تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: يوم عاشوراء في القرآن الكريم

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي يوم عاشوراء في القرآن الكريم

    يوم عاشوراء في القرآن الكريم (1-2)



    كتبه/ علاء بكر


    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فقد شهد التاريخ البشري أيامًا خالدة، كانت فيها نعم وعبر من الله -تعالى- لعباده؛ أيامًا بيَّن الشرع فضلها، وحثَّ على الاعتناء بها، وشكر الله -تعالى- عليها، وشرع في بعضها قربات وعبادات.

    ومن هذه الأيام: يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من المحرم، الذي نجَّى فيه الله -تعالى- بني إسرائيل؛ أتباع موسى -عليه السلام-، وهم أهل الإيمان في زمانهم، وأهلك فيه فرعون وجنوده، على مرأى من الجميع، في واحدة من المعجزات التي لا مثيل لها.

    وقد أشار القرآن الكريم إلى الأحداث التي وقعت في هذا اليوم في العديد من آياته، كما بيَّنت السنة النبوية فضل هذا اليوم، و فضل الصيام فيه، بما يوجب علينا تأمل هذه الآيات والأحاديث والاعتبار بها عملًا بقوله -تعالى- لموسى -عليه السلام-: (*وَذَكِّرْهُمْ *بِأَيَّامِ *اللَّهِ) (إبراهيم:5).

    قال الأصفهاني: "فإضافة الأيام إلى الله -تعالى- تشريفًا لأمرها لما أفاض الله -تعالى- عليهم من نعمه فيها" (مفردات ألفاظ القرآن).

    قال ابن كثير في قوله -تعالى-: (*وَلَقَدْ *أَرْسَلْنَا *مُوسَى *بِآيَاتِنَا *أَنْ *أَخْرِجْ *قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (إبراهيم:5): "( وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) أي: بأياديه ونعمه عليهم في إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره، وظلمه وغشمه، وإنجائه إياهم من عدوهم، وفلقه البحر، وتظليله إياهم الغمام، وإنزاله عليهم المن والسلوى، إلى غير ذلك من النعم. قال ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد".

    وقال ابن كثير: "وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ) أي: إن فيما صنعنا بأوليائنا بني إسرائيل حين أنقذناهم من يد فرعون وأنجيناهم مما كانوا فيه من العذاب المهين لعبرة (لِكُلِّ صَبَّارٍ) أي: في الضراء، (شَكُورٍ) أي: في السراء. كما قال قتادة: نعم العبد عبد إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر. وكذا جاء في الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ *شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ *أَصَابَتْهُ *ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ) (رواه مسلم).

    وفي تذكير بني إسرائيل بنعمة إنجاء الله -تعالى- لهم وإغراق فرعون وملئه، قال -تعالى-: (*وَإِذْ *نَجَّيْنَاكُمْ *مِنْ *آلِ *فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ . وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُ مْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (البقرة: 49، 50).

    وقال -تعالى-: (*وَإِذْ *قَالَ *مُوسَى *لِقَوْمِهِ *اذْكُرُوا *نِعْمَةَ *اللَّهِ *عَلَيْكُمْ *إِذْ *أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (إبراهيم: 6).

    يوم عاشوراء في السنة النبوية:

    وردت أحاديث عديدة في شأن يوم عاشوراء وفضله، وفي الحث على صيامه، وبيان ثواب الصوم فيه، فمن ذلك: في الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ، فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: مَا هَذَا، قَالُوا: هَذَا *يَوْمٌ *صَالِحٌ، هَذَا يَوْمُ نَجَّى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى. قَالَ: (فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ) فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.

    وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ، وَتَتَّخِذُهُ عِيدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (*صُومُوهُ *أَنْتُمْ).

    وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ -إِنْ شَاءَ اللهُ- صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ)، قَالَ: *فَلَمْ *يَأْتِ *الْعَامُ *الْمُقْبِلُ *حَتَّى *تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-. (رواه مسلم). وفي لفظ: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَئِنْ *بَقِيتُ *إِلَى *قَابِلٍ، *لَأَصُومَنَّ *التَّاسِعَ) يعني مع عاشوراء. (رواه مسلم).

    وفي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصُومُ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَصُومُهُ فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ، قَالَ: (*مَنْ *شَاءَ *صَامَهُ، *وَمَنْ *شَاءَ *تَرَكَهُ). ومعلوم أن فرض صيام رمضان كان في السنة الثانية من الهجرة، وأن قدومه -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة كان في ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة.

    وفي الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (هَذَا يَوْمُ *عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ صِيَامُهُ، وَأَنَا صَائِمٌ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ *فَلْيُفْطِرْ). ومعلوم أن إسلام معاوية رضي الله عنه كان متأخرًا.

    وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (صِيَامُ يَوْمِ *عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ *عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ) (رواه مسلم).

    قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- عن هديه -صلى الله عليه وسلم- في صيام يوم عاشوراء: "وأما صيام يوم عاشوراء فإنه -صلى الله عليه وسلم- كان يتحرى صومه على سائر الأيام، ولما قدم المدينة وجد اليهود تصومه وتعظمه، فقال: نحن أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه، وذلك قبل فرض رمضان، فلما فرض رمضان، قال: من شاء صامه ومن شاء تركه" (زاد المعاد في هدي خير العباد).

    وقد عقد ابن القيم بحثًا مفيدًا مختصرًا للرد حول ما قد يستشكل على البعض في الجمع بين تلك الأحاديث الواردة في شأن يوم عاشوراء في الجزء الأول من (زاد المعاد) ص 164 إلى ص 168 فليراجع هناك.

