظم ولا أنجع في إزالة الداء من القرآن، ولو أحْسَنَ العبدُ التداويَ بالفاتحة[1]، لرأى لها تأثيرًا عجيبًا في الشفاء.
ومكثتُ بمكة مدةً تعتريني أدواء، ولا أجد طبيبًا ولا دواء، فكنت أعالج نفسي بالفاتحة، فأرى لها تأثيرًا عجيبًا، فكنت أصِف ذلك لمن يشتكي ألمًا، وكان كثيرٌ منهم يبرأ سريعًا.
ولكن ها هنا أمرٌ ينبغي التفطُّن له؛ وهو أن الأذكار والآيات والأدعية التي يُستشفى بها ويُرقى بها، هي في نفسها نافعة شافية، ولكن تستدعي قبول المحلِّ، وقوة هِمَّةِ الفاعل وتأثيره، فمتى تخلَّف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل، أو لعدم قبول المنفعل، أو لمانع قويٍّ فيه يمنع أن ينجَعَ فيه الدواء، كما يكون ذلك في الأدوية والأدواء الحسية؛ فإن عدم تأثيرها قد يكون لعدم قبول الطبيعة لذلك الدواء، وقد يكون لمانع قوي يمنع من اقتضائه أثرَه، فإن الطبيعة إذا أخذت الدواء بقبول تامٍّ، كان انتفاع البدن به بحسب ذلك القبول، وكذلك القلب إذا أخذ الرُّقى والتعاويذ بقبول تامٍّ، وكان للراقي نفسٌ فعَّالة وهمة مؤثِّرة، أثَّر في إزالة الداء.
أسباب تخلف أثر الدعاء:
وكذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلف عنه أثره، إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله؛ لِما فيه من العدوان، وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقتَ الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جدًّا، فإن السهم يخرج منه خروجًا ضعيفًا، وإما لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام، والظلم، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والسهو واللهو وغلبتها عليها[2].
فهذا دواء نافع مُزيل للداء، ولكن غفلة القلب عن الله تُبطل قوله.
وكذلك أكل الحرام يُبطل قوته ويضعفها[3].
الدعاء من أنفع الأدوية:
والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يخفِّفه إذا نزل.
ومن أنفع الأدوية: الإلحاح في الدعاء؛ وفي كتاب الزهد للإمام أحمد عن قتادة قال: "قال مورق: ما وجدت للمؤمن مثلًا إلا رجلًا في البحر على خشبة، فهو يدعو: يا رب يا رب، لعل الله عز وجل أن ينجِّيَه".
ومن الآفات التي تمنع ترتُّب أثر الدعاء عليه: أن يستعجل العبد، ويستبطئ الإجابة، فيستحسر، ويَدَعَ الدعاء، وهو بمنزلة من بَذَرَ بذرًا، أو غرس غراسًا، فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه، تركه وأهمله[4].
شروط قبول الدعاء:
وإذا جمع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب، وصادف وقتًا من أوقات الإجابة الستة؛ وهي: الثلث الأخير من الليل، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبات، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تُقضى الصلاة، وآخر ساعة بعد العصر من ذلك اليوم، وصادف خشوعًا في القلب، وانكسارًا بين يدي الرب، وذلًّا له، وتضرعًا ورقةً، واستقبل الداعي القبلة، وكان على طهارة، ورفع يديه إلى الله تعالى، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنَّى بالصلاة على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم قدَّم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار، ثم دخل على الله، وألح عليه في المسألة، وتملَّقه، ودعاه رغبةً ورهبةً، وتوسَّل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدَّم بين يدي دعائه صدقة، فإن هذا الدعاء لا يكاد يُرَدُّ أبدًا، ولا سيما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مَظِنَّة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم[5].
قد يُستجاب الدعاء للأحوال المقترنة به، لا لسرٍّ في لفظه:
وكثيرًا ما تجد أدعيةً دعا بها قومٌ، فاستُجيب لهم، ويكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه، وإقباله على الله، أو حسنة تقدمت منه جَعَلَ الله سبحانه إجابة دعوته شكرًا لحسنته، أو صادف وقت إجابة ونحو ذلك، فأُجيبت دعوته، فيظن الظانُّ أن السرَّ في لفظ ذلك الدعاء، فيأخذه مجردًا عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي، وهذا كما إذا استعمل رجلٌ دواءً نافعًا في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي، فانتفع به، فظن غيره أن استعمال هذا الدواء بمجرده كافٍ في حصول المطلوب، كان غالطًا، وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس.
