تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 9 من 9

الموضوع: مجالس شرح كتاب تعظيم العلم للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,676

    افتراضي مجالس شرح كتاب تعظيم العلم للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي

    المجلس الأول من مجالس شرح كتاب تعظيم العلم للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي

    د. خالد بن حسن المالكي



    المجلس الأول

    من مجالس شرح كتاب تعظيم العلم








    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، اللَّهُمَّ صل وسلم وبارك عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ، أَمَّا بعد:
    اللَّهُمَّ لا علم لنا إِلَّا ما علمتنا، إنك أنت السميع العليم، اللَّهُمَّ علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بِمَا علمتنا، وزدنا علمًا، أَمَّا بعد:
    فمرحبًا بكم أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام في هذه السلسلة بعون الله من الدروس الَّتِي نبدأها بكتاب/ (تعظيم العلم) للشيخ/ صالح بْن عبدالله العصيمي وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى.
    وَقَدْ شرح الشَّيْخ الْكِتَاب في كِتَاب آخر أسماه (شرح تعظيم العلم)، والكتابان كلاهما موجود في القناة، الْكِتَاب الْأَوَّلُ المتن، والكتاب الآخر هُوَ كِتَاب (شرح تعظيم العلم) شرح المتن، وكلا الكتابين للشيخ صالح بْنعبدالله العصيمي وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى.
    [المتن]
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    الحَمْدُ للهِ الذي صيَّر الدِّين مراتب ودرجات، وجعل للعلم بِهِ أصولًا ومهمات، وَأَشْهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حقًّا، وَأَشْهَدُ أَن محمدًا عبده ورسوله صدقًا، اللَّهُمَّ صل عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آل مُحَمَّد، كما صليت عَلَى إبراهيم وعَلَى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللَّهُمَّ بارك عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آل مُحَمَّد كما باركت عَلَى إبراهيم وعَلَى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، أَمَّا بعد:
    فحدثني جماعة من الشيوخ، وَهُوَ أول حديث سمعته منهم بإسناد كلٍّإلى سفيان بْن عيينة، عَنْ عمرو بْن دينار، عَنْ أبي قابوس مولى عبدالله بْن عمرو، عَنْ عبدالله بْن عمرو بْن العاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الْأَرْض يرحمْكم من في السماء»، ومن آكد الرحمة رحمة المعلمين بالمتعلمين في تلقينهم أحكام الدِّين، وترقيتهم في منازل اليقين.
    ومن طرائق رحمتهم: إيقافهم عَلَى مهمات العلم بإقراء أصول المتون، وتبيين مقاصدها الكلية، ومعانيها الإجمالية، ليستفتح بذلك المبتدئون تلقيهم، ويجد فيه المتوسطون ما يذكرهم، ويطلع منه المنتهون على تحقيق مَسَائِل العلم.
    [الشرح]
    وهذا الْكِتَاب -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- جاء شرحه في برنامج (مهمات العلم)؛ حَيْثُ إن الشيخ وَفَّقَهُ اللهُ في كُلِّ عام يقوم بتقديم برنامج (مهمات العلم) في مدينة النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسجد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كانت النسخة الَّتِي معنا من برنامج (مهمات العلم) في سنته السادسة، سنة ستٍّ وثلاثين بعد الأربعمائة والألف، وَهُوَ كِتَاب (تعظيم العلم) كما ذكرنا لمصنفه صالح بْن عبدالله بْن حمد العصيمي.
    [المتن]
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى.
    [الشرح]
    الآن بدأنا في المتن.
    [المتن]
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    الحَمْدُ للهِ ما عظَّمه مُعظِّم، وسار إليه راغبٌ مُتعلِّم، وَأَشْهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له، شهادةً نبرأ بها من شرك الإشراك، فتوجب لنا النجاة من نار الهلاك، وَأَشْهَدُ أَن محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسله ربُّه بالهدى ودين الحق ليظهره عَلَى الدِّين كله ولو كره المشركون، فبلَّغ رسالته وأدَّاها، وأسلم أمانته وأبداها.
    انتصبت بدعوته أظهر الحجج، واندفعت ببيناته الشبهات واللجج، فورثنا المحجة البيضاء، وَالسُّنَّة الغراء، لا يتيه فِيها ملتمس، ولا يُرد عنها مقتبس، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ عدد من تعلَّم وعلَّم.
    [الشرح]
    وهذه المقدمة -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- نستفيد منها:
    أَن من تعلَّم العلم الشرعي فإنه يمكنه ذَلِكَ العلم من رَدِّ الشُّبُهات، فَإِنَّ من تسلَّح بالعلم كان العلم معه كالذخيرة أو كالسلاح يردُّ بِهِ شُبَه أهل الباطل.
    [المتن]
    أَمَّا بعد: فلم يزل العلم إرثًا جليلًا، تتعاقب عليه الأماثل جيلًا جيلًا، لَيْسَ لطلاب المعالي همٌّ سواه، ولا رغبة لهم في مطلب عداه، وكيف لا؟! وبه تنال سعادة الدارين وطيب العيشين، وشرف الوجود، ونور الأغوار والنجود، حلية الأكابر، ونزهة النواضر، من مال إليه نعم، ومن جال بِهِ غنم، ومن انقاد له سلم، لو كان سلعة تُباع لبُذِلت فيه الأموال العظام، أو صعد في السماء لسمت إليه نفوس الكِرام.
    هُوَ من المتاجر أربحها، وفي المفاخر أشرفها، أكرم المآثر مآثره، وأحمد الموارد موارده، فالسعيد من حضَّ نفسه عليه، وحثَّ ركاب روحه إليه، والشقي من زهِد فيه أو زهَّد، وأبعد عنه أو بعد، أنفه بأريج العلم مزكوم، وختم القفا هذا عبدٌ محروم.
    [الشرح]
    يَعْنِي واضح من خلال المقدمة أَن الشَّيْخ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى يرغب في تحفيز قارئ الْكِتَاب، والمطلع عَلَى هذا الشرح عَلَى فضل العلم ومكانته، وأنه هُوَ أنفع شيء للإنسان، بِهِ تُنال سعادة الدُّنْيَا والآخرة.
    [المتن]
    والعلم يدخل قلب كُلِّ موفق