    قال الشوكاني -رحمه الله- عن صوم يوم عاشوراء: "ونقل ابن عبد البر الإجماع على أنه ليس الآن بفرض، والإجماع على أنه مستحب. وكان ابن عمر يكره قصده بالصيام، ثم انعقد الإجماع بعده على الاستحباب) (نيل الأوطار).

    بداية القصة:

    لما تولى يوسف -عيه السلام- أمر خزائن مصر في فترة المجاعة التي شهدتها، فأحسن إدارتها أرسل إلى أبيه يعقوب -عليه السلام- وأهله في فلسطين يدعوهم للقدوم إلى مصر حيث أكرم وفادتهم وأقاموا بها، فاستقرت الجماعة العبرانية في مصر؛ وقع ذلك في عهد حكم الهكسوس لمصر، وكانت مصر ترتبط تاريخيًّا بفلسطين من خلال التجارة والحملات الاستكشافية؛ لذا فكثيرًا ما قامت مصر بفرض سيطرتها عليها، كما كان كثير من قبائل البدو يلجأون إلى مصر فيدخلونها فرارًا من الجفاف أو من المجاعة، ثم يخرجون منها بعد ذلك، ومن هذه القبائل كانت القبائل العبرانية؛ ولهذا السبب أرسل يعقوب -عليه السلام- أولاده إلى مصر وقت المجاعة للتزود منها.

    وقد تحولت عبر التاريخ بعض هذه الهجرات إلى مصر إلى صورة من التسلل ثم إلى غزو، حتى استطاع خليط آسيوي من عدة جماعات بشرية من الاستيلاء على السلطة في مصر، فيما عرف بحكم الهكسوس (ما بين 1786 - 1570 ق. م).

    وفي زمن هؤلاء الهكسوس بلغت مكانة يوسف -عليه السلام- مكانة مرموقة ازدهر فيها أمر الجماعة العبرانية لبعض الوقت، ومع ظهور الدولة المصرية الحديثة (1570 - 1085 ق. م)، طرد المصريون بقيادة أحمس الهكسوس من مصر ثم طاردوهم حتى جنوب فلسطين. والهكسوس جماعة من الآسيويين تتكون من خليط من العموريين والكنعانيين، وبعض عناصر من الحوريين. وكلمة (هكسوس) معناها: (الملوك الرعاة).

    وقد حكم الهكسوس مصر بعد أن تسللوا إليها خلال فترة طويلة فيها، تحول هذا التسلل إلى غزو، إلى أن تمكن بعدها أحمس من طردهم. ويبدو أن وجود الهكسوس في مصر سهَّل دخول العبرانيين إلى مصر واستقرارهم فيها (راجع في ذلك: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية د. عبد الوهاب المسيري - ط. دار الشروق - ط. الخامسة 2009 - المجلد الأول، ص 390 - 391).

    أما مصطلح (عبراني أو عبري) فله معانٍ كثيرة، والعبرانيون مجموعة سكانية استقرت في منطقة الهلال الخصيب وفلسطين، وهي من الشعوب التي جاء منها إبراهيم -عليه السلام- ونسله. وقد دخل العبرانيون أرض كنعان في ثلاث هجرات غير محددة، الهجرة الأولى من بلاد الرافدين في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وكانت معاصرة لانتشار الهكسوس، والهجرة الثانية كانت في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. والهجرتان توافقان ما بين 2100 و1200 قبل الميلاد، والتي تمتد من هجرة إبراهيم -عليه السلام- من بلاد الرافدين حتى هجرة يوسف -عليه السلام- إلى مصر.

    أما الهجرة الثالثة فكانت من مصر تجاه أرض كنعان بقيادة موسى -عليه السلام-، وذلك في النصف الثاني من القرن الثالث عشر قبل الميلاد كما يقول بعض المؤرخين، وبعد وفاة موسى -عليه السلام- كان الدخول العبراني إلى أرض كنعان (نحو 1250 ق. م)، وكانت كنعان وقتها تغص بالقبائل الكنعانية السامية. واسم كنعان يطلق علمًا على ما هو متعارف عليه باسم (فلسطين)، وأيضًا على قسم كبير من سوريا. وبعد صراع مع الكنعانيين اتخذ وجود العبرانيين شكل جيوب؛ إذ إن وجود الشعوب الأخرى في كنعان ظل مستمرًا على المستويين: الحضاري والثقافي.

    وفي عصر اتحاد القبائل (عصر الملوك) تكونت المملكة العبرانية المتحدة في عهد داود وسليمان -عليهما السلام-، ولكنه كان اتحادًا مؤقتًا انحل سريعًا بعد وفاة سليمان -عليه السلام- (928 ق.م)، وانقسمت المملكة إلى مملكة شمالية وأخرى جنوبية، وظلت المملكتان في حالة حرب شبه دائمة حتى تم القضاء عليهما لينتهي بذلك تاريخ العبرانيين، ونظرًا لافتقار العبرانيين إلى هوية حضارية محددة ونتيجة لوجودهم في موقع إستراتيجي مهم كانوا دائمًا مطمعًا للقوى الكبرى، فقد تعرض العبرانيون لصدمات عديدة، أهمها: التهجير الآشوري (721 ق.م.) والتهجير البابلي (587 ق.م.)، كما فرضت عليهم الهيمنة الفارسية واليونانية والرومانية، وبعد التهجير البابلي كان انتشار الجماعات اليهودية في الأرض بعيدًا عن أرض كنعان (راجع المصدر السابق، ص 395، 396).