ومن هذا أنه قد يتفق دعاؤه باضطرار عند قبر فيُجاب، فيظن الجاهل أن السر للقبر، ولم يعلم أن السر للاضطرار وصدق اللجأ إلى الله، فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله، كان أفضل وأحبَّ إلى الله.
الدعاء كالسلاح، والسلاح بضاربِهِ لا بحدِّه فقط:
والأدعية والتعوُّذات بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربِهِ لا بحدِّه فقط، فمتى كان السلاح سلاحًا تامًّا لا آفةَ به، والساعدُ ساعدًا قويًّا، والمانع مفقودًا، حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلَّف واحدٌ من هذه الثلاثة، تخلَّف التأثير.
فإذا كان الدعاء في نفسه غير صالح، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثَمَّ مانعٌ من الإجابة، لم يحصل الأثر.
بين الدعاء والقَدَر:
وها هنا سؤال مشهور؛ وهو أن المدعوَّ به إن كان قد قُدِّر لم يكن بدٌّ من وقوعه، دعا به العبد أو لم يَدْعُ، وإن لم يكن قد قُدِّر لم يقع، سواء سأله العبد أو لم يسأله.
فظنت طائفة صحة هذا السؤال، فتركت الدعاء، وقالت: لا فائدة فيه، وهؤلاء مع فَرْطِ جهلهم وضلالهم متناقضون، فإن طَرْدَ مذهبهم يُوجِب تعطيل جميع الأسباب.
فيُقال لأحدهم: إن كان الشبع والري قد قُدِّرا لك، فلا بد من وقوعهما، أكلت أو لم تأكل، وإن لم يُقدَّرا لم يقعا، أكلت أو لم تأكل.
وإن كان الولد قُدِّر لك فلا بد منه، وَطِئتَ الزوجة والأَمَةَ أو لم تَطَأْ، وإن لم يُقدَّر لم يكن، فلا حاجة إلى التزوج والتسرِّي، وهلم جرًّا.
فهل يقول هذا عاقلٌ أو آدمي؟ بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قِوامه وحياته، فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام، بل هم أضل سبيلًا.
وتكايَسَ بعضهم، وقال: الاشتغال بالدعاء من باب التعبُّد المحض، يُثيب الله عليه الداعي، من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما، ولا فرق عند هذا الكَيسِ بين الدعاء وبين الإمساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب، وارتباط الدعاء عندهم به كارتباط السكوت، ولا فرق.
وقالت طائفة أخرى أكيس من هؤلاء: بل الدعاء علامة مجردة نصبها الله سبحانه أمارةً على قضاء الحاجة، فمتى وُفِّق العبد للدعاء، كان ذلك علامة له وأمارة على أن حاجته قد قُضِيَت، وهذا كما إذا رأينا غيمًا أسودَ باردًا في زمن الشتاء، فإن ذلك دليل وعلامة على أنه يُمطر.
قالوا: وهكذا حكم الطاعات مع الثواب، والكفر والمعاصي مع العقاب، هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب، لا أنها أسباب له.
وهكذا عندهم الكسر مع الانكسار، والحريق مع الإحراق، والإزهاق مع القتل، ليس شيء من ذلك سببًا ألبتة، ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلا مجرد الاقتران العادي، لا التأثير السببي.
وخالفوا بذلك الحس، والعقل، والشرع، والفطرة، وسائر طوائف العقلاء، بل أضحكوا عليهم العقلاء!
والصواب أن ها هنا قسمًا ثالثًا غير ما ذكره السائل، وهو أن هذا المقدور قُدِّر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، فلم يُقدَّر مجردًا عن سببه، ولكن قُدِّر بسببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأتِ بالسبب انتفى المقدور، وهذا كما قُدِّرَ الشبع والري بالأكل والشرب، وقُدِّر الولد بالوطء، وقُدِّر حصول الزرع بالبذر، وقُدِّر خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قُدِّر دخول الجنة بالأعمال، ودخول النار بالأعمال.
ترتيب الجزاء على الأعمال يزيد في القرآن على ألف موضع:
وقد رتَّب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة، وحصول الشرور في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال، ترتيب الجزاء على الشرط، والمعلول على العلة، والمسبَّب على السبب، وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع[6].
