تدبر آية -
(وَلَا تَجَسَّسُوا)
رقيه العلواني
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ )
كلنا يتمنى أن يرى في أبنائه الخير العميم كلنا يتمنى أن يرى الأبناء والبنات وقد حققوا النجاحات والأمنيات وربما الأحلام المتأخرة التي لم يتمكن الآباء والمربّون من تحقيقها كلنا يتمنى ذلك في أبنائه
لكن السؤال الذي ينبغي فعلًا أن نجيب عليه:
يا ترى كيف يمكن تحقيق ذلك؟
هل القرآن قدّم إجابات وافية عن وسائل وطرق وآليات للتربية الحسنة، التربية التي تصل بنا فعلًا إلى تحقيق كل هذه الأهداف بل وأكثر لأن الرقي والتقدم الذي نتمناه لأبنائنا لا ينحصر في بلوغ منصب أو وظيفة ولا في الحصول على جاهٍ أو مبلغ كبير من المال ولا في الحصول على حظ من حوظ الدنيا فحسب، هذا جزء من القصة لكن الجانب الأهم أن يحصل على جانب وفير من الأخلاق والقيم والمبادئ التي تكون عونًا له على نفسه ولأمته ولمجتمعه ولأسرته ولأمه وأبيه في الدنيا والآخرة.
نريد أن نتحدث عن بعض الوسائل السلبية التي عالجها بل ومنعها القرآن منعًا باتًا، لم يُجزها القرآن ولا حتى في أصعب وأشد الحالات احتياجًا، ذلكم التجسس.
يقول الله تعالى في سورة الحجرات تلك السورة التي حوت عشرات الآداب والأخلاقيات: أسس، قيم لإقامة الفرد على أسس صحيحة من الثقة والرقي الأخلاق، القرآن العظيم في سورة الحجرات يقول في آية واحدة وكلمة واحدة
(وَلَا تَجَسَّسُوا)
والتجسس هو عبارة عن نوع من الأعمال التي لا تليق بالإنسان المؤمن أن يقوم بها تحت أي ذريعة من الذرائع، واحدة من هذه الأعمال ما يقوم به بعض المربين حين يقوم بتتبع عورات ابنه في سرّه لا يكتفي بالظاهر من الأعمال ولا بالظاهر من الأقوال ولكن حين تنفقد الثقة فيما بينه وبين الأبناء يلجأ إلى تلك الطريقة التي يحاول من خلالها أن يتعرف على ما يقوم به الابن أو الفتاة دون علمه، في السر، ليتأكد تمامًا من قيام هذا الفتى أو الفتاة بعمل لا يرغب فيه ولا أن يراه الأم أو الأب صحيح أم لا.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا:
يا تُرى حين أكّد القرآن النهي عن التجسس ألا يعلم الله سبحانه وتعالى بضرورة أن يكون الأم والأب على علم بما يدور ويحدث في حياة أبنائهم؟
الجواب بكل تأكيد: نعم، فالله عز وجلّ يقول في كتابه الكريم
(أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )
ألا يعلم سبحانه أننا اليوم ونحن في عصر التكنولوجيا والتواصل والآليات المتواجدة التي لم تكن متواجدة في عصورمن قبلنا ألا يعلم سبحانه أن الأبناء وهم بعمر مبكرة جدًا سيُتاح لهم أن يتصلوا بالعالم الخارجي أن يطلعوا على كمٍّ مهول من المعلومات ربما في كثير من الأحيان لا ينبغي أن يطّلعوا عليه، أن يروا صورًأ لا ينبغي أن ينظروا إليها، ألا يعلم الله عز وجلّ كل هذه التغيرات؟
بالتأكيد، سبحانه عالم الغيب والشهادة، إذن لم النهي عن قضية التجسس؟!
لمَ النهي في ذلك وتوجيه الآباء والمربين إلى أهمية بناء الثقة ومد جسور الثقة بينهم وبين الأبناء بعيدًا عن مزاولة التجسس.
التجسس في الأصل هو عمل غير لائق، والأمر الآخر التجسس لا يمكن أن يورث رقيًا في الأخلاق، لا يمكن للتجسس أن يولّد الصدق والثقة، لا يمكن أن يولّد التجسس والجبن والنفاق والازدواجية والكذب في نفوس أبنائنا.
إذن كيف السبيل لحل هذه المعضلة؟!
لا سبيل دون إحسان التربية، لا سبيل دون السير مع الأبناء في بناء الثقة فيما بينهم وآبائهم وأمهاتهم، لا سبيل سوى أن نراجع الطريقة التي نتعامل فيها مع الأبناء منذ الصغر، لا سبيل سوى أن نفتح كل الأبواب بيننا وبين أبنائنا ونمد كل الجسور وحين نفعل ذلك نحن فقط نهيئ تلك الأجواء الصالحة لأن يتحدث معنا الأبناء والبنات عن عثراتهم عن أخطائهم عن زلاتهم بمنتهى الشفافية بمنتهى الصدق والبعد عن الخوف ليس لأنهم لا يحترموننا، بالعكس، ولكن لأنهم بحاجة ماسة حين يتعثروا في طريقهم، حين يصدر منهم الزلل ومن منا لا يصدر منه الزلل؟! أو يتعثر في طريق الحياة؟!
هم حاجة إلى صدر حانٍ، هم بحاجة إلى نصيحة، هم بحاجة إلى من يأخذ بأيديهم ليريهم ويرشدهم كيف يكون الطريق للخلاص من ذلك الخطأ وعدم الوقوع فيه مرة ثانية، ليسوا بحاجة إلى من يتتبع عوراتهم ولا من يقف على أسرارهم لمجرد أن يُظهر تلك العيوب، الأم والأب والمربّون بحاجة ماسة إلى مراجعات، تلك الأشياء التي اعتدنا عليها في السابق وربما نعتقد قطعًا عن طريق الخطأ أنها مجدية، هذه الوسائل ما عادت مجدية!
وحين ندفع بالأبناء لسلوك هذا الطريق، طريق الإزدواجية طريق إخفاء الحقائق وإخفاء الأخطاء وعدم مواجهة الأخطاء ومحاول التعرف على كيفية التخلص منها نحن ندفع بهم نحو طريق مجهول، نحن ندفع بهم في طريق بعيد كل البعد عن توجيهنا، عن إخلاصنا، عن تربيتنا، عن نصحنا السديد لهم، نمنع الخير الكثير بمجرد مزاولة كتلك المزاولة التي نهى عنها القرآن مع الأسف كثير من الآباء والأمهات اليوم وخاصة بشيوع الوسائل المتاحة من الكمبيوتر والآيباد ومن الهواتف النقالة ومن البرامج وغيرها، بدأ يمارس هذه العادة القبيحة التي نهى عنها القرآن: التجسس.
يعطي للفتى أو الفتاة الحرية في أن يتصرف كيفما يشاء، يتيح له الوسائل يوفر له الوسائل وربما على استحياء ينبّه على أهمية الالتزام ببعض الضوابط ولكنه فيما بعد ومن وراء ظهره يمد يده إلى تلك الأجهزة ليتفحصها ولينظر في أسرارها ولينظر أين دخل ذلك الفتى وأين دخلت تلك الفتاة بمن اتصلوا وبمن يتصلون؟
وإذا كان هناك استثناء يقع في فترة معينة فهو كقوانين الطوارئ بمعنى قد – في حالات مشددة جدًا، استثنائية وليست قاعدة – قد يحتاج الابن إلى من يتعرف على ماذا يقوم به نتيجة لوقوع قصور أو وقوع خلل لكنها حالة استثنائية لها شروط متعددة لا ينبغي أن تتحول في حياتنا إلى قاعدة نتعامل فيها مع أبنائنا وبناتنا.
موقع اسلاميات