    الديانة عند قدماء المصريين:

    اعتنق قدماء المصريين معتقدات وثنية كغيرهم من الشعوب الأخرى الوثنية المجاورة؛ إذ كانوا يعتقدون وجود كائنات فوق البشر تتجلى فيها قوى الطبيعة، تخيلوها واتخذوها معبودات لهم ثم مثلوها في أشكال وثنية، وظلوا على ذلك لقرون طويلة.

    لم تعرف مصر القديمة في عهدها الأول وحدة دينية ومعبود واحد، إذ كان لكل مدينة أو بلدة أو قرية معبودها الخاص الذي ترى أنه يحمي حوزتها، وترفع إليه أكف الضراعة إذا دهمها خطر، يبتغون رضاه بتقديم القرابين له وإقامة الصلوات؛ يرون رضاه رحمة بالناس وغضبه نقمة عليهم! وكانت مهمة كل معبود محلية تنحصر في حماية بلدته ولا سلطان له خارج حدودها.

    وقد كان هذا الإله في نظر عابديه له قوة تفوق قوة البشر، يقدمون له العطايا والقرابين، ويعتقدون أنه يظهر لعباده في شكل واضح جلي، فكما أن روح الإنسان تأوي إلى جسده الظاهر كذلك يتخذ الإله له مأوى خاصًّا به يكون مظهرًا له، وجرت العادة أن يتخذ الإله عندهم سكنًا له من الأحجار أو الأشجار أو الحيوانات، والأخير كان الأكثر شيوعًا، فكانت المعبودة (حاتور) مثلًا تسكن شجرة الجميز، وكان إله الماء (سبك) الذي كان يعبد في جهة الفيوم يظهر على شكل التمساح، وظهر (آمون) معبود (طيبة) في كبش بقرون!

    ويتضح مما سبق: أن ديانة قدماء المصريين كانت وثنية، غير أن أشباه هذه التخيلات لم تعدم أضرابها بين بعض الأمم المتمدينة الأخرى وقتها كالساميين واليونانيين القدماء الذين كانوا يعبدون الآلهة في شكل الأحجار والأشجار والحيوانات.

    "وقد خطت هذه الوثنية خطوة أخرى في عهد الأسرة الثانية؛ إذ بدأ قدماء المصريين يمثلون معبوداتهم في شكل إنسان، فقد أخذ الإله يظهر بجسم إنسان ورأس الحيوان الذي يأوي إليه، وكان يرتدي الملابس التي كان يرتديها المصريون أنفسهم، وهي عبارة عن قميص قصير مدلى بذيل حيوان، أسوة بأزياء الملوك، وكذلك كان يحمل عنوانًا على قوته سيفًا وصولجانًا".

    "وقد كان لهذا الانقلاب أثر ظاهر في تلك الوثنية القديمة، فتحولت الأوتاد المقدسة إلى أصنام ذات صور بشرية"، "وقد حدث مثل هذا الانقلاب حتى في الآلهة التي كانت من بادئ أمرها تظهر في شكل حيوانات، غير أن رأس المعبود بدلًا من أن تكون رأس إنسان بقيت رأس الحيوان المقدس لدى هذا الإله" (راجع كتاب: ديانة قدماء المصريين، تأليف البروفسور جورج استيندروف - أستاذ كرسي علوم المصريات بجامعة ليبتزج - وترجمة سليم حسن - ط. مكتبة الآداب - القاهرة - ط. 2014، ص 19 بتصرفٍ).

    وقد أظهر المصريون القدماء في صنع التماثيل وعمل النقوش البارزة كفاءة عجيبة، ومقدرة نادرة في تركيب رأس الحيوان على جسم الإنسان على سخافة هذه الأشكال، وخروجها عن حدِّ المعقول، "وفضلًا عن هذه الآلهة المحلية التي كان يتخيلها المصريون في ثوب حيوانات، كانت هناك حيوانات أخرى تعبد على أنها آلهة في ذاتها، ولها أماكن خاصة تقدس فيها".

    ومن أقدم هذه الحيوانات المعبودة عجل (منفيس) المقدس إله هليوبوليس، وعجل (أبيس) معبود منف، "وقد روى المصريون أن ثانيهما (العجل أبيس) نشأ من قبضة نور نزلت من السماء في رحم بقرة، فحملته ثم وضعته ولم تحمل بعده قط" (راجع المصدر السابق، ص20 بتصرفٍ).

    "وقد جد الكهنة بتخيلاتهم وأبحاثهم اللاهوتية لوضع رابطة بين هذا العجل المبجل وبين (فتاح) معبود مدينة منف المحلي فقالوا عن العجل هو ابن فتاح، أو كما كانوا يعبرون عنه بلغتهم الدينية أنه مكرر حي من الإله (فتاح)" (المصدر السابق، ص 20).

    ومع الوقت صارت لبعض هذه المعبودات مزايا خاصة فامتد نفوذها وراء مناطقها، كما في المعبود (آمون) إله طيبة، حيث كان إله الخصب والنماء في مصر كلها، كما عزيت لبعض هذه المعبودات المحلية علاقات بقوى الطبيعة؛ خاصة الأجرام السماوية، خاصة الشمس أعظم الأجرام السماوية إضاءة، حتى كانت كل المعبودات في الأزمنة الأولى تمثل الشمس في شكل خاص به، وفي بعض الفترات (كان الملوك يعتبرون خلفاء هذه المعبودات في الأرض متقمصين أرواحهم) (المصدر السابق، ص 23).

    طغيان فرعون وتجبره:

    بلغ طغيان فرعون أن ادعى الربوبية، ودعا الناس إلى عبادته وتأليهه، ونكل بكل من خالفه في ذلك، واستخف قومه من القبط (سكان مصر القديمة) فأطاعوه. واستعبد فرعون بني إسرائيل وبغى عليهم، فعمد إلى قتل الذكور من أطفالهم وترك الإناث، فكان ذلك ابتلاء لبني إسرائيل لا نظير له جعلهم مستضعفين مقهورين، فلما أرسل الله -تعالى- إلى فرعون رسوله موسى -عليه السلام- بالمعجزات والآيات الدالة على رسالته وصدق دعوته كذب وجحد وعاند وتمادى في الغي والضلالة، وقد أعماه خضوع قبط مصر له والتفاف بطانة السوء حوله.

    وقد سجل القرآن الكريم ذلك في آيات عديدة، منها:

    قوله -تعالى-: (*هَلْ *أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى . إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى . اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى . فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى . وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى . فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى . فَكَذَّبَ وَعَصَى . ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى . فَحَشَرَ فَنَادَى . فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى . فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى . إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى) (النازعات: 15-26).

    وقوله -عز وجل-: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ *مِنْ *إِلَهٍ *غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ . وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ . فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (القصص: 38-40).

    وذكر -تعالى- عن فرعون أنه قال لموسى -عليه السلام- مهددًا: (لَئِنِ *اتَّخَذْتَ *إِلَهًا *غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ *مِنَ الْمَسْجُونِينَ) (الشعراء: 29)، وقال -تعالى-: (*ثُمَّ *أَرْسَلْنَا *مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ . إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ . فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ . فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) (المؤمنون: 45-48).

    وقال -تعالى-: (*إِنَّ *فِرْعَوْنَ *عَلَا *فِي *الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ . وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص: 4-6)، وقال -تعالى-: (*وَلَقَدْ *أَرْسَلْنَا *مُوسَى *بِآيَاتِنَا *وَسُلْطَانٍ *مُبِينٍ . إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ . فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ . ?وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ . وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) (غافر: 23-27).

    وقال -تعالى-: (*وَلَقَدْ *أَرْسَلْنَا *مُوسَى *بِآيَاتِنَا *وَسُلْطَانٍ *مُبِينٍ . إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ. يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ . وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (هود: 96-99).

    وقال -تعالى-: (*فَمَا *آمَنَ *لِمُوسَى *إِلَّا *ذُرِّيَّةٌ *مِنْ *قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) (يونس: 83)، وقال -تعالى- عن فرعون وقومه: (*فَلَمَّا *جَاءَتْهُمْ *آيَاتُنَا *مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ . وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْ هَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (النمل: 13، 14)، وقال -تعالى-: (*وَلَقَدْ *آتَيْنَا *مُوسَى *تِسْعَ *آيَاتٍ *بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا . قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا . فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا) (الإسراء: 101-103).

    ولما آمن سحرة فرعون بموسى -عليه السلام- لما رأوا معجزاته الباهرات توعدهم فرعون، ونفذ تهديده فيهم، حيث قال لهم: (*آمَنْتُمْ *بِهِ *قَبْلَ *أَنْ *آذَنَ *لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ . لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّك ُمْ أَجْمَعِينَ . قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ . وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) (الأعراف: 123-126).

    وقال -تعالى-: (*وَلَقَدْ *أَرْسَلْنَا *مُوسَى *بِآيَاتِنَا *إِلَى *فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ . ?وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ . وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ . فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ . وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ . أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ . فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ . فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ . فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُ مْ أَجْمَعِينَ . فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ) (الزخرف: 46- 56).

    صبر بني إسرائيل على طغيان فرعون وظلمه:

    قال -تعالى-: (*قَالَ *مُوسَى *لِقَوْمِهِ *اسْتَعِينُوا *بِاللَّهِ *وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ . قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَك ُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (الأعرف: 128، 129)، وقال -تعالى-: (*وَلَقَدْ *آتَيْنَا *مُوسَى *الْكِتَابَ *فَلَا *تَكُنْ *فِي *مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ . وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 23، 24).

    دعوة موسى -عليه السلام- على فرعون وقومه:

    أمام طغيان وعناد فرعون وقومه والتمادي في الطغيان والظلم، دعا موسى -عليه السلام- على فرعون وقومه، وأجاب الله -تعالى- دعاءه، قال -تعالى-: (*وَقَالَ *مُوسَى *رَبَّنَا *إِنَّكَ *آتَيْتَ *فِرْعَوْنَ *وَمَلَأَهُ *زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ . قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (يونس: 88، 89).


    ولما كان الدعاء من موسى والتأمين على الدعاء من هارون -عليهما السلام- كان الجواب (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا)، فالتأمين على الدعاء بمنزلة الدعاء نفسه، وقال -تعالى-: (*وَلَقَدْ *فَتَنَّا *قَبْلَهُمْ *قَوْمَ *فِرْعَوْنَ *وَجَاءَهُمْ *رَسُولٌ *كَرِيمٌ . أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ . وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ . وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ . وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ . فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ . فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ . وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) (الدخان: 17-24).

    وكان يوم عاشوراء هو يوم الفصل بين أهل الباطل والطغيان، وبين أهل الحق والإيمان، ولله وحده الحمد والمنة.

    وللحديث بقية -إن شاء الله-.



