العلم والأخلاق



د. أحمد محمد كنعان


على الرغم مما شهده التاريخ ومازال يشهده بين الحين والآخر من تعارض وجدل شديد بين العلماء من جهة ، وبين أهل الأديان والأخلاقيين من جهة أخرى حول بعض المسائل العلمية ، فإن العلماء وأهل الأديان والأخلاقيين قد تواضعوا حتى الآن على الكثير من الضوابط التي تستهدف تقنين البحث العلمي وبيان حدود الحرية فيه ، ولن نخوض هنا في تفاصيل هذه الضوابط ، ولكننا سنتوقف عند بعض الملاحظات المهمة التي نود التذكير بها قبل الخوض في بيان العلاقة ما بين البحث العلمي والأخلاق ، وهي :
(1) أن معظم الباحثين على مرِّ العصور لم يحفلوا بالحدود المتعارف عليها دينياً ولا قانونياً ولا أخلاقياً ، فكانوا مثلاً يسرقون جثث الموتى من المقابر بقصد تشريحها ودراسة تركيب الجسم البشري ، إذ لم تكن القوانين ولا الأعراف ولا الأديان تبيح التشريح ، ومازال هذا السلوك غير المنضبط هو ديدن الباحثين في كثير من بقاع الأرض حتى اليوم ، وهناك اليوم مراكز بحث سرية عديدة في العالم تجرى فيها تجارب وأبحاث لم تأذن بها القوانين ولا الأعراف ولا الأديان بعد ، مثل تجارب الاستنساخ البشري ، حتى إن أحد علماء التناسل الإيطاليين وهو ( سيفرينو أنتنوزي ) صرح بقوة في عام 2001 أنه لو منع من متابعة تجاربه لاستنساخ البشر فسوف يجريها في عرض البحر خارج المياه الإقليمية .. ولابد من الإقرار هنا بأن هذا الموقف من الباحثين ـ على ما فيه من جنوح وتجاوز للأعراف والأخلاق والأديان ـ فقد أتاح للكثير من الكشوف والإنجازات العلمية أن ترى النور ، وأن تقدم للبشرية خدمات جليلة كانت ستحرم منها لو أن الباحثين التزموا بتلك الحدود وتوقفوا عن البحث والتجريب .
(2) أن الحدود التي كان يُطلب من العلماء أن يتوقفوا عندها أثبتت الأيام أنها في الغالب حدود واهية أو موهومة لا تقوم على أسس علمية قوية ، أو أنها تستند إلى تأويلات غير دقيقة للنصوص الدينية ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، قديماً وحديثاً ، نذكر منها : موقف الكنيسة في أوروبا في العصور الوسطى من قضية دوران الشمس والأرض بحجة أن أقوال العلماء تخالف ما جاء في الكتاب المقدس ، وتحريم فقهاء المسلمين الأوائل لتشريح جثث الموتى من البشر ، بحجة أن فيه تمثيلاً وإهانة للميت ، وكذلك تحريم بعض الفقهاء في العصر الحديث لعمليات نقل الدم ، وزراعة الأعضاء ، وطفل الأنابيب ، والاستنساخ ..
(3) أن الموقف الأخلاقي للمجتمع كان يتغير بمرور الوقت لصالح العلماء ، فالذين سارعوا لمعارضة بعض الإجراءات الطبية التي ذكرناها آنفاً عادوا فأباحوها لاحقاً عندما لمسوا فوائدها .
(4) هذا التبدل في الموقف الأخلاقي للمجتمع ، ولاسيما الموقف الديني ، لا يرجع إلى علة في نصوص الوحي ، بل يرجع إلى قدرة الفقهاء في كل عصر على الاستبصار الصحيح بمقاصد تلك النصوص ، وهذه نقطة مهمة يجب الانتباه إليها جيداً لما لها من علاقة قوية بحرية البحث العلمي ، وهي توجب على أهل الشريعة أن يتريثوا طويلاً قبل أن يصدروا أحكامهم على ما يستجد من بحوث أو اكتشافات علمية أو تجارب ، فإن مسيرة البحث والكشف والتجريب لن تتوقف مادام هناك علماء مدفوعون بشغف إلى كشف المجهول ، وإن من يستقرئ تاريخ العلوم ليدرك هذه الحقيقة بوضوح ، حتى ليخيل لنا أن هناك برنامجاً إلهياً موقوتاً تمضي البحوث العلمية على منواله قدماً إلى الأمام للكشف عن سنن الله في خلقه ، واستكمال عمارة هذا الوجود ، ولا فرق ـ في تقدير الله عزَّ وجلَّ ـ أن تتم هذه العمارة على أيدي المؤمنين أو الكافرين (( كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك )) .

الحدود الأخلاقية للبحث العلمي :
ولكن .. هل معنى هذا أن نترك الباب مفتوحاً على مداه ليبحث من شاء في ما يشاء ، وكيفما يشاء ، دون ضوابط أخلاقية على الإطلاق ؟! بالطبع لا ، فهناك ضوابط فنية لابد من مراعاتها ، وضوابط أخلاقية ودينية لا يصح تجاهلها ، إلا أننا اليوم مضطرون أكثر من أي يوم مضى إلى نظرة أوسع لمسيرة البحث العلمي ، آخذين بعين الاعتبار المرحلة التي وصل إليها ، وطبيعة التحديات التي بات يواجهها ، ولأجل هذا نرى أن تقتصر الضوابط اللازمة للبحث العلمي على الشروط التالية :
1. أن يكون للبحث العلمي جدوى وفائدة مرجوة ، وهذا يترك تقريره لأهل العلم في الفرع العلمي ذي الصلة .
2. أن يراعي البحث العلمي كافة القواعد الفنية المقررة علمياً .
3. أن يتوسل الباحث بالوسائل المتعارف عليها أخلاقياً .
4. إذا استنفد الباحث كافة الوسائل المباحة أخلاقياً واضطر لارتكاب محظور من المحظورات الأخلاقية لإكمال البحث جاز له ذلك ، ولكن بشرطين يقررهما الأخلاقيون والباحثون معاً ، وهما :
- أن يكون البحث ضرورياً لحل مشكلة تعاني منها البشرية ، سواء كانت المشكلة قائمة حالياً ، أو يرجح العلماء حصولها ولو بعد حين .
- أن تكون الفائدة المرجوة من البحث أرجح من المفسدة المترتبة على ارتكاب المحظور الأخلاقي .
وإننا مع احترامنا الكبير للمواقف المتشددة التي يقفها بعض الأخلاقيين من بعض البحوث العلمية الجديدة التي تنطوي بتقديرهم على احتمالات غير مرغوبة ، كالاستنساخ البشري مثلاً ، فإننا نرى أن لا نعطي مثل هذه الاحتمالات والمخاوف أكبر من حجمها ، وأن لا نجعلها عائقاً في سبيل البحث العلمي الذي يتسم كما قدمنا بسمات خاصة تحتم علينا توفير مساحة واسعة للبحث لكي يعطي ثماره المرجوة ، فالبحث العلمي هو بحث في المجهول ، وهو إلى حد بعيد ضرب من التجريب في ساحة معتمة نرجو أن نعثر فيها على حقيقة ما .
هذا ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن البحث العلمي حتى حينما يفشل بتحقيق أهدافه فإنه لا يخلو من فوائد ، فهو على سبيل المثال يفيدنا في تطوير طرائق البحث العلمي ، ويجعلنا أقدر على تحقيق أهدافنا مرة بعد مرة ، وهذا يذكرنا بالعالم الأمريكي أديسون مخترع المصباح الكهربائي الذي أضاء العالم ، فبعد أن أجرى نحو مائتي تجربة فاشلة ، أشفق عليه مساعدوه وطلبوا منه أن يتوقف ، فكان جوابه : لقد تعلمت حتى الآن مائتي طريقة لا تؤدي إلى جعل المصباح يضيء ، وهذا جيد ! بمثل هذه النظرة الإيجابية للبحث العلمي يمكن أن نفتح الطريق إلى إبداعات جديدة .

د. أحمد محمد كنعان