وبالجملة، فالقرآن من أوله إلى آخره صريح في ترتُّب الجزاء بالخير والشر والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب، بل ترتُّب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال.
ومن فقِهَ هذه المسألة، وتأمَّلها حقَّ التأمل، انتفع بها غاية النفع، ولم يتَّكِل على القدر جهلًا منه وعجزًا وتفريطًا وإضاعةً، فيكون توكله عجزًا، وعجزه توكلًا.
بل الفقيه كل الفقيه الذي يرُدُّ القَدَرَ بالقدر، ويدفع القدر بالقدر، ويعارض القدر بالقدر، بل لا يمكن الإنسان يعيش إلا بذلك، فإن الجوع والعطش والبرد وأنول المخاوف والمحاذير هي من القدر، والخَلْقُ كلهم ساعون في دفع هذا القدر بالقدر.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,, ,,,,,,,,,,,,,,,,,,
أمران تتم بهما سعادة المرء وفلاحه:
أحدهما: أن يعرف تفاصيل أسباب الشر والخير، ويكون له بصيرة في ذلك بما يشاهده في العالم، وما جرَّبه في نفسه وغيره، وما سمعه من أخبار الأمم قديمًا وحديثًا.
ومن أنفع ما في ذلك تدبُّر القرآن، فإنه كفيل بذلك على أكمل الوجوه، وفيه أسباب الشرِّ والخير جميعًا مفصَّلة مبيَّنة، ثم السُّنَّة، فإنها شقيقة القرآن، وهي الوحي الثاني، ومن صرف إليهما عنايته اكتفى بهما عن غيرهما، وهما يُرِيانِك الخير والشرَّ وأسبابهما، حتَّى كأنَّك تُعاين ذلك عيانًا.
وبعد ذلك إذا تأملتَ أخبار الأمم وأيام الله في أهل طاعته وأهل معصيته طابق ذلك ما علمتَه من القرآن والسنة، ورأيت تفاصيل ما أخبر الله به ووعد به، وعلمتَ من آياته في الآفاق ما يدلُّك على أن القرآن حق، وأن الرسول حق، وأن الله ينجز وعده لا محالة. فالتاريخ تفصيل لجزئيات ما عرَّفنا الله ورسوله به من الأسباب الكلية للخير والشر.
والأمر الثاني: أن يحذر مغالطةَ نفسِه له على هذه الأسباب. وهذا من أهم الأمور، فإنَّ العبد يعرف أنَّ المعصية والغفلة من الأسباب المضرة له في دنياه وآخرته، ولا بدَّ، ولكن تغالطه نفسه بالاتِّكال على عفو الله ومغفرته تارةً، وبالتسويف بالتوبة تارةً، وبالاستغفار باللسان تارةً، وبفعل المندوبات تارةً، وبالعلم تارةً، وبالاحتجاج بالقدر تارةً، وبالاحتجاج بالأشباه والنظراء والاقتداء بالأكابر تارةً.
وكثير من الناس يظن أنه لو فعل ما فعل، ثم قال: "أستغفر الله" زال أثر الذنب، وراح هذا بهذا!
وهذا الضرب من الناس قد تعلَّق بنصوص الرَّجاء، واتَّكل عليها، وتعلَّق بها بكلتا يديه. وإذا عُوتِب على الخطايا والانهماك فيها سرد لك ما يحفظه من سعة رحمة الله ومغفرته ونصوص الرجاء.
حسن الظن بالرب إنما يكون مع طاعته:
ولا ريب أنَّ حسن الظن إنَّما يكون مع "الإحسان"، فإنَّ المحسن حسن الظن بربه أنَّه يُجازيه على إحسانه، ولا يخلف وعده، ويقبل توبته، وأما المسيء المصرُّ على الكبائر والظلم والمخالفات، فإنَّ وحشة المعاصي والظلم والإجرام تمنعه من حسن الظن بربِّه. وهذا موجود في الشاهد، فإنَّ العبد الآبق المسيء الخارج عن طاعة سيده لا يحسن الظن به.
ولا يجامع وحشةَ الإساءة إحسانُ الظنِّ أبدًا، فإنَّ المسيء مستوحش بقدر إساءته. وأحسنُ الناس ظنًّا بربِّه أطوعُهم له، كما قال الحسن البصري: إنَّ المؤمن أحسن الظنَّ بربِّه، فأحسن العمل، وإنَّ الفاجر أساء الظنَّ بربِّه، فأساء العمل.
وكيف يكون محسنَ الظن بربِّه مَنْ هو شارد عنه، حالٌّ مرتحل في مساخطه وما يغضبه، متعرض لِلَعْنَتِه، قد هان حقُّه وأمرُه عليه فأضاعه، وهان نهيه عليه فارتكبه، وأصرَّ عليه!
وكيف يحسن الظن به من بارزه بالمحاربة، وعادى أولياءه، ووالى أعداءه، وجحد صفات كماله، وأساء الظن بما وصف به نفسه ووصفَتْه به رُسُلُه، وظن بجهله أن ظاهر ذلك ضلال وكفر؟
وكيف يحسن الظنَّ به من يظن أنه لا يتكلَّم، ولا يأمر، ولا ينهى، ولا يرضى، ولا يغضب؟
حسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه:
ومن تأمل هذا الموضع حقَّ التأمل علِمَ أنَّ حسنَ الظن بالله هو حسنُ العمل نفسه، فإنَّ العبد إنما يحمله على حُسْنِ العمل حُسْنُ ظنِّه بربِّه أن يجازيه على أعماله، ويثيبه عليها، ويتقبَّلها منه، فالذي حمله على العمل حُسْنُ الظن، وكلَّما حسُن ظنُّه حسُن عملُه، وإلا فحُسْنُ الظن مع اتِّباع الهوى عجز.
وبالجملة، فحسن الظن إنَّما يكون مع انعقاد أسباب النجاح، وأما مع انعقاد أسباب الهلاك، فلا يتأتَّى إحسان الظن.
فإن قيل: بل يتأتَّى ذلك، ويكون مستندُ حسن الظن سعةَ مغفرة الله ورحمته وعفوه وجوده، وأنَّ رحمته سبقت غضبه، وأنه لا تنفعه العقوبة ولا يضرُّه العفو.
قيل: الأمرُ هكذا، واللهُ فوق ذلك، وأجلُّ وأكرم وأجوَد وأرحم، ولكن إنما يضع ذلك في محله اللائق به، فإنه سبحانه موصوف بالحكمة، والعزة، والانتقام وشدة البطش، وعقوبة من يستحق العقوبة، فلو كان معوَّلُ حُسنِ الظنِّ على مجرد صفاته وأسمائه لاشترك في ذلك البرُّ والفاجرُ، والمؤمن والكافر، ووليُّه وعدوُّه، فما ينفع المجرمَ أسماؤه وصفاته، وقد باء بسخطه وغضبه، وتعرَّض لِلَعْنَتِه، وأوضعَ في محارمه، وانتهك حرماته؛ بل حسن الظن ينفع من تاب، وندم، وأقلع، وبدَّل السيئة بالحسنة، واستقبل بقية عمره بالخير والطاعة، ثم حسَّن الظنَّ، فهذا حسن الظن، والأول غرور! والله المستعان.
قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 218]، فجعل هؤلاء أهل الرَّجاء، لا البطَّالين والفاسقين.
وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 110]، فأخبر سبحانه أنه بعد هذه الأشياء غفور رحيم لمن فعلها، فالعالِم يضع الرَّجاء مواضعه، والجاهل المغترُّ يضعه في غير مواضعه.
أحاديث وآثار لردع الجُهَّال العصاة المغترين برحمة الله:
وكثيرٌ من الجُهَّال اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه، وضيَّعوا أمره ونهيه، ونسوا أنه شديد العقاب، وأنه لا يردُّ بأسه عن القوم المجرمين، ومن اعتمد على العفو مع الإصرار فهو كالمعاند.
وقال معروف: رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخِذلان والحمق.
وقيل للحسن: نراك طويل البكاء! فقال: أخاف أن يطرحني في النار، ولا يبالي.
وسأل رجل الحسن فقال: يا أبا سعيد، كيف نصنع بمجالسة أقوام يخوِّفونا حتى تكاد قلوبنا تطير؟ فقال: والله لأن تصحب أقوامًا يخوفونك حتى تدرك أمْنًا خيرٌ لك من أن تصحب قومًا يؤمِّنونك حتى تلحقك المخاوف[1].
اغترار بعضهم على ما أنعم الله عليه في الدنيا:
وربما اتَّكل بعض المغترِّين على ما يرى من نِعَم الله عليه في الدنيا، وأنه لا يغيَّر به، ويظنُّ أنَّ ذلك من محبة الله له، وأنَّه يعطيه في الآخرة أفضل من ذلك، وهذا من الغرور[2].
وقال بعض السلف: إذا رأيت الله يتابع نعمَه عليك، وأنت مقيم على معاصيه، فاحذره؛ فإنما هو استدراج يستدرجك به.
وقد قال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 33- 35].
وقد ردَّ سبحانه على من يظن هذا الظن بقوله: ﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا * كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾ [الفجر: 15 - 21]؛ أي: ليس كلُّ من نعَّمتُه ووسَّعتُ عليه رزقَه أكون قد أكرمتُه، ولا كلُّ من ابتليتُه وضيَّقت عليه رزقه أكون قد أهنتُه؛ بل أبتلي هذا بالنعمة، وأكرم هذا بالابتلاء.
وقال بعض السلف: رُبَّ مستدرج بنعم الله عليه، وهو لا يعلم، ورُبَّ مغرور بسَتْر الله عليه، وهو لا يعلم، ورُبَّ مفتون بثناء الناس عليه، وهو لا يعلم.
أعظم الخلق غرورًا من اغترَّ بالدنيا وعاجلها:
فآثرها على الآخرة، ورضي بها من الآخرة، حتى يقول بعض هؤلاء: الدنيا نقد، والآخرة نسيئة، والنقد أنفع من النسيئة! ويقول بعضهم: ذَرّة منقودة، ولا دُرّة موعودة! ويقول آخر منهم: لذاتُ الدنيا متيقَّنة، ولذات الآخرة مشكوك فيها، ولا أدع اليقين للشك!
وهذا من أعظم تلبيس الشيطان وتسويله، والبهائم العُجْم أعقل من هؤلاء، فإنَّ البهيمة إذا خافت مضرةَ شيء لم تُقْدِم عليه ولو ضُرِبَتْ، وهؤلاء يُقدِم أحدُهم على عطَبه، وهو بين مصدِّق ومكذِّب، فهذا الضرب إن آمن أحدهم بالله ورسوله ولقائه والجزاء، فهو من أعظم الناس حسرةً؛ لأنه أقدم على علم، وإن لم يؤمن بالله ورسوله، فأبْعِدْ له!
وقول هذا القائل: "النقد خير من النسيئة"، فجوابه أنَّه إذا تساوى النقد والنسيئة، فالنقد خير، وإن تفاوتا وكانت النسيئة أكثر وأفضل، فهي خير، فكيف والدنيا كلُّها من أوَّلِها إلى آخرها كنفس واحد من أنفاس الآخرة![3]
أسباب تخلُّف العمل مع التصديق الجازم بالمعاد:
فإن قلت: كيف يجتمع التصديق الجازم الذي لا شك فيه بالمعاد والجنة والنار، ويتخلَّف العمل؟ وهل في الطباع البشرية أن يعلم العبد أنه مطلوب غدًا إلى بين يدي بعض الملوك ليعاقبه أشدَّ عقوبة، أو يكرمه أتمَّ كرامة، ويبيت ساهيًا غافلًا، لا يتذكر موقفه بين يدي الملك، ولا يستعدُّ له، ولا يأخذ له أهبته؟ قيل: هذا - لَعمرُ الله - سؤال صحيح وارد على أكثر هذا الخلق، واجتماعُ هذين الأمرين من أعجب الأشياء.
وهذا التخلُّف له عدة أسباب:
أحدها: ضعف العلم ونقصان اليقين، ومن ظنَّ أن العلم لا يتفاوت، فقولُه من أفسد الأقوال وأبطلها. وقد سأل إبراهيم الخليل ربَّه أن يُريه إحياءَ الموتى عيانًا، بعد علمه بقدرة الربِّ على ذلك، ليزداد طمأنينةً، ويصير المعلوم غيبًا شهادةً[4].
فإذا اجتمع إلى ضعف العلم عدمُ استحضاره وغَيبتُه عن القلب في كثير من أوقاته أو أكثرها، لاشتغاله بما يضادُّه، وانضمَّ إلى ذلك تقاضي الطبع، وغلَباتُ الهوى، واستيلاءُ الشهوة، وتسويلُ النفس، وغرورُ الشيطان، واستبطاءُ الوعد، وطولُ الأمل، ورقدةُ الغفلة، وحبُّ العاجلة، ورُخَصُ التأويل، وإلفُ العوائد، فهناك لا يمسك الإيمانَ إلا الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا؛ ولهذا السبب يتفاوت الناس في الإيمان حتى ينتهي إلى أدنى أدنى مثقال ذرة في القلب.
وجِمَاعُ هذه الأسباب يرجع إلى ضعف البصيرة والصبر؛ ولهذا مَدح الله سبحانه أهل الصبر واليقين، وجعلهم أئمة الدين، فقال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24].
الفرق بين حسن الظن والغرور:
فقد تبين الفرق بين حسن الظن والغرور، وأنَّ حسن الظن إن حمل على العمل، وحثَّ عليه، وساق إليه، فهو صحيح، وإن دعا إلى البطالة والانهماك في المعاصي، فهو غرور.
وحسن الظن هو الرجاء. فمن كان رجاؤه حاديًا له على الطاعة، زاجرًا له عن المعصية، فهو رجاء صحيح، ومن كانت بطالته رجاءً، ورجاؤه بطالةً وتفريطًا، فهو المغرور.
ولو أن رجلًا له أرض يؤمِّل أن يعود عليه من مُغَلِّها ما ينفعه فأهملها، ولم يبذُرها، ولم يحرثها، وأحسن ظنه بأنه يأتي من مغلِّها ما يأتي مَن حَرَث، وبَذَر، وسقَى، وتعاهَد الأرضَ، لعدَّه الناس من أسفه السفهاء.
وسرُّ المسألة أنَّ الرَّجاء وحسن الظن إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله في شرعه، وقدَره، وثوابه وكرامته؛ فيأتي العبد بها، ثم يحسن ظنَّه بربه، ويرجوه ألَّا يكِلَه إليها، وأن يجعلها موصلةً إلى ما ينفعه، ويصرف ما يعارضها، ويبطل أثرها.
وقد قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 218]، فتأمَّلْ كيف جعل رجاءَهم إتيانَهم بهذه الطاعات! وقال المغترون: إنَّ المفرِّطين المضيِّعين لحقوق الله، المعطِّلين لأوامره، الباغين على عباده، المتجرِّئين على محارمه، أولئك يرجون رحمة الله!
لوازم الرجاء:
ومما ينبغي أن يعلم أنَّ من رجا شيئًا استلزم رجاؤه أمورًا:
أحدها: محبة ما يرجوه.
الثاني: خوفه من فواته.
الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان.
وأما رجاءٌ لا يقارنه شيء من ذلك، فهو من باب الأماني، والرجاء شيء، والأماني شيء آخر، فكلُّ راجٍ خائفٌ، والسائر على الطريق إذا خاف أسرَعَ السيرَ مخافةَ الفوات.
كل راجٍ خائف:
وهو سبحانه كما جعل الرَّجاء لأهل الأعمال الصالحة، فكذلك جعل الخوف لأهل الأعمال لا البطَّالين، فعُلِمَ أنَّ الرَّجاء والخوف النافع هو ما اقترن به العمل، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 57- 61][5]. والله سبحانه وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف، ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن. ومن تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف، ونحن جمعنا بين التقصير - بل التفريط - والأمن!
خوف الصحابة على أنفسهم من النفاق:
قال البخاري في صحيحه: "باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر. وقال إبراهيم التَّيمي: ما عرضتُ قولي على عملي إلا خشيتُ أن أكون مكذَّبًا. وقال ابن أبي مليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلُّهم يخاف النفاقَ على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل. ويذكر عن الحسن: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمِنَه إلا منافق".
وكان عمر بن الخطاب يقول لحذيفة: أنشُدك الله، هل سمَّاني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يعني في المنافقين فيقول: لا، ولا أزكِّي بعدك أحدًا.
فسمعتُ شيخنا[6] - رحمه الله - يقول: ليس مراده أنِّي لا أبرِّئ غيرك من النفاق، بل المراد: لا أفتح عليَّ هذا الباب، فكلُّ من سألني: هل سمَّاني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأزكيه. قلت: وقريب من هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم للذي سأله أن يدعو له أن يكون من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب: "سبقك بها عكاشة". ولم يُرِد أنَّ عكاشة وحده أحقُّ بذلك ممن عداه من الصحابة، ولكن لو دعا له لقام آخر وآخر، وانفتح الباب، وربَّما قام من لم يستحق أن يكون منهم، فكان الإمساك أولى، والله أعلم.
شبكة الالوكة