    من غَيْر بوَّاب ولا استئذان



    ويرده المحروم من خذلانه

    لا تشقنا اللَّهُمَّ بالحرمان




    وإن مِمَّا يملأ النفس سرورًا، ويشرح الصدر ويمده نورًا، إقبال الخلق عَلَى مقاعد التعليم، وتلمُّسهم صراطه المستقيم، وأدل دليل وأصدقه تكاثُر الدروس العلمية، وتوالي الدورات التعليمية، حلاوة في قلوب المؤمنين، وشجن في حلوق الكفرة والمنافقين، فالدروس معقودة، والركب معكوفة، والفوائد شارقة، والنفوس تائقة، الأشياخ ينتثلون درر العلم، والتلامذة ينظمون عقده.
    وإن من الإحسان إلى هذه الجموع الصاعدة، والأجيال الواعدة، إرشادها إلى سر حيازة العلم الذي يظهرها بمأمورها، ويبلغها مأمنها رحمةً بهم من الضياع في صحراء الآراء، وظلماء الأهواء، وإعمالًا لهذا الأصل جمل الحَدِيْث أَيُّهَا المؤمنون عَنْ تعظيم العلم، فَإِنَّ حظ الْعَبْد من العلم موقوف عَلَى حظ قلبه من تعظيمه وإجلاله.
    [الشرح]
    طبعًا هنا هذه الجملة مهمة جدًّا، ربما تكون هذه الجملة هِيَ خلاصة الْكِتَاب كاملًا، قَالَ الشَّيْخ وَفَّقَهُ اللهُ: (وإعمالًا لهذا الأصل جمل الحَدِيْث أَيُّهَا المؤمنون عَنْ تعظيم العلم) ثُمَّ قَالَ -ركزوا معي في هذه الجملة-: (فَإِنَّ حظ الْعَبْد من العلم موقوف عَلَى حظ قلبه من تعظيمه وإجلاله).
    [المتن]
    فمن امتلأ قلبه بتعظيم العلم وإجلاله صلح أَن يكون محلًّا له، وبقدر نقصان هيبة العلم في القلب ينقص حظ الْعَبْد منه؛ حَتَّى يكون من القلوب قلب لَيْسَ فيه شيء من العلم.
    [الشرح]
    إذًا من هذه الجملة نعرف:
    أَن من كان عنده مزيد علم فَإِنَّ في قلبه مزيد تعظيم للعلم، ومن كان قلبه خاويًا من العلم فقد خوى قلبه من تعظيم العلم قبل ذَلِكَ، فَالْمَسْأَلَة كلها مدارها عَلَى تعظيم العلم، مَن عظَّم العلم نال منه حظًّا وافرًا، ومن لم يُعظِّم العلم فلا يسأل: لماذا كان حظي منه قليلًا؟ لأنه لم يُعظِّم العلم في قلبه.
    [المتن]
    فمن عظم العلم لاحت أنواره عليه، ووفدت رسل فنونه إليه، ولم يكن لهمته غاية إِلَّا تلقيه، ولا لنفسه لذة إِلَّا الفكر فيه، وكان أبو مُحَمَّد الدارمي الحافظ لمح هذا الْمَعْنَى، فختم (كِتَاب العلم) من سننه المسماة بـــ (المسند الجامع) بــباب في إعظام العلم.
    [الشرح]
    الشَّيْخ يستشهد بفعل أبي مُحَمَّد الدارمي رَحِمَهُ اللهُ حين ختم كِتَاب العلم من سننه المسماة بـــ (المسند الجامع) بباب في إعظام العلم، وهذا الأمر -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- لا ينطبق فَقَطْ عَلَى العلم، كُلُّ عِبَادَة يعظمها الْعَبْد ينال منها حظًّا وافرًا، من عظَّم الصَّلَاة نال من الصَّلَاة حظًّا وافرًا، من عظَّم الصوم نال من الصوم أجرًا عظيمًا كبيرًا، وهكذا.
    كُلُّ عِبَادَة يزداد انتفاع الْعَبْد بها عَلَى قدر تعظيمه لها:
    والعلم عِبَادَة من أشرف العبادات، وأجلها؛ لأنه ينير الطريق إلى الْإِنْسَان، وبه يعرف الْإِنْسَان الخير من الشر، والحق من الباطل، والصواب من الخطأ، وَأَمَّا من لم يكن لديه علم فإنه يتخبط في الشهوات، ويتلاعب بِهِ أهل الباطل، ويتلاعب بِهِ الشيطان -وَالعِيَاذ باللهِ- ويغرق ربما في وحل الشهوات والشبهات؛ لأنه لَيْسَ متسلحًا بالعلم.
    فهذا الْكِتَاب أهميته تأتي من موضوعه:
    وَهُوَ أَنَّهُ يخبرنا عَنْ قيمة تعظيم العلم لمن أراد طلب العلم، وهكذا -كَمَا ذَكَرْت لكم- كُلّ عِبَادَة ينال الْعَبْد منها الحظ الأوفر إذا امتلأ قلبه بتعظيم هذه الْعِبَادَة.
    وانظر لنفسك مثلًا إذا تجهزت للصلاة وتوضأت وأسبغت الوضوء، ثُمَّ خرجت من البيت مبكرًا إلى الصَّلَاة، وقلبك مملوء بتعظيم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وأنك ستناجي الله وهكذا، ففي قلبك تعظيم للصلاة، فإنك تجد من الخشوع والخضوع واللذة في هذه الصَّلَاة ما لا تجده لو لم يكن في قلبك ذَلِكَ التعظيم.
    والعلم ينطبق عليه هذا الْمِثَال:
    فَإِنَّ الْعَبْد الذي يعظم العلم ويُجِلُّه يرزقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منه حظًّا وافرًا، وَسَيَأْتِي مَعْنَاهُ معاقد ذكرها الْمُصَنِّف الشَّيْخ العصيمي وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى تساعد طالب العلم عَلَى تعظيم العلم، وتدله عَلَى الطريق الَّتِي بها يكون معظمًا للعلم، وهذا هُوَ موضوع هذا الْكِتَاب.
    [المتن]
    وأعون شيء عَلَى الوصول إلى إعظام العلم وإجلاله معرفة معاقد تعظيمه؛ وَهِيَ الأصول الجامعة المحققة لعظمة العلم في القلب، من أخذ بها كان معظمًا للعلم، مُجِلًّا له، ومَن ضيَّعها فلنفسه أضاع، ولهواه أطاع، فلا يلومَنَّ إن فتر عنه إِلَّا نفسه (يداك أوكتا، وفوك نفخ) ومن لا يكرم العلم لا يكرمه العلم.
    [الشرح]
    لاحظوا في بعض الجمل في الْكِتَاب من جمال هذا الْكِتَاب أَن الجمل المهمة الَّتِي تعتبر كالخلاصة لهذا الْكِتَاب أنا أتحدث عَنْ كِتَاب الشرح الآن كِتَاب (شرح تعظيم العلم) للعصيمي الذي أرسلته لكم في القناة، ونحن الآن نقرأ في الصفحة رقم 9.
    من جمال الْكِتَاب:
    إن الْكُتُب المهمة الَّتِي هِيَ محور الْكِتَاب، ومدار حديث الْكِتَاب، الَّتِي نستطيع أَن نَقُول: إنها خلاصة الْكِتَاب، وأهم ما ذكر في الْكِتَاب محبرة، يَعْنِي: مغمقة، من ثمَّ يركز عليها القارئ ويركز عليها طالب العلم، من هذه الجمل قول الْمُصَنِّف وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى: (ومن لا يكرم العلم لا يكرمه العلم).
    [المتن]
    وسنأتي بالقول بِإِذْنِ اللهِ عَلَى عشرين معقدًا يعظم بها العلم من غَيْر بسطٍ لمباحثها، فَإِنَّ المقام لا يحتمل، والإتيان عَلَى غاية كُلّ معقد يحتاج إلى زمنٍ مديد، والمراد هنا التبصرة والتذكير (وقليل يبقى فينفع، خيرٌ من كثير يُلقى فيرفع).
    [الشرح]
    وهذه قاعدة -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام-:
    دائمًا النفس قَدْ تميل في بعض الأحيان إلى التطويل، ولكن التطويل قَدْ يضر بالسامع؛ لِأَنَّ الْكَلَام قَدْ يُنْسي بعضُه بعضًا، لكن إذا رُزِق الْإِنْسَان مهارة تلخيص العبارات وتلخيص الْكَلَام والإتيان عَلَى صلب الموضوع بأقل عبارة، فَإِنَّ ذَلِكَ رزق من الله يؤتيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من يشاء، وهذا هُوَ المطلوب عند التعليم ألا يكثر الْإِنْسَان طالب العلم بحيث يتشتت، وَإِنَّمَا يبدأ طالب العلم بِالتَّدَرُّجِ، ويهتم بأصول العلم، وسيمرُّ معنا في معاقد تعظيم العلم أَن الْإِنْسَان يهتم بأصول العلم؛ لِأَنَّ العلم بحر، العلم واسع، والإنسان لو أفنى عمره كله في طلب العلم لم يدرك آخره، فعَلَى هذا ينبغي له أَن يعرف طريق العلم.