  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: يوم عاشوراء في القرآن الكريم

    يوم عاشوراء في القرآن الكريم (2-2)


    كتبه/ علاء بكر

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فيقول ابن كثير -رحمه الله- في قصص الأنبياء: "لما تمادى قبط مصر على كفرهم، وعتوهم وعنادهم، متابعة لملكهم فرعون، ومخالفة لنبي الله ورسوله وكليمه موسى بن عمران -عليه السلام- أقام الله على أهل مصر الحجج العظيمة القاهرة، وأراهم من خوارق العادات ما بهر الأبصار وحيَّر العقول، وهم مع ذلك لا يرعوون ولا ينتهون ولا ينزعون ولا يرجعون، ولم يؤمن منهم إلا القليل!)، (وقيل: بل آمن به طائفة من القبط من قوم فرعون، والسحرة كلهم، وجميع شعب بني إسرائيل. ويدل على هذا قوله -تعالى-: (*فَمَا *آمَنَ *لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) (يونس: 83). والضمير في قوله -تعالى-: (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) عائد على فرعون؛ لأن السياق يدل عليه.

    "وإيمانهم كان خفية لمخافتهم من فرعون وسطوته، وجبروته وسلطته، ومِن ملأهم أن يَنِمُّوا عليهم فيفتنهم عن دينهم" (انظر قصص الأنبياء لابن كثير - ط. مكتبة حميدو - الإسكندرية - تحقيق عبد المعطي عبد المقصود محمد - 1410 هـ - 1990، ص 388 بتصرفٍ).

    وعند ذلك قال موسى -عليه السلام-: (*يَا قَوْمِ *إِنْ *كُنْتُمْ *آمَنْتُمْ *بِاللَّهِ *فَعَلَيْهِ *تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ . فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (يونس: 84-86)، فأمرهم بالتوكل على الله والاستعانة به والالتجاء إليه، فأتمروا بذلك، فجعل الله لهم مما كانوا فيه فرجًا ومخرجًا (المصدر السابق).

    وتأهب بنو إسرائيل فيما بينهم للرحيل إذا أمروا بذلك واستعانوا على ما هم فيه من الضر والضيق بكثرة الصلاة، كما في قوله -تعالى-: (*وَاسْتَعِينُوا *بِالصَّبْرِ *وَالصَّلَاةِ) (البقرة: 45). قال -تعالى-: (*وَأَوْحَيْنَا *إِلَى *مُوسَى *وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس: 87).

    تحرك بني إسرائيل للخروج من مصر:

    قال -تعالى-: (*وَأَوْحَيْنَا *إِلَى *مُوسَى *أَنْ *أَسْرِ *بِعِبَادِي *إِنَّكُمْ *مُتَّبَعُونَ) (الشعراء: 52). والإسراء لغة: السير ليلًا، كما قال الله -تعالى-: (*سُبْحَانَ *الَّذِي *أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) (الإسراء: 1).

    قال مفسرون -وقال غيرهم من أهل الكتاب من اليهود والنصارى-: "استأذن بنو إسرائيل فرعون في الخروج لعيد لهم، فأذن لهم وهو كاره، ولكنهم تجهزوا للخروج (يعني من مصر) وتأهبوا له، وإنما كان في نفس الأمر مكيدة بفرعون وجنوده، ليتخلصوا منهم ويخرجوا عنهم" (المصدر السابق).

    وقام بنو إسرائيل فيما ذكره أهل الكتاب باستعارة حليٍّ من قبط مصر، فأعارهم المصريون حليًّا كثيرًا، فخرجوا بليل، فساروا مستمرين ذاهبين من فورهم، طالبين بلاد الشام.

    مواجهة غير متوقعة:

    "فلما علم بذهابهم فرعون حنق عليهم كل الحنق، واشتد غضبه عليهم، وشرع في استحثاث جيشه وجميع جنوده ليلحقهم ويمحقهم؛ قال الله -تعالى-: (*وَأَوْحَيْنَا *إِلَى *مُوسَى *أَنْ *أَسْرِ *بِعِبَادِي *إِنَّكُمْ *مُتَّبَعُونَ . فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ . إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ . وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ . وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) (الشعراء: 52-56).

    قال ابن كثير في تفسيره: "فلما أصبحوا وليس في ناديهم داعٍ ولا مجيب؛ غاظ ذلك فرعون، واشتد غضبه على بني إسرائيل، لما يريد الله به من الدمار، فأرسل سريعًا في بلاده حاشرين، أي: من يحشر الجند ويجمعه: كالنقباء والحجاب، ونادى فيهم: (إِنَّ هَؤُلَاءِ) يعني بني إسرائيل (لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) أي: لطائفة قليلة (وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ) أي: كل وقت يصل إلينا منهم ما يغيظنا (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) أي: نحن كل وقت نحذر من غائلتهم، وإني أريد أن أستأصل شأفتهم، وأبيد خضراءهم، فجوزي في نفسه وجنده بما أراد لهم؛ قال -تعالى-: (فَأَخْرَجْنَاهُ مْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . *وَكُنُوزٍ *وَمَقَامٍ كَرِيمٍ) أي: فخرجوا من هذا النعيم إلى الجحيم، وتركوا تلك المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والأرزاق، والملك والجاه الوفير في الدنيا (كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَ ا بَنِي إِسْرَائِيلَ) (الشعراء: 59)، كما قال -تعالى-: (*وَأَوْرَثْنَا *الْقَوْمَ *الَّذِينَ *كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ *مَشَارِقَ *الْأَرْضِ *وَمَغَارِبَهَا *الَّتِي *بَارَكْنَا *فِيهَا) (الأعراف: 137)، وكما قال -تعالى-: (*وَنُرِيدُ *أَنْ *نَمُنَّ *عَلَى *الَّذِينَ *اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)" (تفسير القرآن العظيم).

    فركب فرعون في جنوده طالبًا بني إسرائيل، يقفو أثرهم في جيش كثيف عرمرم، فلحقهم بجنوده، وأدركهم عند شروق شمس يوم عاشوراء، وتراءى الجمعان، ولم يبقَ ثَمَّ ريب ولا لبس، فقد عاين كل من الفريقين صاحبه وتحققه ورآه، فلم يبقَ إلا المقاتلة والمجادلة؛ قال الله -تعالى-: (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) (الشعراء: 60)، أي: وصلوا إليهم عند شروق الشمس وهو طلوعها (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء: 61، 62)، (الشعراء:60 - 62). وقال أصحاب موسى وقد تملكهم الخوف (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)، وذلك أنهم انتهى بهم السير إلى سيف (ساحل) البحر، وهو بحر القلزم (تفسير ابن كثير)، وبحر القلزم هو البحر الأحمر، فلم يعد لهم طريق؛ إذ البحر أمامهم، والجبال عن يمينهم وعن يسرتهم، وهي شاهقة مرتفعة، وفرعون قد واجههم في جنوده وعدده وعتاده، ولم يبقَ إلا أن يتقاتل الجمعان، وهم لا قِبَل لهم بهم، ولا محيد إلا خوض البحر، وهذا ما لا يقدرون عليه، فصاروا في غاية الذعر والخوف من بطش فرعون، لما قاسوه في ملكه وسلطانه من قبل من الإهانة والذل.

    لذا شكوا إلى نبي الله موسى -عليه السلام- ما هم فيه مما شاهدوه وعاينوه، فأجابهم وهو الصادق المصدوق: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)، "أي: لا يصل إليكم شيء مما تحذرون، فإن الله -سبحانه- هو الذي أمرني أن أسير ههنا بكم، وهو -سبحانه وتعالى- لا يخلف الميعاد" (المصدر السابق).

    وكان موسى -عليه السلام- في الساقة (المؤخرة)، فتقدم على المقدمة، ونظر إلى البحر وأمواجه تتلاطم، لقد أمر أن يكون هنا! ووقف معه كبار بني إسرائيل من العلماء والعباد ورجال القوم ينظرون، والجميع وقوف عليهم عكوف، فلما تفاقم الأمر وضاق الحل واشتد الكرب، واقترب فرعون وجنوده وهم في حال من الغضب والحنق، زاغت أبصار بني إسرائيل وبلغت القلوب الحناجر؛ عندها أوحى الله -تعالى- الحليم العظيم القدير إلى موسى الكليم: (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ) (الشعراء:63)، فلما ضرب موسى البحر انفلق البحر فرقين، كل فرق منهما كالطود العظيم، وهكذا صار ماء البحر قائمًا مثل الجبال، مكفوفًا بقدرة الله -تعالى-، وأرضه يابسة تسمح بسير الخيل والدواب والناس عليها؛ قال -تعالى-: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (الشعراء: 63).

    فـ"صار الماء من ها هنا وهاهنا كالجبلين، وصار وسطه يابسًا" (المصدر السابق)، فلما آل أمر البحر إلى هذه الحال بإذن الله -تعالى- أمر موسى بني إسرائيل أن يجوزوه، فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين، وقد شاهدوا بأعينهم من الأمر العظيم ما يحير الناظرين، ويثلج قلوب المؤمنين.

    فلما جاوز موسى وبنو إسرائيل البحر، وخرج آخرهم منه وانفصلوا عنه، كان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون إليه ووفودهم عليه.

    ولما هَمَّ موسى -عليه السلام- أن يضرب البحر من جديد ليرجع البحر كما كان عليه لئلا يكون لفرعون وجنوده وصولًا إليه ومجاوزته، أمره الله -تعالى- أن يترك البحر على حالته كما هي، قال -تعالى-: (*وَاتْرُكِ *الْبَحْرَ *رَهْوًا *إِنَّهُمْ *جُنْدٌ *مُغْرَقُونَ) (الدخان: 24).

    قال ابن كثير: "فقوله -تعالى-: (*وَاتْرُكِ *الْبَحْرَ *رَهْوًا) أي: ساكنًا على هيئته لا تغيره عن هذه الصفة؛ قاله عبد الله بن عباس ومجاهد وعكرمة، والربيع والضحاك وقتادة، وكعب الأحبار، وسماك بن حرب وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم. فلما تركه على هيئته وحاله وانتهى إليه فرعون، فرأى ما رأى وعاين ما عاين، هاله هذا المنظر العظيم، وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك من أن هذا من فعل رب العرش الكريم) (المصدر السابق).

    وبعد تردد لم يطل اقتحم فرعون وجنوده البحر من ناحيته الأخرى وراء بني إسرائيل مسرعين، فدخلوا البحر أجمعين، "فلما توسطوه أمر الله موسى فضرب البحر بعصاه فرجع الماء كما كان عليهم" (المصدر السابق).

    "فعند ذلك أمر الله -تعالى- كليمه فيما أوحاه إليه أن يضرب بعصاه البحر، فضربه، فارتطم البحر عليهم كما كان، فلم ينجُ منهم إنسان، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم وتراكمت الأمواج فوق فرعون، وغشيته سكرات الموت، قال الله -تعالى-: (*وَأَنْجَيْنَا *مُوسَى *وَمَنْ *مَعَهُ *أَجْمَعِينَ . ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ . إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ . وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الشعراء: 65-68) أي: في إنجائه أولياءه فلم يغرق منهم أحد، وإغراقه أعداءه فلم يخلص منهم أحد؛ آية عظيمة وبرهان قاطع على قدرته -تعالى- العظيمة وصدق رسوله فيما جاء به عن ربه من الشريعة الكريمة والمناهج المستقيمة" (المصدر السابق).

