الإسلام يوازن بين الدين والدنيا فهو يتميز بالاعتدال

الشيخ ندا أبو أحمد


ويمتاز التشريع الإسلامي بأنه تشريع وسط يقوم على أساس من الاعتدال؛ الاعتدال في كل شيء؛ في التعبد، بحيث لا يتشدد المسلم ولا يتحلل: "إن هَذَاَ الدينَ مَتِيِنٌ فَأَوْغِلْ فِيِهِ بِرِفْقٍ..."؛ (رواه الإمام أحمد).


وفي الحياة المعيشية، بحيث لا يُسرف ولا يبخل: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ﴾ [الإسراء:29].

وفي الأكل والشرب، بحيث لا يبالغ الإنسان فيهما مبالغة تصيبه بالتخمة التي تنشأ الأمراض عنها، ولا يقتصد اقتصادًا يلحق به الضعف والهزال.


في كل شؤون الحياة يتطلب الإسلام الاعتدال، ليكون بمثابة تطبيق للأساس الذي قام عليه بناء الأمة الإسلامية؛ قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة:143]، قال البخاري -رحمه الله -:﴿وَسَطًا؛ أي: عُدولًا هكذا يقف الإسلام دينا وسطًا معتدلًا، والاعتدال هو عدم الإفراط أو التفريط، وإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان:67].

فالإسلام يريد من المسلم أن يبلغ الكمال المقدَّر له بتناسق في جميع شؤونه، فلا يُقْبِلُ على جانب واحد أو عدة جوانب ويبلغ فيه المستوى العالي من الكمال، بينما يهمل الجوانب الأخرى.


ويظهر هذا في قول سلمان لأبي الدرداء - رضي الله عنهما -: "إن لربك عليك حقًّا، وإن لنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فأتى أبو الدرداء النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان"؛(رواه البخاري).


وكذا لَمَّا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض أصحابه أنه قال: "أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الثاني: وأنا أصوم ولا أُفطر، وقال ثالث: وأنا لا أتزوج النساء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأعلمهم بالله، وأشدَّهم له خشية، ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمَن رغب عن سنتي فليس مني"، وصدق الله تعالى حيث قال: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾[القصص:77].

فالإسلام لم يطلب من المسلم أن يكون قائمًا ليله، صائمًا نهاره، لا حظَّ له في الحياة، وإنما طلب الإسلام من المسلم أن يكون متصلًا بربه، عاملًا في الدنيا، يسعى لإعمارها، ويلتمس الرزق في مناكبها، ومما يدُل على هذا التوازن بين الدنيا والآخرة قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 9 ،10].

ففي هذه الآية يتضح أن يوم الجمعة قبل الصلاة يجوز البيع والشراء ومتطلبات الحياة، فإذا حان وقت الصلاة سعى الناس إليها، وتركوا البيع والشراء ومشاغل الحياة، وبعد الانتهاء من الصلاة فلا مانع من الانتشار في الأرض وابتغاء الرزق، مع عدم الغفلة عن ذكر الله في كل حال، فهو أصل الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة.


فالتوازن والاعتدال والوسطية من أبرز خصائص الدين الإسلامي، فهو يوازن ويجمع بين متطلبات الرُّوح، ومتطلبات الحياة؛ يقول الشيخ السعدي - رحمه الله - في كتابه (الدرة المختصرة في محاسن الدين الإسلامي ص 21):
"إن هذه الشريعة جاءت بإصلاح الدِّين وإصلاح الدُّنيا، والجمع بين مصلحة الرُّوح والجسد، وهذا الأصل في الكتاب والسُّنَّة منه شيء كثير، يحثُّ الله ورسولُه على القيام بالأمرين، وأن كل واحد منهما ممد للآخر، ومعين عليه، والله تعالى خلق الخلق لعبادته، والقيام بحقوقه، وأدرَّ عليهم الأرزاق، ونوَّع لهم أسباب الرزق وطرق المعيشة، وليستعينوا بذلك على عبادته، وليكون ذلك قيامًا لداخليتهم وخارجيتهم، ولم يأمر بتغذية الروح وحدها وإهمال الجسد، كما أنه نهى عن الاشتغال باللذات والشهوات، وتقوية مصالح القلب والروح"؛ اهـ.


وقال الشيخ محمد عبد الفتاح عفيفي في كتابه "جوانب من عظمة الإسلام" ص 154 – 158: "الإسلام الحنيف لا ينحاز إلى المادة، ولا يُؤْثِر عليها الروح، وإنما يأخذ بهما معًا، ويجعلهما يسيران في خطين متوازيين، لا يطغى أحدهما على الآخر، ودستوره في ذلك قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ [القصص:77].

فالإسلام يمزُج في تعاليمه – سواء أكانت قرآنًا أم سُنَّة – بين دعوته إلى تحقيق مصالح الدين، وتحقيق مصالح الدنيا، ويجعل هاتين المصلحتين متلازمتين لزوم الروح للجسد، غير أنه وضع ضوابط لطلب الدنيا، تتلخص هذه الضوابط في طلبها لغايات سامية نبيلة، منها: أن يصون الإنسان نفسه عن الحاجة، وينأى بنفسه عن المسألة، ويوفر لعياله ما يحتاجون إليه، ويتوفر عنده ما يمكِّن مِن مَدِّ يد العون والمساعدة إلى من كان في حاجة إلى معونته ومساعدته، وأن يكون طلبها من طريق حلال مشروع، وألا يكون للتفاخر والتكاثر فحسب، فإن توافرت تلك الضوابط كان طلب الدنيا حينئذ عبادة يثاب عليها المرء أحسن مثوبة عند الله عز وجل، أما إن كان طلب الدنيا لا لهذه الغايات السامية النبيلة، بل كان للتكاثر والتفاخر ضاربًا عُرض الحائط بهذه الغايات التي حثَّ عليها الإسلام، كان هذا تكالبًا مَمقوتًا، يُعاقَب فاعلُه أشدَّ العقاب في نار جهنم يوم القيامة؛ قال صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ طَلَبَ الدنْيَا حَلالًا مُفَاخِرًا، مُكَاثِرًا، مُرَائِيًا، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ"؛ (رواه الطبراني في الأوسط).

لقد دعا الإسلام إلى ألوان شتى، يُعد كل لون منها مظهرًا من مظاهر الدنيا، ونموذجًا من نماذجها المتعددة.


1- لقد دعا المسلم أن يعمل في صبر ومثابرة حتى يوفر لنفسه ولمن يعول عيشة سعيدة، وحياة كريمة، يهنأ فيها بدنياه في حدود ما شرعه الله عز وجل، وفي الوقت نفسه يتخذ دنياه مزرعة لآخرته ومعبرًا إليها.


2- دعا الإسلام المسلم إلى أن يهتم بالأرض، وبفلاحتها، وبيَّن نبيُّ الإسلام صلى الله عليه وسلم أن العمل في الأرض عبادة، فقد أخرج الشيخان البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ يَغْرِسُ المُسْلِمُ غَرْسًا وَلَا يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ وَلاَ دَاَبَّةٌ وَلاَ شيء، إِلَا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً".


3- وإلى نظافة الطريق وتعبيده، أجل! لقد اهتم الإسلام بتعبيد الطريق للمارة، وجعله ممهدًا حتى يسهل على الناس سلوكه، ويأمنوا على أنفسهم من كل ما يكون سببًا في إيذائهم، وجعل تنحية الأذى عن الطريق، وهو كل ما يضر بالمارة أو يؤذيهم - من أحسن ما يتقرب به العبد إلى الله عز وجل، والإهمال في هذا أو التسيب في جعله قذرًا، من الأعمال السيئة التي يعاقب عليها المرء بين يدي الله عز وجل، ويلام عليها؛ روى الإمام مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الْأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطرِيقِ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِئ أَعْمَالِهَا النخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ، لَا تُدْفَنُ".


وربما ينظر أحدنا إلى تنحية الأذى عن طريق المارة نظرة لا تخلو من كثيرٍ من عدم الاكتراث، مع أن ذلك يُعد شعبة من شُعَبِ الإيمان في نظر الإسلام؛ روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَدْنَاهَا اِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ".


ويَعدُ فاعله بثوابٍ عظيم في جنةٍ عرضها السماوات والأرض؛ يروي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَقَد رأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجنَّةِ فِي شَجرةٍ قطَعها مِنْ ظَهْرِ الطَّريقِ كَانَتْ تُؤْذِي الْمُسلِمِينَ".


4- إن الإسلام واقعي في منهجه، يُشرَّع للآخرة الباقية، كما يُشرَّع للدنيا الفانية، إنه شرع في شمولية لا مثيل لها تشريعًا يكفل إشباع حاجات الفرد المسلم إشباعًا لا يتجاوز حدود ما أحلَّه الله تبارك وتعالى وأجازه.


وإذا كانت الحاجة الجنسية من أبرز مظاهر الدنيا، فإن الإسلام العظيم لم يغفلها، بل جعل إشباعها عبادة يُثاب عليها المرء أعظمَ مثوبة، ما دام الإشباع بالطريقة التي شرعها الله سبحانه وتعالى، وقد أخرج الإمام مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن ناسًا قالوا: يَا رسُولَ اللَّهِ، ذَهَب أهْلُ الدُّثُور بالأجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّى، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُون َ بَفُضُولِ أمْوَالهِمْ، قال صلى الله عليه وسلم: "أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفْىِ بُضْعِ[1] أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ"،قالوا: "يَا رسُولَ اللَّهِ، أيَأتِي أحدُنَا شَهْوَتَه، ويكُونُ لَه فِيهَا أجْر؟ فقال: "أَرَأَيْتُمْ لو وَضَعَهَا في حَرَامٍ أَكانَ عليه فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذلكَ إذَا وَضَعَهَا في الحَلَالِ كانَ له أَجْرٌ؟".


وإشباع حاجته وحاجتها الجنسية صدقة، يا لعظمة الإسلام المُفترى عليه، وسُمو تعاليمه، وسماحة آدابه، وواقعية منهجه! أرأيتم دينًا يجعل الاستمتاع بِمُتع الحياة الدنيا عبادة يُثاب عليها المرء غير الإسلام الحنيف...؟ اللهم لا!


ثم يدعو الإسلام إلى الصناعة، والتداوي، والعلاج، واتخاذ الحرفة، وكل ما ينفع الناس ويصلح شؤون دنياهم.


لقد تبيَّن لنا في جلاء ووضوح أن الإسلام ليس دين مِحْراب، وصلاة وصوم، وحج، فقط، وإنما هو شريعة ودولة، ودين ودنيا، وأن مفهوم العبادة فيه تتسع دائرته حتى تشمل جوانب الحياة بطولها وعرضها، ولا غَروَ! فهو دين الله سبحانه وتعالى الخاتم، الصالح لكل زمان ومكان، والمصلح لكل زمان ومكان، أرسل الله تعالى به إمام أنبيائه، وخاتم مرسليه لخير البشرية كلها في معاشها ومعادها، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا ﴾ [المائدة:3].

وقال ر.ف بودلي - في بيان أنها شريعة تجمع الديني والدنيوي معًا من غير فصلٍ أو تفريق، وترعى العباد في دنياهم وأخراهم -: "لقد كان محمد على نقيض من سبق من الأنبياء؛ فإنه لم يكتف بالمسائل الإلهية، بل تكشفت له الدنيا ومشاكلها، فلم يُغْفِل الناحية العلمية الدنيوية في دينه، فَوَفَّقَ بين دنيا الناس ودينهم، وبذلك تفادى أخطاء من سبقوه من المصلحين الذين حاولوا خلاص الناس عن طريق غير عملي، لقد شبَّه الحياة بقافلة مسافرة يرعاها إلهٌ، وأن الجنة نهاية المطاف"[2].
===========================
[1] البُضْع: هو جماع الزوجة وإشباع الحاجة الجنسية. فقوله: "وفى بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ" أي: إتيان الرجل زوجته.

[2] نبي الإسلام في مرآة الفكر الغربي للدكتور عز الدين فراج ص 66.