    الكثير من الناس يرغبون في أَن يطلبوا العلم:
    لكنهم يبذلون أعوامًا وسنين دون أَن يحصلوا منه حظًّا وافرًا.
    ما السَّبَب؟
    لعله يكون أحد الأسباب: عدم معرفتهم بالطريق الموصل إلى بلوغ الغاية في العلم، فهذا الْكِتَاب أحببنا أَن نبدأ بِهِ حَتَّى يدلنا عَلَى الطريق، فلا نتشتت ولا نتخبَّط، ولا نُضيِّع الأعمار والسنين هكذا دون كبير فائدة، فكانت البداية مع هذا الْكِتَاب النافع المفيد.
    [المتن]
    فخذ من هذه المعاقد بالنصيب الأكبر تنل الحظ الأوفر من رياض الفنون، وحدائق العلوم، وَإِيَّاكُمْ والإخلاد إلى مقالة قوم حُجبت قُلوبهم، وضعفت نُفوسهم، فزعموا أَن هذه الأحوال غلو وتنطُّع وتشدُّد غَيْر مقنع، فقد ضُرب بينهم وبينها بسور له باب باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قِبَله العذاب.
    [الشرح]
    وكلام الشَّيْخ هنا وَفَّقَهُ اللهُ يحتمل أحد أمرين:
    1- إِمَّا أَنَّهُ فعلًا هناك بعض الناس قالوا للشيخ أو كتبوا أو سَمِعَ الشَّيْخ أنهم يقولون: إن هذه الأمور المذكورة في هذا الْكِتَاب فيها تنطُّع وفيها غلو وفيها تعظيم للعلم فوق الحد المطلوب وا وا.. إلى آخره.
    2- أو أَن الشَّيْخ يرد عَلَى شُبَهٍ قَدْ تُلقى عَلَى كتابه، فهو من البداية يذكر أَنَّهُ رُبما يأتي أُناس ويقولون: إن هذه الأحوال تنطُّع وتشدد وغلو، فهؤلاء قوم لم يعرفوا العلم ولم يعرفوا قدره.
    فهذا محتمل، وهذا محتمل، واللهُ أَعْلَمُ.
    [المتن]
    فليس مع هَؤُلَاءِ.
    [الشرح]
    أي الَّذِينَ ينتقدون ما هُوَ موجود في مثل هذا الْكِتَاب.
    [المتن]
    عَلَى دعواهم من أدلة الشرع ما يصدقها، ولا من شواهد الأقدار ما يوثقها، وَإِنَّمَا هِيَ عذر البليد، وحجة العاجز، فأين الغلو والتنطُّع من شيء الوحي شاهده، والرعيل الْأَوَّلُ سالكه.
    [الشرح]
    هنا -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- فيه قاعدة نريد أَن نستفيدها من هذا الْكَلَام:
    (أَن الحكم عَلَى أفعال الناس وأقوالهم وأعمالهم هُوَ كِتَاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فما وافق الشرع قبلناه، وما صادم الشرع رفضناه، وإذا كان الْمُسْلِم بهذه الطريقة فإنه -أيها الأحِبَّة الكرام- يعيش حياة هانئة، هادئة، مطمئنة، راضية، مسلمة لأمر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، كما قَالَ الله: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36].
    فهو فَقَطْ الحجة الَّتِي ينتظرها أَن يكون الدليل ثابتًا في كِتَاب الله أو سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَن يكون الدليل في الْقُرْآن أو ثابتًا في سنة النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يبحث ويقول: لَا بُدَّ الْكَلَام يكون مقنعًا، أو ما هِيَ الحجة الَّتِي تقنعني؟
    القناعة كُلّ القناعة أو العقل كُلّ العقل:
    أَن تسير وَفْق كِتَاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ الْعَبْد سلم أَن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ خالق الكون، وَهُوَ مُدبِّره، وَهُوَ رب العالمين، وَهُوَ إله الأوَّلين والآخرين، وَهُوَ العليم الخبير، وَهُوَ الحكيم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو يؤمن بذلك، ثُمَّ آمن بالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه مُرسَل من عند ربنا تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فلم يبق هناك مجال لردِّ شيء جاء عَن الله أو عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل الحكمة كُلّ الحكمة أَن نتبع ما جاء في كِتَاب الله وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام، كُلّ الناس يدَّعي:
    يدَّعون أنهم عَلَى حق، حَتَّى أهل البدع يدَّعون أنهم عَلَى حق، أهل الباطل يدَّعون أنهم عَلَى حق، الكل يدَّعي، لكن ما هُوَ دليلك عَلَى هذا الدعوى؟ ما هِيَ البينة؟ ما هِيَ الحجة؟
    أَمَّا الْمُسْلِم فحجَّتُه قَالَ الله قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكفى بها حُجَّة، وكفى بهذه الحجة شرفًا وفضلًا، قَالَ الله، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كفى، انْتَهَى الموضوع، بالنسبة للمسلم انْتَهَى النقاش، بدأ وقت العمل، بدأ وقت التنفيذ، أَن أعرف أَن هذا الأمر خير أو شر انْتَهَى الموضوع بمجرد أني عرفت أَنَّهُ جاء في الشَّرِيعَة، إِمَّا الأمر بِهِ أو المنع عنه، بقي أني أعمل بهذا الشيء حَتَّى أنجو أمام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    أَمَّا الَّذِينَ ربما في قلوبهم مرض أو يُعطون أنفسهم أكبر من حجمها، يتكبَّرون عَلَى الوحي، ويظنون أَن عقولهم أفضل مِمَّا جاء عَن الله أو عَنْ رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهؤلاء لم يقدروا الله حقَّ قدره، وصدق الله ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ [الأنعام: 91].
    هَؤُلَاءِ لم يعرفوا أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ أعلم بمصالحهم من أنفسهم، يقولُ ربنا جَلَّ فِي عُلَاهُ: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]؛ يَعْنِي: ألا تستحون أَن تعارضوا ما جاء عَنْ الله وعن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ لعل هذا الْمَعْنَى يمكن أخذه من هذه الآية، عمومًا هذه الجملة؛ لأنها إذا وضعناها كقاعدة تساعدنا كثيرًا في مواجهة الشبهات الَّتِي تعرض في طريق الْمُسْلِم، يُلقي بها أهل الباطل، وكما قَالَ الله: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الفرقان: 31]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 112].
    أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام:
    إذا كان الْأَنْبِيَاء أبناء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بنصِّ الْقُرْآن أَن أهل الباطل يجادلونهم، ويلقون عَلَى مسامع الناس كلامًا يُشكِّكهم في كلام الْأَنْبِيَاء، فما بالكم بِمَا هُوَ دونهم من الدعاة وغيرهم؟! فلا يفتر الْعَبْد عَنْ طريق العلم إن وجد من يثبط عنه؛ لأنه متمسك بأصل عظيم، الأصل هُوَ (قَالَ الله، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كما قَالَ ابْن القيم رَحِمَهُ اللهُ في النونية:
    العلم قَالَ الله قَالَ رسوله