    وقال -تعالى-: (*وَلَقَدْ *أَوْحَيْنَا *إِلَى *مُوسَى *أَنْ *أَسْرِ *بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى . فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ . وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى) (طه: 77-79).

    القرآن الكريم يصف اللحظات الأخيرة في حياة فرعون:

    قال -تعالى-: (وَجَاوَزْنَا *بِبَنِي *إِسْرَائِيلَ *الْبَحْرَ *فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ . آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ . فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) (يونس: 90-92).

    يقول ابن كثير: "يخبر -تعالى- عن كيفية غرق فرعون زعيم كفرة القبط، وأنه لما جعلت الأمواج تخفضه تارة وترفعه أخرى، وبنو إسرائيل ينظرون إليه وإلى جنوده ماذا أحل الله به، وبهم من البأس العظيم والخطب الجسيم، ليكون أقر لأعين بني إسرائيل وأشفى لنفوسهم، فلما عاين فرعون الهلكة وأحيط به، وباشر سكرات الموت، أناب حينئذٍ وتاب، وآمن حين لا ينفع نفسًا إيمانها، كما قال -تعالى- (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ . *وَلَوْ *جَاءَتْهُمْ *كُلُّ *آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (يونس: 96-97)، وقال -تعالى-: (*فَلَمَّا *رَأَوْا *بَأْسَنَا *قَالُوا *آمَنَّا *بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ . فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) (غافر: 84، 85).

    وهكذا دعا موسى على فرعون وملئه أن يطمس على أموالهم ويشدد على قلوبهم، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، أي: حين لا ينفعهم ذلك، ويكون حسرة عليهم، وقد قال -تعالى- لهما -أي: لموسى وهارون- حين دعوا بهذا: (قَدْ *أُجِيبَتْ *دَعْوَتُكُمَا) (يونس: 89)، فهذا من إجابة الله -تعالى- دعوة كليمه وأخيه هارون -عليهما السلام-" (المصدر السابق).

    "وهذا الذي حكاه الله -تعالى- عن فرعون من قوله هذا في حاله ذلك، من أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله -صلى الله عليه وسلم-" (تفسير ابن كثير).

    "وقوله -تعالى-: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (يونس: 91) استفهام إنكار، ونص على عدم قبوله -تعالى- منه" (قصص الأنبياء:397).

    قال ابن كثير: "(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) أي: أهذا الوقت تقول، وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أي: في الأرض، الذين أضلوا الناس (وَجَعَلْنَاهُمْ *أَئِمَّةً *يَدْعُونَ *إِلَى *النَّارِ *وَيَوْمَ *الْقِيَامَةِ *لَا *يُنْصَرُونَ) (القصص: 41)" (تفسير ابن كثير).

    "وقوله: (*فَالْيَوْمَ *نُنَجِّيكَ *بِبَدَنِكَ *لِتَكُونَ *لِمَنْ *خَلْفَكَ *آيَةً) (يونس: 92)، قال ابن عباس وغير واحد: شك بعض بني إسرائيل في موت فرعون"، "فأمر الله البحر أن يلقيه بجسده سويًّا بلا روح وعليه درعه المعروفة، فرفعه على نجوة من الأرض، وهو المكان المرتفع، وعليه درعه التي يعرفونها من ملابسه، ليتحققوا موته وهلاكه، ويعلموا قدرة الله عليه؛ ولهذا قال: (*فَالْيَوْمَ *نُنَجِّيكَ *بِبَدَنِكَ) أي: مصاحبًا درعك المعروفة بك (*لِتَكُونَ) أي: أنت آية (*لِمَنْ *خَلْفَكَ *آيَةً) أي: من بني إسرائيل، ودليلًا على قدرة الله الذي أهلكك".

    "ويحتمل أن المراد: ننجيك بجسدك مصاحبًا درعك، لتكون علامة لمن وراءك من بني إسرائيل على معرفتك وأنك هلكت. والله أعلم" (قصص الأنبياء بتصرفٍ).

    ذكر ابن كثير في قصص الأنبياء، وكذلك في تفسيره لسورة يونس الآية (92)، أن هلاك فرعون وجنوده كان في يوم عاشوراء، كما ذكر الإمام البخاري في صحيحه، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ، فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: مَا هَذَا، قَالُوا: هَذَا *يَوْمٌ *صَالِحٌ، هَذَا يَوْمُ نَجَّى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى. قَالَ: (فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ) فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.

    وهكذا كان زوال ملك فرعون وسلطانه، وكان انعتاق بني إسرائيل من الخضوع لفرعون وطغيانه، وبدء التمكين لهم في الأرض: قال -تعالى-: (*فَانْتَقَمْنَا *مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُ مْ *فِي *الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ . وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) (الأعراف: 136، 137).

    قال ابن كثير: "أي: أهلك ذلك جميعه، وسلبهم عزهم العزيز العريض في الدنيا، وهلك الملك وحاشيته وأمراؤه، ولم يبقَ ببلد مصر سوى العامة والرعايا" (قصص الأنبياء).

    وقال -تعالى-: (*فَأَسْرِ *بِعِبَادِي *لَيْلًا *إِنَّكُمْ *مُتَّبَعُونَ . وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ . كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَ ا قَوْمًا آخَرِينَ . فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ . وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ . مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ . وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ . وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ) (الدخان: 23-33)، وقال -تعالى-: (*وَإِذْ *قَالَ *مُوسَى *لِقَوْمِهِ *يَا قَوْمِ *اذْكُرُوا *نِعْمَةَ *اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) (المائدة: 20).

    قال ابن كثير: "وكان بين خروج بني إسرائيل من مصر بصحبة موسى -عليه السلام- وبين دخولهم إليها صحبة أبيهم إسرائيل -أي: يعقوب عليه السلام- أربعمائة سنة وستًا وعشرين سنة شمسية" (قصص الأنبياء). وفي موضع آخر ذكر ابن كثير نقلًا عن أهل الكتاب: "وكانت مدة مقامهم بمصر أربعمائة سنة وثلاثين سنة"، وقال: "هذا نص كتابهم" (قصص الأنبياء).

    مصير حلي قوم فرعون:

    لما ذهب موسى -عليه السلام- بعد ذلك "إلى ميقات ربه، فمكث على الطور يناجيه ربه، ويسأله موسى عن أشياء كثيرة، وهو -تعالى- يجيبه عليها، عمد رجل من بني إسرائيل يقال له السامري فأخذ ما استعاروه من الحلي من المصريين قبل خروجهم من مصر، فصاغ منه عجلًا، وألقى فيه قبضة من التراب كان أخذها من أثر فرس جبريل -عليه السلام- حين رآه يوم أغرق الله فرعون، فلما ألقاها فيه خار كما يخور العجل الحقيقي. وقيل: كانت الريح إذا دخلت من دبره خرجت من فمه فيخور كما تخور البقرة فيرقصون حوله ويفرحون! (فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ) (طه: 80) أي: فنسي موسى ربه عندنا، وذهب يطلبه وهو هاهنا، -تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.

    قال الله -تعالى- مبينًا بطلان ما ذهبوا إليه، وما عولوا عليه من إلهية هذا الذي قصاره أن يكون حيوانا بهيما أو شيطانًا رجيمًا: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ *لَهُمْ *ضَرًّا *وَلَا *نَفْعًا) (طه: 89)، وقال: (?*أَلَمْ *يَرَوْا *أَنَّهُ *لَا *يُكَلِّمُهُمْ *وَلَا *يَهْدِيهِمْ *سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ) (الأعراف:148).

    (*وَلَمَّا *سُقِطَ *فِي *أَيْدِيهِمْ) أي: ندموا على ما صنعوا (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف: 149).

    ولما رجع موسى -عليه السلام- إليهم ورأى ما هم عليه من عبادة العجل)،(عنفهم ووبخهم في صنيعهم هذا القبيح، فاعتذروا إليه بما ليس بصحيح، فقالوا: (حُمِّلْنَا *أَوْزَارًا *مِنْ *زِينَةِ *الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ) (طه: 87)، تحرجوا من تملك حلي آل فرعون ولم يتحرجوا بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم من عبادة العجل الجسد الذي له خوار مع الواحد الأحد الصمد القهار!

    فعمد موسى -عليه السلام- إلى هذا العجل فحرقه، قيل: بالنار، كما قاله قتادة وغيره. وقيل بالمبارد، -أي: برده بها- كما قاله علي وابن عباس وغيرهما، وهو نص أهل الكتاب، ثم ذراه في البحر.

    ثم قال -تعالى- إخبارًا عن موسى -عليه السلام- أنه قال لهم: (*إِنَّمَا *إِلَهُكُمُ *اللَّهُ *الَّذِي *لَا *إِلَهَ *إِلَّا *هُوَ *وَسِعَ *كُلَّ *شَيْءٍ *عِلْمًا) (طه:98)، وقال -تعالى-: (*إِنَّ *الَّذِينَ *اتَّخَذُوا *الْعِجْلَ *سَيَنَالُهُمْ *غَضَبٌ *مِنْ *رَبِّهِمْ *وَذِلَّةٌ *فِي *الْحَيَاةِ *الدُّنْيَا *وَكَذَلِكَ *نَجْزِي *الْمُفْتَرِينَ) (الأعراف: 152)، وهكذا وقع. (راجع: قصص الأنبياء بتصرفٍ).

    وجوب العمل بمقتضى أيام الله وقصصه في القرآن الكريم:

    ختم الله -تعالى- كلامه عن قصة موسى عليه السلام وفرعون وقومه وما ذكره من أحداثها بقوله -تعالى-: (*كَذَلِكَ *نَقُصُّ *عَلَيْكَ *مِنْ *أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا . مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا . خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا) (طه: 99-101).

    قال ابن كثير: "يقول -تعالى- لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- كما قصصنا عليك خبر موسى وما جرى له مع فرعون وجنوده على الجلية والأمر الواقع، كذلك نقص عليك الأخبار الماضية كما وقعت من غير زيادة أو نقص. هذا (وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا) أي: من عندنا (ذِكْرًا) وهو القرآن العظيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، الذي لم يعطَ نبي من الأنبياء منذ بعثوا حتى ختموا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- كتابًا مثله ولا أكمل منه، ولا أجمع لخبر ما سبق، وخبر ما هو كائن، وحكم الفصل بين الناس منه" (تفسير ابن كثير).

    وقال -تعالى-: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا *لِلَّذِينَ *لَا *يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ . مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (الجاثية: 14،15).


    قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "يأمر الله -تعالى- عباده المؤمنين بحسن الخلق والصبر على أذية المشركين به، الذين لا يرجون أيام الله، أي: لا يرجون ثوابه ولا يخافون وقائعه في العاصين، فإنه -تعالى- سيجزي كل قوم بما كانوا يكسبون. فأنتم يا معشر المؤمنين يجزيكم على إيمانكم وصفحكم وصبركم ثوابًا جزيلًا، وهم إن استمروا على تكذيبهم فلا يحل بكم ما حل بهم من العذاب الشديد والخزي؛ ولهذا قال: (*مَنْ *عَمِلَ *صَالِحًا *فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (الجاثية: 15)" (انظر: تيسير الكريم الرحمن).



الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •