كيف ينظر الإسلام إلى عقد الزواج ؟ وكيف يفهمه شبابنا؟
الشيخ : أحمد النعسان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد فيا عباد الله:
مقدمة الخطبة:
لقد وقفت على حقيقة أسباب الخلافات الزوجية وخاصة في شبابنا وشاباتنا اليوم, فوجدت من جملة هذه الأسباب وربما أن يكون هو السبب الوحيد في هذه الخلافات, ألا وهو سوء فهم حقيقة عقد الزواج.
كيف فهم شبابنا عقد الزواج؟
أيها الإخوة: أكثر شبابنا اليوم ينظرون إلى عقد الزواج بأنه عقد مصارعة بينه وبين زوجته, أيهما يثبت وجوده, الزوج أم الزوجة؟ ينظرون إليه بأنه عقد لإظهار الأقوى منهما هل الزوج أم الزوجة؟ ينظرون إليه بأنه عقد اختطاف, هل الزوج يستطيع أن يخطب الزوجة من أهلها, أم هي تخطف الزوج من أهله؟ ينظرون إليه بأنه عقد استرقاق وتأميم, بحيث لم يبق للمرأة وجود أمام زوجها, لا رأي لها في شخصها, ولا رأي لها في مالها, ولا رأي لها في حُليِّها, ولا رأي لها في ميراثها من أهلها, ولا رأي لها في مرتَّبها ودَخْلِها, لا رأي لها في شيء من ذلك, الرأي أولاً وآخراً للزوج, وينزلها بمنزلة الأمة الرقيقة. هكذا أكثر شبابنا اليوم ينظرون إلى عقد الزواج, وبكل أسف ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
من أين جاء هذا الفهم لعقد الزواج؟
أيها الإخوة الكرام: من أين جاء هذا الفهم لعقد الزواج في نفوس أبنائنا؟
الجواب على هذا: إن هذا التصور لعقد الزواج في أذهان شبابنا اليوم جاء من خلال ما شاهده الأبناء من حياة آبائهم وأمهاتهم, حيث شاهدوا تعامل آبائهم مع أمهاتهم, فانتقلت الصورة إلى أذهانهم أن التعامل مع الزوجة هكذا يجب أن يكون, شدة, وقسوة, وظلم, ومحو الأنا, والتبعية المطلقة, ما هي إلا أمة مملوكة عند الزوج, هي وما تملك ملك للزوج.
ويأتي أحدنا ليوجِّه الأبناء أن هذا التعامل خطأ, ولا يجوز شرعاً وهو حرام, فيأتي الجواب بكل سهولة وبساطة: هكذا كان آباؤنا وأجدادنا, ولو قلت لهم: إنهم كانوا على خطأ, وأنت مسؤول عن ذلك يوم القيامة, وبينتَ لهم الأحكام الشرعية والحقوق والواجبات التي لهم وعليهم, لقالوا لك: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُون}.
وهذا ما أكَّدته عليكم في الأسبوع الماضي, بأن التعليم بالتقليد يصعب إزالته وتغييره, لأن العبد يتعلَّم بالتقليد في زمن أقلَّ بكثير مما يتعلَّمه بالموعظة والإرشاد والنصح.
لذلك أقول: أيها الإخوة, كونوا أسوة صالحة لأبنائكم في تعاملكم مع نسائكم, واجعلوا شرع الله رائداً لكم في جميع أقوالكم وأفعالكم مع أهلكم, لأنكم قدوة للناشئة, قدوة للشباب والشابات من أبنائكم, فاحذروا أن تكونوا قدوة غير صالحة.
من المنتصر من الزوجين؟
أيها الإخوة: إذا كان شبابنا ينظرون إلى عقد الزواج على أنه عقد إثبات شخصية ووجود وانتصار في معركة, فأنا أقول لهم مطمئناً: اعلموا بأن النصر لكم, والغلبة لكم, والوجود لكم, وسوف يصفق لكم الغافلون عن الله عز وجل, لأنكم حققتم النصر على المرأة, وسوف يصفق لكم كل أب غافل عن الله, وكل أم غافلة عن الله, وكل أخ غافل عن الله, وكل أخت غافلة عن الله, وكل صديق غافل عن الله, وربما أن تأخذك نشوة النصر أنت أيها الزوج.
نعم سيتحقَّق لك النصر على الزوجة, لأن العصمة في يدك, سيتحقَّق لك النصر لأن القوامة لك, سيتحقَّق لك النصر لأن المرأة هي الضعيفة, قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}, وقال تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}. ويقول صلى الله عليه وسلم: (أَلا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا, فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ, لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ, إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ, فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ, وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ, فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً. أَلا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا, وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا, فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ, وَلا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ, أَلا وَإِنَّ حَقَّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
ولكن اسمع يا أخي الشاب المتزوِّج: لقد أعطاك الإسلام درجة القوامة, وأعطاك حقَّ التأديب, وجعل العصمة في يدك, وجعل الزوجة بمنزلة الأسيرة عندك, ولكن هل تعلم بأن الذي أعطاك هذا الحق هو القائل لك: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَار}, وقال لك في كتابه العظيم وهو يقسم بقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُ مْ أَجْمَعِيْن * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُون}.
فإياك أن تستعمل حقك استعمالاً تعسُّفياً خارجاً عن حدود طاعة الله عز وجل, فإن فعلت ذلك فاعلم قوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُم * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم}, اعلم بأنك إذا كنت منتصراً اليوم في الحياة الدنيا, إما بظلم الزوجة ومحقها, وإما بطلاقها طلاقاً تعسُّفياً, فأنت الخاسر في الآخرة, حيث توضع موازين القسط ليوم القيامة, لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِين}, فيوم القيامة هو يوم الفصل بين الظالم والمظلوم, بين الزوج وزوجته, بين الوالد وولده, بين الجميع.
من استعمل حقَّ القوامة وحقَّ التأديب وحقَّ العصمة استعمالاً تعسُّفياً فإنه سيفرُّ يوم القيامة من أمام زوجته, قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيه * وَأُمِّهِ وَأَبِيه * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيه}.
فهل يرضيك أيها الشاب الزوج أن تكون منتصراً على زوجتك في الدنيا بسبب ظلمك وتجاوزك الحد, ثم تكون من الخاسرين يوم القيامة؟
نظرة الإسلام إلى عقد الزواج:
أيها الإخوة الكرام: ما هي نظرة الإسلام إلى عقد الزواج؟ هل هو عقد منافسة بين ذكر وأنثى, أم عقد تكامل بينهما؟
إن نظرة الإسلام إلى عقد الزواج أن عقد تكامل بين الزوجين, الرجل يكمِّل المرأة, والمرأة تكمِّل الرجل, قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}.
عقد تعاون على طاعة الله عز وجل, قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
عقد إعفاف لكلٍّ من الزوجين, ولكلٍّ وظيفته, لا تعارض ولا تضادَّ, إنما تكامل كتكامل الليل والنهار, قال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}.
عقد مسؤولية ورعاية, قال صلى الله عليه وسلم: (أَلا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ, فَالإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ, وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ, وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْهُمْ, وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ, أَلا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) رواه البخاري ومسلم.
وهذا العقد عقد مقدَّس في ديننا, قال تعالى فيه: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا}, فالمرأة أخذت على الرجل ميثاقاً غليظاً, أي قوياً وعظيماً بأن لا يظلمها إن كرهها, وأن يعاشرها بالمعروف, وأن يكرمها, لأن إكرام المرأة من وصف الكرام, كما أن الإساءة لها من وصف اللئام, كما جاء في الحديث: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ, وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب صحيح, وزاد ابن عساكر: (ما أكرم النساء إلا كريم, ولا أهانهنَّ إلا لئيم).
عقد الزواج ميثاق غليظ قطعه الرجل على نفسه أن لا يعامل زوجته إلا وفق ما يُرضي الله عز وجل, ويرضي رسوله صلى الله عليه وسلم, لذلك قال لولي الزوجة: قبلت زواجها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
عقد الزواج ميثاق غليظ قطعه الرجل على نفسه حيث قرأ قول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُن بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنّ َ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}.
عقد الزواج ميثاق غليظ قطعه الرجل على نفسه حيث سمع حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا, فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ, وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاهُ, فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ, وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ, فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا) رواه البخاري ومسلم.
الميثاق الغليظ ذُكِر في القرآن مرتين:
أيها الإخوة: لو تدبَّرنا القرآن العظيم فإننا نجده قد تحدَّث عن العقود بشكل عام, فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}, ولكن عندما تحدَّث عن عقد الزواج وصفه بقوله: {مِّيثَاقًا غَلِيظًا} فقال تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا}.
وذكر الميثاق مرة ثانية بأنه غليظ أي قوي وعظيم عند أخذ العهد والميثاق على الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام, فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا}.
فالميثاق بين الله ورسله وُصِف بأنه ميثاق غليظ, وكذلك الميثاق والعهد بين الرجل والمرأة وُصِف بأنه ميثاق غليظ.
فهل شبابنا حفظوا هذا الميثاق أم ضيَّعوه في حياتهم الزوجية؟
خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:
أيها الإخوة: عقد الزواج عقد محبة ووئام بين الرجل والمرأة, وعقد تكافل وتكامل وتعاون, وليس عقد مصارعة وملاكمة, وليس عقد إثبات للوجود, من هو الأقوى؟
أيها الإخوة الشباب: احذروا أن تقولوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُون}, اجعلوا قدوتكم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في زواجكم, وانظروا كيف كان يتعامل صلى الله عليه وسلم مع نسائه, الذي أجرى عليهنَّ العقد الذي وصفه ربنا عز وجل بقوله: {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا}.
أسأل الله تعالى أن يُخَلِّقَنا بأخلاق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن نخرج من هذه الدنيا بسلامة, وأن نستوصي بنسائنا خيراً, امتثالاً لأمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا), سمعاً وطاعةً يا سيدي يا رسول الله.
أقول هذا القول وكلٌّ منا يستغفر الله, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم