الآثار الاقتصادية لنظام الميراث في الإقتصاد الإسلامي
عبدالله محمد قادر جبرائيل
الشريعة الإسلامية والميراث
خصائص نظام الميراث الإسلامي
الآثار الاقتصادية لنظام الميراث في الإقتصاد الإسلامي
1- التوزيع العادل للثروات والأموال
2- إعادة توزيع الثروة بشكل عادل
3- نمو الطبقة الوسطى الضرورية لعمليات النمو والتنمية الاقتصاديِّيَن
الأضرار التي تلحق الإقتصاد في غياب الطبقة الوسطى
4- كسر الحلقة المفرغة التخلفية والتوجه نحو الرّواج والتوسع :
5- تفعيل المضاعف الاستثماري (الإرثي أو الميراثي)
6- ازدياد الكفاءة في استخدام الموارد الاقتصادية
7- ازياد العرض الكلي للسلع والخدمات الضرورية المنتَجة في البلاد:
8- تقوية الروابط الإجتماعية الأسرية
9- تقليل التفاوت الشديد بين أفراد المجتمع
10- محاربة الفقر والمسكنة والعوز وخدمة هدف التشغيل الكامل
11- تفعيل النشاطات الاقتصادية والعمليات التنموية
12- العدالة في التوزيع على أساس المنظور المتساوي والتقسيم التفاوتي للميراث
13- تحقيق التكافل الاقتصادي
14- نجاع سلوك الاستثمار الفردي
15- منع التركز الرأسمالي الطاغي
16- تحقيق السلام والطمأنينة الاقتصادية
17- تحقيق العدالة الاجتماعية
الحرمان من الميراث في العصر الجاهلي
الآثار الاقتصادية لنظام الميراث في الإقتصاد الإسلامي
الآثار الاقتصادية لنظام الميراث في الإقتصاد الإسلامي :
الشريعة الإسلامية شريعة ربانية، نزلت لتنظيم علاقة الناس ببعضهم البعض، وتنظيم علاقتهم مع ربهم ومع أنفسهم، وهي لا تنحاز لأحد على حساب أحد، بل تضع الأحكام العادلة لكل القضايا، ومن ذلك ما يتعلق بتقسيم الميراث بعد الوفاة. ففي بعض النظم المعاصرة الوضعية يقسم الإنسان ثروته كما يشاء، وقد يعطي صديقه ويحرم ولده أو أخاه، وهكذا كان في الجاهلية يقسم الميراث باعتبارات تتناسب مع مفهومهم عن الحياة الاجتماعية، فكانوا لا يورِّثون إلاّ من يدافع عن العشيرة بسلاحه، وهذا يعني حرمان النساء والأطفال الذين هم أكثر الناس حاجة إلى مال يبدؤون فيه حياتهم بما يغنيهم عن الحاجة للآخرين، وما يتبعه من استعبادهم بطريقة أو بأخرى.
وأما الشريعة الإسلامية فقد جاءت لتعطي كل ذي حق حقه، حيث أعطت الرجال وأعطت النساء بحسب درجة القرب من الشخص المتوفى، وبحسب الأعباء الاقتصادية التي كُلِّف بها كل شخص في المجتمع. وعلى هذا الأساس قام نظام الميراث، وهو في الشريعة الإسلامية يعتبر تملكًا إجباريًّا.
بمعنى أن الشخص إذا توفي انتقلت ملكية تركته إلى ورثته بنسبة ما لكل واحد منهم من حصة في التركة بموجب التقسيم الشرعي، فلا يستطيع المورِّث أن يحرم وارثاً، ولا أن يغير مقدار حصته، كما لا يستطيع الوارث أن يرفض ما كتب الله له من حصة في الميراث، ويمكن له أن يتنازل عن حصته، لكن بعد أن تثبت ملكيتها له. ومن ذلك أن الشريعة الإسلامية جعلت للمرأة حقًّا في ميراث أبيها وأخيها وابنها وزوجها وغيرهم من القرابات، وقد كانت محرومة منها في الجاهلية (1).
الشريعة الإسلامية والميراث
تتميز الشريعة الإسلامية بامتلاك أنظمة مالية فريدة لم يسـبق لها أن وجدت أو طبقت من قبل، بعضها فرض ديني كالـزكاة، وبعضها الآخر وسـيلة لتطبيق أحكام شرعية كنظام الميراث. فامتازت هذه الأنظمة بمزج روحي ومادي، وأعطى الإسلام الميراث اهتمامًا كبيرًا، وعمل على تحديد الورثة أو من لهم الحق في تركـة الميـت، ليبطـل بذلك ما كان يوجد في الجاهلية قبل الإسلام من توريث الرجال دون النساء، والكبار دون الـصغار، والأقوياء دون الضعفاء. فجاء الإسلام ليبطل ذلك كله لما فيه من ظلم وجور وأكل لأموال الناس بالباطل، وحدّد لكل مستحِق من الذكور والإناث حقه في التركة؛ وكما يتبين في هذه الآيات من قول الله تعالى:
{ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } (النساء :11).
{ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } (النساء:12).
{ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (النساء:176).
ولقد ألغى الإسلام كل النظم الاستبدادية، وسنَّ أحكام الإرث ليضمن للضعيف حقه؛ ويحفظ له كرامته؛ ويساوي في المنظور بينه وبين القوي، وبين الكبير والصغير، وبين الرجل والمرأة، فلكل واحد نصيب مفروض وحق محدد في القرآن الكريم.
الميراث هو انتقال مال الميت شرعاً إلى مستحقيه من ورثته الأحياء، سواء كان المتروك نقوداً، أو عقاراً، أو نحوه. أو هو اسم لما يستحقه الوارث من مورثه بسبب من أسباب الإرث، أو هو انتقال مال الشخص إلى الغير على سبيل الخلافة. وقيل إن الميراث هو استحقاق الإنسان لشيء بعد موت مالكه بسبب مخصوص وشروط مخصوصة.
وقد تكفل الله تعالى بتحديد أنصبة الورثة تحديداً دقيقاً، ولم يتناول القرآن الكريم أمراً من الأمور التشريعية بالتفصيل كما فعل بالميراث، لما له من أهمية بالغة، لكي لا تزيغ النفوس وتتلاعب الأهواء؛ ومن ثَمَّ يحرم أصحاب الحقوق من حقوقهم، كما أن الله عز وجل هو الذي خلق البشر وهو وحده العليم بما يصلح لهم وما يضرهم، لذلك اقتضت حكمته تعالى أن يشرع لهم هذه الأنصبة البالغة الدقة، تحقيقاً للعدالة والمصلحة بين الناس (2).
والميراث يعمل على:
تفتيت الثروة المتجمعة – المتراكمة.
إعادة توزيعها من جديد مما لا يدع مجالاً لتراكم الثروة وتكدسها في أيدٍ طبقات قليلة من المجتمع.
إعادة التنظيم الاقتصادي في الأسرة ورده إلى الاعتدال دون تدخل مباشر من الدولة، فتقبل عليه الأنفس بالرضا والتسليم.
فإذا كان في العائلة أبناء وبنات وأب وأم وزوج فإن كلاً من هؤلاء تكون له حصة في الإرث بما يضمن تفتت الثروة وانتشارها بين الأفراد. فالقضية في توزيع الميراث ليست قضية ترضية الوارثين ومتابعة الأهواء، وإنما هي قضية نظام يحقق العدالة؛ ويعمل على توزيع الثروة بانتظام؛ وعدم جور وظلم؛ فلا يحابي أحداً، ولا يقصي غيره؛ فهو تقسيم ما ترك الوالدان والأقربون كنصيب مفروض للرجال والنساء؛ وعلى الأنصبة الشرعية التي نصَّ عليها القرآن الكريم، وعلى أساس العدل الذي يجب إعماله لتحقيق استقرار المجتمعات وبناء طمأنة الأفراد فيها.
خصائص نظام الميراث الإسلامي
نظام الميراث في الإسلام نظام إلهي لا دخل للبشر في ترتيبه. الحقوق فيه مترتبة من قبل الشارع لكل من قام به سبب الإرث عند وفاة المورِّث، حيث يعطي كل وارث نصيبه المقدر له إن كان من أصحاب الفروض، أو يأخذ الباقي من أصحاب الفروض إن كان يرث بالتعصيب. ولا يحرم من الميراث أحد ممن قام به سبب الإرث، إلاّ أن يكون قاتلًا لمورثه أو مختلفًا معه في الدين (3).
ولم يمنع الإسلام المرأة من الإرث كما هو الحال في الشرائع الجاهلية القديمة والوضعية المعاصرة، ولم يمنع الطفل وحتى الجنين في الرحم من الإرث، كما كان الحال في الأعراف القبلية القديمة، حيث كان لا يُعطى من التركة إلاّ الرجال الأقوياء. ولم يميز الإسلام عند توزيع الأنصبة في الإرث بين الكبير والصغير، كما في شريعة اليهود، حيث يُعطى فيها الابن الأكبر للمتوفى ضعف ما يُعطى للأصغر.
ومن خصائص نظام الميراث الإسلامي:
إنه نظام محدد شرعاً لكلا طرفي المورِّث والوارث: فليس للمورِّث حرمان أحد من الميراث، وليس للوارث رد إرثه من قريبه، خلافاً لبعض النظم الوضعية التي تجعل حق الإرث اختيارياً لكليهما.
القطع في ترتيب الأشخاص والأنصبة: وضعت الشريعة موقع الأفراد وحجم أنصبتهم في الميراث، فلا يمكن لأحد تغييرها أو تبديلها.
الحجر على المريض المخوف عليه من الموت لصالح الورثة: حرصت الشريعة الإسلامية على حفظ حق الورثة في مال قريبهم قبل موته، إذا مرض مرضًا يسلمه إلى الموت، حيث منعته من التصرف في ماله بما يضر بورثته أو يضيع حقوقهم في ماله، بعد أن تركت له الحق أو الحرية في الإيصاء بثلث ماله.
تعليق الشريعة الإسلامية تركة الميت بأحب الناس إليه وأكثرهم صلة به، وتعاوناً معه في حال حياته.
جعلت التوارث داخل نطاق الأسرة الواحدة، بما يحقق الترابط بين أفرادها.
جعلت الشريعة الإسلامية أساس تقديم بعض الورثة على بعض بناءً على قوة القرابة، وشدة الصلة بالميت، واتصال المنافع بين الوارث والمورث. جعل الإسلام الميراث محصورًا في دائرة الأسرة لا يتعداها، فلا بد من نسب صحيح أو زوجية قائمة، والولاء يشبه صلة النسب فكان ملحقـًا به، وهؤلاء هم أكثر الناس صلة بالميت، وأشدهم تعاونـًا معه ، وفي هذا صلاح الأسرة، وإحكام الروابط بين أفرادها وتقوية أواصر المودة فيها، وجعلها متعاونة على تحقيق الخير والسعادة في حياتها .وفي دائرة الأسرة يفضل الإسلام في مقدار الأنصبة الأقرب فالأقرب بالنسبة للميت، ممن يعتبر شخصه امتدادًا لشخص الميت كالأولاد والأب، فالإسلام قد جعل الأساس في تقديم بعض الورثة على بعض قوة القرابة ، واتصال المنافع بين الوارث والمورث (4).
نظام الميراث فى الإسلام يحول دون جمع الثروة فى يد واحدة على حساب الآخرين، ويؤدى إلى تقسيم الثروة على أكبر عدد من المستحقين للتركة، فيستفيد من خيرها طائفة كبيرة من أقارب الميت.
الوسطية: للإسلام موقف وسط في كل الأمور الاقتصادية؛ ومن ضمنها أمور الميراث، لذلك فإن الاقتصاد الاسلامي اقتصاد وسط وبعيدة عن: التشديد المفرط والرخاوة المطلقة، وعن الإفراط والتفريط، والإسراف والتقتير. فالله تبارك وتعالى جعل هذه الأمة وسطاً. يقول الله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } ( البقرة:143)، والاقتصاد الإسلامي له أدواته وعوامله وأهدافه ومنظوره الخاصة به، فهو اقتصاد مستقل غير تابع لأي اقتصاد آخر؛ وغير نابع من أحد منها، ولا هو وسط حسابي بين الاشتراكية الوضعية والرأسمالية الوضعية، لذا من الخطأ القول بأن الاقتصاد الإسلامي نابع من الوسطية الحسابية بين هذين النظامين الوضعيين. فالاشتراكية في أصولها الأولى كانت ترفض مبدأ الإرث ، وتعتبره ظلمـًا يتنافى مع مبادئ العدالة، فلا تعطي أبناء الميت وأقاربه شيئـًا مطلقـًا، والرأسمالية الوضعية أيضاً تترك الحرية كاملة للرجل يتصرف في ماله كما يشاء دون ضوابط، فله أن يحرم أقاربه كلهم من الميراث، وله أن يوصي بماله إلى غريب من صديق أو خادم، وله أن يوصي بماله كله إلى جهة أو منظمة أو مكان أو أندية معينة أو حتى إلى حيوان لا يعقل، وما يشبه ذلك من الوصايا الغريبة. أما الإسلام فقد أعطى للإنسان الحرية في أن يتصرف في ثلث ماله فقط، فله أن يوصي أو يهب في حدود ثلث، يوصي به لمن يشاء على أن يكون لجهة خير، أو لمن ينتفعون به، ولا تجوز الوصية إلى جهة محرمة، ولا إلى حيوانات مثل الكلاب والقطط والخيول، أما الثلثان الآخران فهما لأقاربه، أو من تربطه بهم صلة قوية كالأقارب أو الموالي، وهو حق طبيعي لهم لا يملك المورث التصرف فيه ولا منعهم منه، وبذلك يكون الإسلام قد حفظ حق الورثة في حياة صاحب المال، فبمجرد نزول مرض الموت بالإنسان تقوم الشريعة الاسلامية بالحجر عليه، ومنعه من التصرفات إلاّ في حدود الثلث، فليس له أن يتصرف تصرفـًا يضر بالورثة أو يفوت عليهم حقهم.
واشترط الإسلام في صحة الوصية كذلك أن لا يقصد بها مضارَّة الورثة، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ﷺ: “إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الخَيْرِ سَبْعِينَ سَنَةً. فَإِذَا أَوْصى حَافَ فِي وَصِيَّتِهِ. فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الشَّرِّ سَبْعِينَ سَنةً. فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ، فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ، فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ ” (سنن ابن ماجه-رقم الحديث: 2704).
ولذلك فالأولى بصاحب المال القليل أن لا يوصي بشيء من ماله حفظـًا لحق الورثة ، سيما إذا كان المال لا يسمح بقضاء حاجات الورثة ، وخاصة إذا كان الورثة صغارًا بحاجة إلى تربية ونفقة(5).
الآثار الاقتصادية لنظام الميراث في الإقتصاد الإسلامي
إن لنظام الميراث الإسلامي آثار إقتصادية كبيرة على الصعيدين الجزئي-الفردي أو العائلي- والكلي للدولة في اقتصاديات البلدان الاسلامية، حيث يؤدي إلى سيادة الطمأنينة والاستقرار والسلام؛ والعدالة في توزيع الثروات؛ وازياد العرض الكلي من السلع والخدمات فيها، وفيما يلي تحديد لأهم هذه الآثار:
1- التوزيع العادل للثروات والأموال
إن توزيع الميراث وفق الأدلة الشرعية هو أكبر وآخر توزيع عادل للثروة بالنسبة للفرد المسلم، حيث يضمن الاقتصاد الاسلامي مستوى حدّ الكفاية له أثناء حياته، ويحفظ له: دينه وعقله ونسله وعرضه وماله، ويحافظ على كيانه وكرامته، ثم بعد موته يحفظ له وصيته وحقوق أهله من ثروته، ولا يسمح بتبديده وهدره أو حصول غير المستحقين على ثروته، بالإضافة الى كل هذا فإن النظام الميراث الإسلامي يؤدي إلى توزيع الثروة بين أكبر عدد من الناس، وهو بذلك:
يقلل من حدة التفاوت بين الناس.
يحدّ من تكدس الثروة بيد الأغنياء.
يمتاز بأنه توزيع عادل يتلاءم مع ما تقتضيه الفطرة البشرية.
يُشعر جميع أطراف المجتمع الاسلامي بالرضا والاطمئنان تجاه هذا التوزيع (6).
2- إعادة توزيع الثروة بشكل عادل
يلعب الميراث الإسلامي دورًا مهما في إعادة توزيع الثروة بين أفراد المجتمع الإسلامي من كِلا الجنسين الذكر والأنثى (7)، وهو توزيع ثابت؛ عكس الضريبة الوضعية التي تخضع لتقلبات القوانين الوضعية، وبالتالي يمكن الاعتماد عليه في رسم التوقعات الاستثمارية لدى الأسر التي تتمتع بثروات مهمة، كما أن خضوع توزيع الإرث لأحكام الشريعة الإسلامية يحول دون الخطأ في تقدير أنصبة الأفراد ويجعل من تلك التوقعات أداة ناجعة في سلوك الاستثمار بالنسبة للأفراد.ونظام الميراث يؤدي إلى تداول الثروة، وهو الهدف الأسمى للنظام الاقتصادي الإسلامي ، حيث تنتقل الثروة من يد إلى يد؛ وتتحرك ولا تتوقف؛ ويتم من خلاله تداولها بين جميع أفراد المجتمع الاسلامي.
ومن المعروف أن تداول المال في الميراث يكون من الميت إلى أياد جديدة ما زالت في إقبال على العمل بجدّ ونشاط، وهذه الأيادي الجديدة لا بدَّ أن تقوم بواجب الاستثمار في المال الذي وصل إليها، ويترتب عليه تحقيق الاستثمار وتداول المال والتنمية الاقتصادية.
إن الشريعة الإسلامية في تقسيمها للمال الموروث على المستحقين يتجه إلى التنويع الشخصي دون التجميع أو التكتيل، حيث لم تجعل وارثا معينا ينفرد بالتركة في أغلب الأحيان، وإنما قسمها على أكبر عدد من أقارب الميت، وجعلت لكل منهم نصيبا مفروضا، فأعطت الأبناء والبنات، والآباء والأمهات والأجداد والجدات، فضلا عن الأزواج والزوجات والإخوة والأخوات والأعمام وأبناء الأخوة وأولاد البنات، وفي بعض الأحيان يكون لذوي الأرحام نصيبا مفروضا من التركة، مما يحول دون تجمع الثروة في أيد فئات قليلة من الناس، وبهذا يتحقق قول الله تعالى: { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ } (الحشر: 7) .
3- نمو الطبقة الوسطى الضرورية لعمليات النمو والتنمية الاقتصاديِّيَن
الطبقة الوسطى هي فئة اجتماعية ذات دور مؤثر جداً في ما يتحقق من نتائج على صعيد التنمية الاقتصادية، وتدل التجارب في مجال التنمية على أن نجاح أي نموذج تنموي معاصر يتوقف على مدى فعالية دور الطبقة الوسطى في تصميم عمليات التنمية الاقتصادية وتنفيذه. فكلما كانت هذه الطبقة الاجتماعية أكبر، كلما كان المجتمع نفسه أكثر استقرارًا (8).
الطبقة الوسطى هي طبقات اجتماعية اقتصادية تقع بين الطبقة العاملة والطبقة العليا، فعندما تشكل أغلبية في المجتمع يزدهر الاقتصاد، وتعمل الحكومات على رفع هذه النسبة حتى لا تتدنى معدلات التنمية.
تتشكل الطبقة الوسطى من مهندسين وأطباء ومحامين ومثقفين ومعلمين وسواهم؛ ويشكلون في غالبيتهم عدديا تجمع هائل و يؤثرون في مناحي الحياة المختلفة؛ فهم لذلك عامل استقرار للنظام الاقتصادي في أي بلد؛ ومن شأن احتجاجهم ان يخلخل المجتمع. وللطبقة الوسطى انعكاسات ايجابية كبيرة تعتبر الأكثر ضمانا للاستقرار الإقتصادي والإجتماعي والسياسي والأكثر تطلعا للتنمية المحلية؛ وهي معيار نمو وتقدم المجتمعات(9).
الأضرار التي تلحق الإقتصاد في غياب الطبقة الوسطى
إن من شأن غياب الطبقة الوسطى في المجتمع ان يحول دون نشوء قوة إقتصادية وسطى تعيد التوازن للحياة السياسية والإقتصادية والاجتماعية ، وهو يعني عجز إقتصاد الدولة عن إطلاق برامج تنموية واصلاحية حقيقية تعيد الحياة والعافية لفئات المجتمع المختلفة؛ وخاصة منهم الفقراء والمساكين؛ ثم استمرار اللا طمأنينة والفساد والكساد في الدولة؛ وعجز المجتمع عن الإنتاج والاستثمار والتنمية بالشكل المطلوب؛ ثم إرجاع الاقتصاد الوطني الى الوراء والتخلف والازمات الاقتصادية والصراعات الطبقية.
إن الطبقة الوسطى هي القلب النابض للاقتصاد، وهي القوة العاملة التي لا غنى عنها في البلاد، فارتفاع إنتاج ثم ارتفاع دخول هذه الطبقة يؤدي إلى تحسين حالة الاقتصاد؛ وتحوله من اقتصاد الإنتاج إلى اقتصاد الابتكار، لأن ريادة الأعمال والاختراع متجذران في الطبقة الوسطى، فالحياة الخالية من الحرمان للطبقة الوسطى تسهم في منح الوقت والمرونة للتفكير والتفكير والاستكشاف، وللاختراع والابتكار والتنمية، وغالباً ما يخرج أصحاب الثروات الكبرى في الدول الصناعية من هذه الطبقة، ولذلك يؤدي تدميرها إلى ضعف الاقتصاد وتدني الإنتاجية في المجتمع.
لذلك من تحديات استراتيجيات الاقتصاد في دول العالم الثالث العمل على رفع نسب الطبقات الوسطى، وزيادة إنتاجها، ويحدث ذلك بالدعم المالي والاقتصادي الى هذه الفئة لازدياد قوتها الاستثمارية والتنموية، وبالتالي تحولها إلى طبقة منتجة فعّالة ، وقادرة على تكوين الثروات، ولا شك أن القوة الحقيقة النافعة للاقتصاد هي التي تحقق الابتكار والانتاج والولوج الى الصناعات الحديثة والاستفادة من التطور العالمي الصناعي(10).
إن نظام الميراث الإسلامي يعني تحقيق آخر توزيع لثروات أفراد المجتمعات الإسلامية بشكل عادل بين أكبر عدد من الافراد. وهذا التوزيع يحقق هدفين؛
الأول: ازدياد عدد أفراد الطبقات الوسطى؛ الضروري لولوجها الواسع الى عمليات التنمية الاقتصادية في البلد الإسلامي،
والثاني: خلق الطلب الكلي الفعّال لديها للقيام بواجباتها الانتاجية والاستثمارية التنموية.
ففي كِلا الحالتين يكون هناك زيادة في الطلب الكلي الفعال ثم زيادة العرض الكلي من خلال ازدياد الميل الحدي للادخار لهذه الطبقة الكبيرة ثم ازدياد الاستثمارات في البلاد، ثم ازدياد الناتج المحلي الاجمالي ثم الناتج القومي ثم الدخل القومي للأمة، ثم ازدياد متو سط دخل الفرد؛ وازدياد الدخول النقدية والحقيقية من السلع والخدمات المنتجة في البلاد، ثم ازدياد معدلات الرفاهية الاقتصادية لمواطني البلد الإسلامي، والقضاء على الفقر والمسكنة والعوز، وتحقيق خيري الدنيا والآخرة للفرد المسلم فيه، وبالأخير إنقاذ الأمة الإسلامية من السبب الذي يضعف الأمم ويقصم ظهورها والمتمثل بالفقر الذي أعاذ رسول الله ﷺ نفسه وأمته منه ؛ بقوله عليه الصلاة والسلام: “اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بكَ مِنَ الكفرِ، والفقرِ، وعذابِ القبرِ ” [الألباني-صحيح النسائي-الصفحة أو الرقم:1346].
4- كسر الحلقة المفرغة التخلفية والتوجه نحو الرّواج والتوسع :
إن في توزيع الثروة بين عدد كبير من الورثة يؤدي في النهاية الى تحقيق الانتعاش والرواج لاقتصاديات البلدان الإسلامية ؛ وفق التحليل الاقتصادي التالي:
إن ظهور دخول وقوة شرائية جديدة في اقتصاد البلد، يؤدي الى زيادة الطلب الكلي الفعّال، مما يؤدي إلى زيادة الطلب على المواد الأولية ومستلزمات الإنتاج؛ وعلى عناصر الانتاج بشكل عام؛ والمتكون من: [الأرض، العمل، الرأسمال، التنظيم،الشورى] في الاقتصاد الإسلامي (11)، وهذا يؤدي إلى زيادة الاستثمار، ثم زيادة الانتاج وزيادة التشغيل وزيادة العرض الكلي من السلع والخدمات المنتَجة، ثم زيادة الناتج القومي وزيادة الناتج المحلي الاجمالي، ثم توفير فرص جديدة للعمل، ثم القضاء على البطالة بأنواعها؛ وخاصة منها البطالة الاجبارية والموسمية.
وكل هذا يعني توجه اقتصاد البلد نحو آفاق جديدة من التطور والتنمية الاقتصاديِّيَن، ومن ثم تحقيق الرواج والانتعاش للاقتصاد القومي (أي لاقتصاد الأمة) ؛ ثم سدّ الطريق أمام حدوث ظاهرة الكساد والذبول في الاقتصاد الوطني للبلدان الإسلامية، ثم البدء بتوزيعات جديدة للميراث والاستمرار فيها، ومن ثم كسر النظام الاقتصادي للبلد الإسلامي جميع سلاسل وقيود الحلقة المفرغة التخلفية التي ترجِّع البلدان النامية من التطور الى التخلف؛ ومن الإنطلاق والحركة نحو التثبيط والأزمات الاقتصادية الخانقة، وفي النهاية إنقاذ البلد الإسلامي من أشد أسباب التخلف ومعوقاته والتي تتمثل بنظرية الحلقة المفرغة التخلفية.
5- تفعيل المضاعف الاستثماري (الإرثي أو الميراثي)
إن الزيادة الأولية في الاستثمار ينجم عنها زيادة كبيرة في الدخل القومي، بفعل مضاعف الاستثمار، والذي يعتمد على الميل الحدي للاستهلاك، وفقاً للمعادلة التالية :
* مضاعف الاستثمار = ١/١ – الميل الحدي للاستهلاك
* الزيادة المتولدة في الدخل = الزيادة في الاستثمار × المضاعف
ومن الثابت في الدراسات الاقتصادية أن الميل الحدي للاستهلاك عند الفقراء أو الطبقات المتوسطة أكبر منه عند الأغنياء، ومعنى ذلك أن الزيادة في الاستثمار في المجتمعات الفقيرة أو المتوسطة تؤدي إلى زيادة في الدخل القومي أكبر منها في المجتمعات الغنية.
وهنا فإن زيادة الدخول الوراثية لدى وارثي بلد اسلامي واحد؛ يعني زيادة الرؤوس الأموال الموجهة نحو الاستثمار بمبالغ كبيرة؛ مما يُنشيء موجة استثمارية واسعة داخل الاقتصاد الوطني؛ ويعني ضرب أو صفعة قوية للاقتصاد المتجمد؛ ثم ترخِّ وتشتيت أوصاله المتصلب؛ وإعادة الحياة والحركة لجذوره وفروعه؛ ثم توجهه نحو البناء والتطور، ومن ثم يعمل المضاعف الاستثماري، ويأخذ دوره الفغّال في تنمية اقتصاديات البلدان الإسلامية، ويزيد من تأثيراته على تطوير مختلف القطاعات الاقتصادية.
وما دام الميراث العادل الإسلامي مستمر في العمل والتطبيق على مدار الساعة؛ فإن تأثيراته الإيجابية تستمر، ويخلق تنمية اقتصادية مستديمة في البلدان الإسلامية، وبالأخير يستمر تقدم العمليات التنموية بأضعاف نسبة الرأسمال المستثمر المتأتي من الوراثة.
يتبع