    قَالَ الصحابة هم أولو العرفان


    [المتن]
    فأين الغلو والتنطُّع من شيء الوحي يشاهده، والرعيل اَلْأَوَّلُ سالكه؟ فكل معقد منها ثابت بآية محكمة، أو سنة مصدقة، أو آثار عَنْ خير القرون الماضية، فإذا وثقت بصدقها وعقلت حبرها وخبرها، فلا تقعد همتك بخطبة الكسل والتواني، تتسلل إِلَيْهَا وَهِيَ تجلجل، هذه أحوال من مضى من سلف الأُمَّة وخير الورى، فأين الثرى من الثُّريَّا؟ بل من سمت نفسه إلى مقاماتهم أدركها.
    فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم

    إن التشبه بالكرام فلاح



    [الشرح]
    الحقيقة -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- حينما نقرأ في الْكِتَاب سنجد فعلًا أَن الشَّيْخ كما ذكر في مقدمته وَفَّقَهُ اللهُ كُلّ معقد من معاقد تعظيم العلم يذكر عليه دليلًا، يَعْنِي فعلًا هُوَ الآن قَالَ في المقدمة: كيف هَؤُلَاءِ يزعمون وجود خلل فِيمَا أقول وأنا كُلّ شيء أقوله أستشهد عليه، إِمَّا بكلام الله أو كلام رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أقوال ونقولات عَن السَّلَف عليهم رحمة الله، فمن أين جاء النقد؟! فهذا معنى كلامه، وفعلًا من يقرأ الْكِتَاب يجد أَنَّهُ وَفَّقَهُ اللهُ يستشهد دومًا عَلَى كُلّ معقد إِمَّا بآية أو حديث أو أثر عَن السَّلَف عليهم رحمة الله تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ في خاتمة هذه المقدمة.
    [المتن]
    فأشهد قلبك هذه المعاقد وتدبَّر منقولها ومعقولها، واستنبط منطوقها ومفهومها، فالمباني خزائن المعاني.
    [الشرح]
    بهذا أن انتهينا من المقدمة الَّتِي ذكرها الشَّيْخ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى، نبدأ إِنْ شَاءَ اللهُ غدًا مع المعقد الْأَوَّل وَهُوَ: (معقد تطهير وعاء العلم) ولعلنا نمر عَلَى المعاقد قراءةً يَعْنِي عناوين هذه المعاقد.
    المعقد الْأَوَّلُ: تطهير وعاء العلم.
    المعقد الثَّانِي: إخلاص النِّيَّة فيه؛ يَعْنِي: في طلب العلم.
    المعقد الثَّالِث: جمع همة النفس عليه.
    المعقد الرَّابِع: صرف الهمة فيهإلى علم الْقُرْآن وَالسُّنَّة.
    المعقد الخَامِس: سلوك الجادة الموصلة إليه.
    المعقد السَّادِس: رعاية فنونه في الأخذ وتقديم الأهم فالمهم.
    المعقد السَّابِع: المبادرة إلى تحصيله واغتنام سن الصبا والشباب.
    المعقد الثَّامِن: لزوم التأني في طلبه وترك العجلة.
    المعقد التَّاسِع: الصبر في العلم تحملًا وأداءً.
    المعقد العَاشِر: ملازمة آداب العلم.
    المعقد الحادي عشر: صيانة العلم عما يشين المروءة، صيانة العلم عما يشين مِمَّا يخالف المروءة ويخرمها.
    المعقد الثَّانِي عشر: انتخاب الصحبة الصالحة له.
    المعقد الثَّالِث عشر: بذل الجهد في تحفيظ العلم والمذاكرة بِهِ، والسؤال عنه.
    المعقد الرَّابِع عشر: إكرام أهل العلم وتوقيرهم.
    المعقد الخَامِس عشر: رد مشكله إلىأهله.
    المعقد السَّادِس عشر: توقير مجالس العلم وإجلال أوعيته.
    إِنْ شَاءَ اللهُ نمر عليها كلها بعون الله، نسأل الله الإعانة والتيسير.
    المعقد السَّابِع عشر: الذب عَن العلم والذود عَنْ حياضه.
    المعقد الثَّامِن عشر: التحفظ في مَسْأَلَة العلم.
    المعقد التَّاسِع عشر: شغف القلب بالعلم وغلبته عليه.
    المعقد العشرون: حفظ الوقت في العلم.
    فَهِيَ عشرون معقدًا ثُمَّ ختم الْمُصَنِّف وَفَّقَهُ اللهُ الْكِتَاب بخاتمة نافعة، أسأل الله عَزَّ وَجَلَّ أَن ينفعنا وإياكم بِمَا نَقُول ونسمع، والله تَعَالَى أعلم، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد، وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,676

    افتراضي رد: مجالس شرح كتاب تعظيم العلم للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي

    المجلس الثاني من مجالس شرح كتاب تعظيم العلم

    للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي

    د. خالد بن حسن المالكي


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، اللَّهُمَّ صل وسلم وبارك عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

    أَمَّا بعد:فمرحبًا بكم وحيَّاكم الله مع [المجلس الثَّانِي من مجالس شرح كِتَاب تعظيم العلم].

    للشيخ/ صالح بْن عبدالله بْن حمد العصيمي وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى.

    تكلَّمنا بالأمس عَن المقدمة؛ وخلاصتها ما ذكرناه: من أَن حظ الْعَبْد من العلم عَلَى قدر تعظيم قلبه للعلم.

    وهذا الأمر -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- كما ذكرنا بالأمس:
    لا يختص فَقَطْ بالعلم، كُلّ عِبَادَة يتعبد بها الْعَبْد لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِنَّ نصيبه وحظه وأجره من تِلْكَ الْعِبَادَة عَلَى قدر تعظيم قلبه لتلك الْعِبَادَة.

    مثْلًا الصَّلَاة: حظ الْعَبْد من الصَّلَاة، استفادته من الصَّلَاة، تأثير الصَّلَاة في حياته، انتفاعه من الصَّلَاة، حصول بركة الصَّلَاة عليه وعَلَى أعماله وعَلَى حياته وعَلَى أولاده وعَلَى بيته، وعَلَى أهله وعَلَى ماله، تكون عَلَى قدر تعظيم قلبه للصلاة، وعَلَى هذا فقِسْ.

    وموضوعنا وَهُوَ العلم:
    العلم من أشرف العبادات؛ لأنه سَبِيل زيادة الإيمان، فلا سَبِيل إلى زيادة الإيمان إِلَّا بالعلم، يتعلم الإِنْسَان دينه ثُمَّ يعمل بهذا العلم، ونحن إذ نَقُول ذَلِكَ ينبغي عَلَيْنَا أَن نحتسب الأجر في مثل هذه المجالس -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- إننا الآن في عِبَادَة، كما أَن المصلي في عِبَادَة، وكما أَن الصائم في عِبَادَة، وكما أَن المتصدِّق في عِبَادَة، فَالَّذِي يجلس في مجالس العلم ويحضر دروس العلم هُوَ في عِبَادَة.

    فيستحضر النِّيَّة، ويبتغي الأجر من عند الله، ويسأله القبول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه في عِبَادَة؛ بل هِيَ من أشرف العبادات كما سبق أن ذكرنا ذَلِكَ؛ لأنه بها يعرف العَبْد الخير من الشَّر، والحق من الباطل، وَهِيَ الَّتِي تدفعه إلى العمل.

    ما الذي يدفع العَبْد إلى العمل والإكثار من الصالحات والإكثار من أنواع العبادات والتقرُّب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟
    هُوَ: العلم، العلم يحث ركاب الْعَبْد إلى الطاعات، يدفعه دفعًا إلى أبواب الخيرات، يسوقه سوقًا إلى مراضي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإلى جناته، فنسأل الله جَلَّ فِي عُلَاهُ أَن يجعلنا ممن يحرصون عَلَى مجالس العلم، ويستفيدون منها، وممن يتعلمون العلم النافع ويعملون بِهِ وينشرونه، إن ربي قريب مجيب.

    اليوم نتحدَّث إنْ شاء الله عَن المعقد الأول الذي ذكره الشَّيْخ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى من معاقد تعليم العلم.

    [المتن]
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ:
    المعقد اَلْأَوَّلُ
    تطهير وعاء العلم
    وَهُوَ القلب؛ فَإِنَّ لكل مطلوب وعاء، وإن وعاء العلم القلب، ووسخ الوعاء يعكره ويُغيِّر ما فيه.

    [الشرح]
    أعتقد أني ذكرت هذا الأمر بالأمس؛ أَن من جمال الْكِتَاب: أَنَّهُ يُحبر العبارات الهامة الَّتِي تعتبر كالملخص للكتاب، يَعْنِي مَثَلًا أنا أقرأ الآن في كِتَاب الشرح، نجد أَن الشَّيْخ في العبارة هذه (وإن وعاء العلم القلب، ووسخ الوعاء يعكره ويغير ما فيه) نجد أنها محبرة، دلالة عَلَى أَن هذه الجملة وهذه العبارة كالملخص ومن أَهَمِّ ما ينبغي العناية بِهِ في هذا الْكِتَاب، وهذه العبارة تعتبر كالملخص للكتاب وأهم الأفكار الواردة في الْكِتَاب.

    [المتن]
    وبحسب طهارة القلب يدخله العلم، وإذا ازدادت طهارته ازدادت قابليته للعلم، ومثل العلم في القلب كنور المصباح إن صفا زجاجه شعَّت أنواره، وإن لطخته الأوساخ كسفت أنواره، فمن أراد حيازة العلم فليزن باطنه، ويُطهِّر قلبه من نجاسته، فالعلم جوهر لطيف لا يصلح إِلَّا للقلب النظيف.

    [الشرح]
    أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام، هذا الْكَلَام يُكتَب بمِداد الذهب، كلام مهم جدًّا، الشَّيْخ الآن يوضح المكان الذي يُحفظ فيه العلم، ما هُوَ الوعاء؟ هُوَ سمى المعقد تطهير وعاء العلم، عندما تشرب ماءً أو تأكل طعامًا، عَلَى سَبِيل الْمِثَال تأكل طعامًا، ما هُوَ الوعاء؟ أين تأكل الطعام؟ تأكله في وعاء معين هُوَ الذي يوضع فيه الطعام.

    شبه الشَّيْخ هنا العلم بأن له وعاءً كما أَن الطعام له وعاء:
    فالطعام يُوضَع في الوعاء إذا كان الوعاء نظيفًا، فَإِنَّ الْإِنْسَان يشتهي ذَلِكَ الطعام وينتفع بِهِ، وإذا كان الوعاء متسخًا حَتَّى لو كان الطعام لذيذًا، حَتَّى لو كان الطعام جيدًا، فإنه تنقص قيمته باتساخ الوعاء، وتقل استفادة الإِنْسَان منه بسبب وسخ الوعاء، هكذا القلب وهكذا العلم.

    القلب محل العلم ووعاؤه:
    فالإنسان عندما يحفظ الْقُرْآن أين يكون الْقُرْآن؟ يكون في قلبه، عندما يتعلم السُّنَّة تكون في قلبه، عندما يتعلم العلم النافع يكون في قلبه، يقرأ الْكِتَاب، الأفكار الواردة فيه ترسخ في قلبه، إذا كان القلب نظيفًا صالحًا ثبت العلم، وانتفع الْإِنْسَان بِهِ انتفاعًا عظيمًا، وتغيَّر حاله.

    ولذلك كان السَّلَف عليهم رحمة الله يقولون: لا يكاد أحد يطلب العلم إِلَّا ويُرى أثر ذَلِكَ ظاهرًا عليه، يَعْنِي في زمن السَّلَف عندما يبدأ أحد يحضر مجالس العلم ومجالس الشيوخ؛ تجد أَنَّهُ مباشرة الرَّجُل تغير، فيه شيء تغيَّر فيه.

    ما السَّبَب؟!
    السَّبَب -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام-: طهارة قلوبهم، فمجرد أَنَّهُ يحصل عَلَى علم، مجرد أَنَّهُ يسمع كلام الله، وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتغيَّر حاله، تتهذب أخلاقه، تتحسن ألفاظه، يتغير أسلوبه، طريقته في الْكَلَام، طريقته في النقاش، وطريقته في الحوار، طريقته في الاستدلال، ردودُه وأفعالُه كُلُّها تتغيَّر؛ لِأَنَّ القلب نظيف، تحلى فيه العلم فظهرت البركات والخيرات والأنوار، بعون الله سريعًا عَلَى صاحب ذَلِكَ القلب.

    وبالعكس إذا كان القلب متسخًا -وَالعِيَاذ باللهِ- فيه أوساخ الشهوات والشبهات كما سيمُرُّ معنا، سنقرأ إِنْ شَاءَ اللهُ ما ذكره الشَّيْخ في هذا المعقد؛ فَإِنَّ انتفاع الْعَبْد من العلم يكون ضعيفًا بسبب هذه الأوساخ، والمكدرات، والشوائب، الَّتِي تحول بين العلم وبين القلب، العلم إذا وصل إلى القلب انتفع الْإِنْسَان، لكن إذا كانت هناك حواجز بين وصول العلم للقلب فلا يستغرب الْعَبْد عدم انتفاعه بالعلم.

    لذلك تجد بعض الناس:
    ربما يبقى في الحلقات فترة طويلة، ويبقى مع الصالحين فترة طويلة، ويحضر مجالس العلم كثيرًا، لكن استفادته تأثره هُوَ بنفسه حاسس أنها لَيْسَت الاستفادة الَّتِي يرجوها، هنا ينبغي أَن يراجع نفسه، وأن يراجع تحديدًا قلبه، فينظر هل القلب صالح لِأنْ يتلقى النور الذي أنزله الله عَلَى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ يَعْنِي نور الوحي نور الْقُرْآن وَالسُّنَّة؟ أم القلب فيه شوائب؟ أم القلب فيه شبهات؟ أم القلب فيه شهوات؟ فيجب أَن يتوقف مع نفسه وقفة فيتخلص من كُلِّ المعاصي.

    والله يا أحبة لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من كلام ربنا:
    هذا كلام عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، لو طهرت قلوبنا لكفانا آية واحدة، لكفانا حديث واحد يُغيِّر حياتنا، تتغيَّر أحوالنا، أحوال الأُمَّة كلها تتغير بآية أو حديث إذا كانت القلوب طاهرة.

    لكن المصيبة في المعاصي:
    المصيبة في هذه الحواجز الَّتِي تحول بين العلم وبين القلب، تحول بين كِتَاب الله جَلَّ فِي عُلَاهُ وبين القلب.

    فتطهير وعاء العلم أَهَمُّ ما ينبغي عَلَى طالب العلم العناية بِهِ:
    لأنه كثيرًا -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- ما يبدأ طالب العلم يتعمَّق في دراسة الشَّرِيعَة، وينبغي له أَن يعرف هذه الأسس، كأن الشَّيْخ صالح العصيمي وَفَّقَهُ اللهُ يَقُولُ لطالب العلم: تنبَّه قبل أَن تسلك الطريق نظِّف المحل، نظِّف قلبك حَتَّى تنتفع بهذه الدروس وهذه المجالس الَّتِي ستحضرها، وهذه الْكُتُب الَّتِي ستقرؤها، وهذا العلم الذي ستحصله ويكون حجة لك لا عليك، وينفعك عند الله، تطهير قلبك هذا هُوَ يَعْنِي دعونا نقل خلاصة هذا المعقد.

    [المتن]
    من أراد حيازة العلم فليُزيِّن باطنه، ويُطهِّر قلبه من نجاسته، فالعلم جوهر لطيف لا يصلح إِلَّا للقلب النظيف.

    وطهارة القلب ترجع إلى أصلين عظيمين:
    أَحَدُهُمَا: طهارته من نجاسة الشبهات.
    الآخر: طهارته من نجاسة الشهوات.

    [الشرح]
    حقيقةً أنا أُحيِّي الشَّيْخ وَفَّقَهُ اللهُ عَلَى اختياره لكلمة (نجاسة) نعم -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- الشهوات والشبهات والمعاصي الَّتِي تقع في القلب، هذه نجاسات، فتخيَّلوا كيف أَن كلام الله طاهر وكلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خيرٌ وحقٌّ ونورٌ، كيف يحل في قلب متنجِّس؟! تريد أَن ينتفع ذَلِكَ القلب بهذه الهداية بهذا الخير، بهذه الطهارة، بهذا النور، بهذا الوحي المبارك، الذي أنزله الله عَلَى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قلب نجس فيه من الشهوات والشبهات والبلايا ما لا يعلمه إِلَّا الله؟!

    لَا شَكَّ أن انتفاعه إن انتفع بالقرآن وَالسُّنَّة سيكون ضعيفًا، وتأثير الْقُرْآن وَالسُّنَّة عليه سيكون محدودًا، لا لعيب في الْقُرْآن وَالسُّنَّة معاذ الله؛ بل لعيب في ذَلِكَ القلب الذي يريد الانتفاع بالقرآن وَالسُّنَّة.

    [المتن]
    ولما لطهارة القلب من شأن عظيم، أمر بها النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    [الشرح]
    يَعْنِي كأنه يَقُولُ: إذا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بذلك ما بالك نحن لا نعتني بِهِ؟!

    [المتن]
    في أول ما أمر في قوله تَعَالَى في سورة المدثر: ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [المدثر: 4] في قول من يُفسِّر الثياب بالباطن، وَهُوَ قول حسن، له مأخذ صحيح، وإذا كنت تستحي من نظر مخلوق مثلك إلى وسخ ثوبك.

    [الشرح]
    دعونا نقرأ ما ذكره الشَّيْخ في شرح هذه العبارة في كتابه في شرح المتن.

    [المتن]
    وقدر ذكر أبو جعفر ابن جرير الطبري في تفسيره: أَن هذا القول.

    [الشرح]
    يَعْنِي تفسير قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [المدثر: 4] أَن مَعْنَاهُ طهِّر باطنك، أبو جعفر ابْن جرير هذا شيْخ المفسرين وإمامهم رَحِمَهُ اللهُ.

    [المتن]
    هُوَ قول أكثر السَّلَف، أنهم يرون أَن المراد بقوله تَعَالَى: ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾؛ أي: طهِّر أعمالك من كُلِّ نجاسة، والسياق يقوِّيه.

    [الشرح]
    ما معنى السياق يقوِّيه؟ لِأَنَّ الآيات الَّتِي قبلها والآيات الَّتِي بعدها كلها تتحدث عَنْ تطهير الْعَبْد أعماله وباطنه وظاهره، فيتسق أَن يكون السياق طهِّر أعمالك من كُلِّ نجاسة، هذا هُوَ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الله تَعَالَى يَقُولُ في السورة: ﴿ يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 1 - 5] فالآية الَّتِي قبلها فيها: ﴿ وَرَبَّكَ فَكَبِّر ﴾ [المدثر: 3]؛ أي: عظِّم الله بالتوحيد، والآية الَّتِي بعدها: ﴿ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 5]؛ أي: ابتعد عَن الأصنام واهجرها، وفارقها وأهلها.

    فالآية الَّتِي في المنتصف: ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [المدثر: 4]، السياق يقوِّي أَن معناها طهِّر أعمالك من كُلِّ نجاسة، واللغة تحتمل هذا الْمَعْنَى.

    [المتن]
    وهذا معنى قول الْمُصَنِّف: (له مأخذ صحيح) وَهُوَ رعاية سياق الآيات، فَإِنَّ السياق المتتابع للآيات يبين عَنْ تقديم الأمر بالإيمان بالله وتوحيده في قوله: ﴿ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾ [المدثر: 3]، ثُمَّ ذكر هذه الآية: ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [المدثر: 4]، ثُمَّ أتبعها بقوله تَعَالَى: ﴿ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 5]، آمرًا بالكفر بالطاغوت واجتناب الشِّرْك، فبين الآيتين يكون المناسب للسياق حمل قوله تَعَالَى: ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [المدثر: 4]، عَلَى تطهير القلب من النجاسات الَّتِي تعلوه.

    [الشرح]
    الآن نستفيد فائدة تعتبر من قواعد التَّفْسِير:
    من قواعد التَّفْسِير (أنك إذا أردت أَن تفهم معنى آية من كِتَاب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فلا تغفل السياق) لا تغفل السياق، اقرأ الآية الَّتِي قبلها، والآية الَّتِي بعدها حَتَّى تفهم الْمَعْنَى بوضوح، وَحَتَّى لا يَلْتَبِس عليك معنى الآية، لا تأخذ الآية بدون النظر للآيات الَّتِي قبلها والآيات الَّتِي بعدها، انظر إلى السياق كاملًا يحصل لك تمام الفهم بعون الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لمقصود الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من هذه الآية، ولمقصود هذه الآية، أو لمفهوم هذه الآية ومعناها، واللهُ أَعْلَمُ بمراده.

    [المتن]
    ولما لطهارة القلب من شأن عظيم أُمِر بها النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول ما أمر، في قوله تَعَالَى في سورة المدثر: ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [المدثر: 4]، في قول من يُفسِّر الثياب بالباطن، وَهُوَ قول حسن له مأخذ صحيح.

    [الشرح]
    اللَّهُ أَكْبَرُ! أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام:
    اليوم لو لم نخرج بفائدة غَيْر الجملة الَّتِي قالها الشَّيْخ بعد ذَلِكَ لكفانا بذلك فضلًا وشرفًا وعلمًا.

    [المتن]
    إذا كنت تستحي من نظر مخلوق مثلك إلى وسخ ثوبك فاستح من نظر الله إلى قلبك، وفيه إحنٌ وبلايا، وذنوب وخطايا.

    [الشرح]
    يَقُولُ الشَّيْخ: إذا كنت تستحي أنك تخرج أمام الناس بثياب متسخة أفلا تستحي أَن يكون في قلبك شيء لا يحبه الله؟! والله ينظر إلى قلب الْعَبْد، والقلب موضع نظر الله من الْعَبْد، فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم؛ ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».

    فيتنبه الْعَبْد -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- إلى تطهير قلبه:
    ولا يجعل الله جل جلاله أهون الناظرين إليه، فيكون أمام الناس تقيًّا ورعًا، وبينه وبين الله فاجرًا فاسقًا، نسأل الله السلامة والعافية.

    أين مراقبة الله أَن تعبد الله كأنك تراه فَإِن لم تره فإنه يراك وأنه يعلم السر وأخفى؟!

    وفي الحَدِيْث الذي ذكره النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن أقوامًا يأتون يوم القيامة بحسنات كأمثال جبال تهامة بيضًا يجعلها الله هباءً منثورًا، قَالَ الصحابة: صفهم لنا يا رَسُول الله، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا إنهم إخوانكم ويأخذون من اللَّيْل كما تأخذون، لكنهم قومٌ إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها»، أو كما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    انظروا أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام:
    يأتون يوم القيامة بحسنات يَعْنِي معهم حسنات مقبولة، الله قبلها، يجعلها الله هباءً منثورًا، لماذا؟ لأنهم قومٌ إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها، جعلوا الله أهون الناظرين إليهم، كَمَا قُلْنَا: أمام الناس عُبَّاد زُهَّاد أتقياء أصحاب ورع، وبينهم وبين الله فُجَّار فُسَّاق، أصحاب معاصٍ، لا يأبهون أَن ينتهكوا محارم الله جَلَّ وَعَلَا، نسأل الله السلامة والعافية.

    فيتنبه الْعَبْد وخصوصًا طالب العلم:
    خصوصًا أنت مقبل تريد أَن يعلمك الله، وأنت تعلم أَنَّهُ لن تتعلم حرفًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ، إِلَّا بأمر الله، إِلَّا بتوفيق الله، فكيف تعصي الله جل جلاله ثُمَّ تطلب العلم؟! وتريد أَن يزيدك الله علمًا، وتريد أَن يمنحك الله توفيقًا وفهمًا، لا يتفق -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- فَإِنَّ ما عند الله لا يُطلب إِلَّا بطاعته، لا يُطلب أبدًا بمعصية الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، نسأل الله السلامة والعافية.

    [المتن]
    قَالَ مسلم بْن الحجَّاج.

    [الشرح]
    وَهُوَ الْإِمَام المعروف صاحب الصحيح رَحِمَهُ اللهُ.

    [المتن]
    حدثنا عمرو الناقد، حدثنا كثير بْن هشام، حدثنا جعفر بْن برقان، عَنْ يزيد الأصم، عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».

    [الشرح]
    هنا لطيفة:
    لماذا الشَّيْخ ذكر السند، كان بإمكانه أَن يَقُول: عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».

    أَيُّهَا الأَحِبَّة الكِرام:
    واللهُ أَعْلَمُ بمراد الشَّيْخ من ذَلِكَ، لكن لما كثر في زمننا الجدل والتعدي عَلَى سنة النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد الشَّيْخ أَن يَقُولُ لقارئ الْكِتَاب ولطالب العلم خصوصًا: إن ديننا مأخوذ بالسند، رجلًا عَنْ رجل، عَن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليس ديننا مأخوذًا بأقوال وأماني، وبأمور لسنا متأكدين منها، بالعكس نحن ديننا نأخذه أكابر عَنْ أكابر، جيلًا عَنْ جيل، يأخذون هذا الدِّين وينقلونه لمن بعدهم، فليس أمر الدِّين بترهات ولا بأمور تخرُّصات أو أشياء يقولها الناس من عند أنفسهم، بل هِيَ مأخوذة بالسند المتصل رجلًا عَنْ رجلٍ حَتَّى أخذوها عَن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا من خصائص هذه الأُمَّة المُحَمَّدِيَّة ، أَن الله حفظ لها دينها بمثل هذه الأسانيد.

    والأمر سيان فِيمَا يتعلق بالكتاب العزيز؛ وَهُوَ الْقُرْآن الكريم، وبما يتعلق بسنة النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ كلًّا منهما حفظ بهذه الأسانيد الَّتِي سخَّر الله لها أناسًا أوفياء صادقين أتقياء، نقولها عَنْ مثلهم عَنْ مثلهم عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    [المتن]
    واحذر كمائن نفسك اللاتي مَتَى
    خرجت عليك كُسرت كسر مهان




    [الشرح]
    يَعْنِي كأنه يَقُولُ: ترى قلبك إذا ما اعتنيت بِهِ لا تستغرب إذا وجدت فيه من الأمراض والشبهات والشهوات شيئًا كثيرًا؛ لِأَنَّ الشيطان مترصد لك، وشياطين الجن والإنس مترصدون لك، والدنيا بزخرفها مترصدة لك، وهكذا، وأصحاب السوء مترصدون لك، والشهوات كما ذكرنا والشبهات كلها ستجد أنها في طريقك حينما تسير إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    خلاصة الْكَلَام:
    لا تتوقع أنك ستكون صاحب قلب طاهر إِلَّا إذا كان لك عناية بهذا الأمر بعد توفيق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إذا تركت الأمر هكذا فإنك ستجد أنك في قلبك إحن وبلايا وذنوب وخطايا كما ذكر الشَّيْخ وَفَّقَهُ اللهُ، لماذا؟ لِأَنَّ النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.

    بعض الناس يَقُولُ:
    إِنْ شَاءَ اللهُ ما أحتاج أَن أحضر الدروس، ما أحتاج أني مثلًا أهتمُّ بحضور الدروس، أنا بِإِذْنِ اللهِ بعيد عَن المعاصي، أنت ربما الآن تكون بعيد عَن المعاصي، لكن هل تعلم ماذا سيحصل غدًا؟ الشيطان له خطوات، ثُمَّ لا تظهر أي تكبُّر عَلَى العلم، ولا تُظهر أي استغناء عَن العلم، فَإِنَّ هذا ميراث النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحق عَلَى من اتَّبَع النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يحرص عَلَى ميراث خير البشر صلوات الله وسلامه عليه.

    [المتن]
    من طهر قلبه فيه العلم حل، ومن لم يرفع منه نجاسته ودَّعَه العلم وارتحل، وإذا تصفحت أحوال طائفة من طلاب العلم في هذه المعقد رأيت خللًا بَيِّنًا، فأين تعظيم العلم من امرئ تغدو الشهوات والشبهات في قلبه وتروح؟! تدعوه صورة محرمة، وتستهويه مقالة مجرمة، حشوه المنكرات، وَالتَّلَذُّذ بالمحرمات، فيه غلٌّ وفساد وحسدٌ، وعناد ونفاق وشقاق، أنى لهؤلاء وللعلم؟! ما هم منه ولا هُوَ إليهم.

    قَالَ سهل بْن عبدالله: حرام عَلَى قلب أَن يدخله النور وفيه شيء مما يكره الله عَزَّ وَجَلَّ.

    [الشرح]
    وأعتقد أَن عبارة سهل رَحِمَهُ اللهُ تختصر هذا المعقد، قَالَ رَحِمَهُ اللهُ: (حرام عَلَى قلب أَن يدخله النور وفيه شيء مما يكره الله عَزَّ وَجَلَّ) نسأل الله عَزَّ وَجَلَّ أَن يُطهِّر قلوبنا، وأن يجعلها صالحةً لقبول العلم والانتفاع بِهِ، ونشره والعمل بِهِ.

    هذا والله تَعَالَى أعلم، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,676

    افتراضي رد: مجالس شرح كتاب تعظيم العلم للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي

    المجلس الثالث


    من مجالس شرح كتاب تعظيم العلم للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي

    د. خالد بن حسن المالكي

    الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، اللَّهُمَّ صل وسلم وبارك عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ، أَمَّا بعد:
    فحياكم الله مع المجلس الثَّالِث من [مجالس شرح تعظيم العلم] وَهُوَ كِتَاب الشَّيْخ صالح بْن عبدالله العصيمي وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى.


    كان هناك سؤال فِيمَا يتعلق بِمَا ذكره الشَّيْخ في معقد تطهير وعاء العلم:
    قَالَ الشَّيْخ من ضمن كلامه في هذا المعقد: (من طهر قلبه فيه العلم حل، ومن لم يرفع منه نجاسته ودعه العلم وارتحل) فنحن مثلًا نرى أن بعض أهل البدع وأهل المنكرات قَدْ يكون عنده شيء من العلم، قَدْ يكون هناك شخص مبتدع وعنده علم، كيف يتفق هذا مع هذا؟
    نحن يا أحبتي الكرام والشيخ سيذكر ذَلِكَ في ضمن المعاقد القادمة إِنْ شَاءَ اللهُ:
    عندما نتحدث عَن العلم لَا بُدَّ أن نعلم أن العلم ينقسم إلى قسمين:
    1- هناك علم نافع.
    2- وهناك علم غَيْر نافع.
    كما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والقرآن حجة لك أو عليك»، فنحن هنا عندما نَقُول: تطهير وعاء العلم؛ يَعْنِي تطهير القلب حَتَّى يكون العلم الذي يتعلمه الإِنْسَان نافعًا، وَحَتَّى يُحصِّل علمًا نافعًا لا مجرد معلومات؛ لأنه -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- قَدْ يكون هناك كافر يعرف القُرْآن وَالسُّنَّة أكثر مِمَّا يعرفه شخص مسلم، يكون عنده معلومات، يكون مثلًا هناك مستشرق يعمل دراسة دكتوراه -بحث دكتوراه- في جامعة هارفارد أو جامعة من الجامعات الغربية، وَقَدْ يكون عنده معلومات عَنْ كتب السُّنَّة، وتفاسير الْقُرْآن وغير ذَلِكَ، قَدْ لا توجد عَنْد بعض الْمُسْلِمِينَ، لكن هل انتفع بهذا العلم؟ لا شيء، لا شيء انتفاعه بالعلم، فليس مدار حديث هذا الْكِتَاب عَن العلم الذي هُوَ معلومات؛ أن الإِنْسَان يعرف، أن الإِنْسَان يحفظ، أن الإِنْسَان يكون عنده معلومات في ذهنه حول الشَّرِيعَة الإسلامية، لَيْسَ هذا هُوَ المقصود، نحن نتحدث عَن العلم الذي ينفعك أمام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا هُوَ مدار الحَدِيْث في هذا الكِتَاب، إذا أردت أن تُحصِّل علمًا تنتفع بِهِ أمام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويكون حجةً لك عند ربنا جَلَّ فِي عُلَاهُ وسببًا في دخول جنات النعيم، ووقايةً لك من عذاب الجحيم، فينبغي عليك أن تُعظِّم العلم، أَمَّا إذا كانت الْمَسْأَلَة مجرد أن الإِنْسَان يبحث عَنْ معلومات ويريد أن يُحصِّل كمًّا من المحفوظات فليس حديثنا معه، لَيْسَ حديثنا معه أن نَقُول له: لَا بُدَّ أن تطهر وعاء العلم، لَا بُدَّ أن تطهر قلبك، لَا بُدَّ أن تبتعد عَن المعاصي، حديثنا معه لا ينبغي أن يكون بهذا الشكل.
    نحن ينبغي أن نتحدث معه عَنْ أمور أخرى:
    نقول له: أحسن نيتك، أحسن قصدك، آمن بالله، ابتعد عن المحرمات حتى تنتفع بالعلم، لكن نحن نتحدث الآن عن شخص يطلب العلم، ويريد أن يكون هذا العلم حجةً له أمام الله؛ كما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والقرآن حجة لك أو عليك»، نتحدث عَنْ شخص يريد أن يحفظ الْقُرْآن ويتعلم الْقُرْآن.
    وهناك شرط لَا بُدَّ أن نفهمه أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام: يريد أن يتعلم الْقُرْآن ويريد أن يكون الْقُرْآن حجةً له.
    هنا نَقُول له: إذا أردت أن يكون الْقُرْآن حجةً لك، إذا أردت أن تنتفع بهذا العلم، أن يُغيِّر الْقُرْآن فيك، أن تُغيِّر السُّنَّة فيك، أن يكون الْقُرْآن حجة له أمام الله، أن تكون السُّنَّة حجة لك أمام الله، فعليك باتباع معاقد هذا الْكِتَاب، عليك بتعظيم العلم بتطهير وعائه؛ وَهُوَ القلب، عليك بإخلاص النِّيَّة فيه، وَهُوَ المعقد الثَّانِي من معاقد تعظيم العلم، فأرجو أن تكون الإجابة بِمَا ذكرت كافيةً في شرح المقصود، وإذا كان لا يزال هناك تعليق أو الإجابة لَيْسَت واضحة بالشكل المطلوب فبإمكانكم الكتابة في التعليقات عَلَى آخر رسالة أرسلت؛ وَهِيَ رسالة إعلان الدَّرْس وبدء الدَّرْس.
    نستعين بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ونبدأ في المقعد الثَّانِي؛ وَهُوَ: إخلاص النِّيَّة فيه.
    إخلاص النية فيه؛ يَعْنِي: إخلاص النِّيَّة في العلم.
    طبعًا نحن عرفنا وتكلمنا قبل ذَلِكَ؛ قُلْنَا: إن الْمُصَنِّف للمتن هُوَ الشَّيْخ صالح العصيمي، والشيخ صالح العصيمي نفسه هُوَ الذي شرح المتن في كِتَاب آخر اسمه (شرح تعظيم العلم)، لعَلِّي أعيد إرسال المتن والشرح في القناة إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    المعقد الثَّانِي
    إخلاص النِّيَّة فيه
    إن إخلاص الأعمال أساس قبولك، وسلم وصولها؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ﴾ [البينة: 5].
    وَقَالَ البخاري في (الجامع المسند الصحيح)، ومسلم في (المسند الصحيح) وَاللَّفْظ للبخاري: حدثنا عبدالله بْن مسلمة؛ قَالَ: أخبرنا مالك عَنْ يحيى بْن سعيد، عَنْ مُحَمَّد بْن إبراهيم، عَنْ علقمة، عَنْ عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الأعمال بِالنِّيَّةِ ولكل امرئ ما نوى»، وما سبق من سبق ولا وصل من وصل من السَّلَف الصالحين إِلَّا بالإخلاص لله رب العالمين.
    قَالَ أبو بكر المروزي رَحِمَهُ اللهُ: سمعت رجلًا يَقُولُ لأبي عبدالله -يَعْنِي أحمد بْن حنبل- وذكر له الصِّدْق والإخلاص، فَقَالَ أبو عبدالله: (بهذا ارتفع القوم) وَإِنَّمَا ينال المرء العلم عَلَى قدر إخلاصه.
    طبعًا هنا عندما نعيد هذه الجملة لعلَّها ترتبط بالمقدمة، بالحديث الذي كنا نتكلم فيه، أن العلم النافع الذي ينفعه أمام الله إِنَّمَا يناله المرء عَلَى قدر إخلاصه، طبعًا يا -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- بالنسبة لحديث: «إِنَّمَا الأعمال بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لكل امرئ ما نوى».
    هذا الحَدِيْث أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام:
    صَدَّر بِهِ عددٌ من أئمة الحَدِيْث كتبهم، منهم البخاري عَلَيْهِ رَحْمَةُ اللهِ، ذكره النووي في بداية (الأربعين النووية) وذكره في بداية (رياض الصالحين) وكثيرًا ما يذكره أهل الحَدِيْث في بداية كتبهم، للإشارة إلى أهمية النِّيَّة، وأن الأعمال لا تُقبل عند الله إِلَّا بنية صالحة، وتذكيرًا لأنفسهم وهم أئمة الحَدِيْث؛ لكن البخاري يحتاج إلى نية، والنووي يحتاج إلى نية، فالأئمة يُذكِّرون أنفسهم عند كتابتهم لهذِه المصنفات العظيمة بأهمية الإخلاص، وأهمية أن يكون ما يكتبونه خالصًا لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
    وكما ذكرنا في اللقاء الْمَاضِي أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام:
    العلم عِبَادَة؛ يَعْنِي أنت عندما تأتي وتجلس في هذا المجلس من مجالس العلم، أو غيره من مجالس العلم نصف ساعة أو ساعة، وهناك شخص آخر يقرأ قرآنًا، وهناك شخص آخر يصلي لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، كل هَؤُلَاءِ في عِبَادَة، أنت في عِبَادَة، وَهُوَ في عِبَادَة، وذاك في عِبَادَة، فالعلم عِبَادَة ينبغي أن نستحضر هذا الأمر، ونتذكره جيدًا، وما دام العلم عِبَادَة فهو يفتقر إلى النِّيَّة، شأنه في ذَلِكَ شأن أي عِبَادَة يتعبَّد بها العَبْد لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    لا تصح الْعِبَادَة كما لا يخفى عليكم إِلَّا بشرطين:
    1- الإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    2- متابعة النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    والبركة في العلم إِنَّمَا تكون عَلَى قدر الإخلاص؛ ولذلك سُبْحَانَ اللَّهِ! يذكر أهل العلم أن بعض الْكُتُب أصبحت واسعة الانتشار، وملأت أصقاع الدُّنْيَا، يَقُولُ أهل العلم: لعل ذَلِكَ من إخلاص أصحابها، لعل ذَلِكَ بسبب إخلاص أصحابها، والعلم عند الله.
    فكلما كان الْعَبْد مخلصًا لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بارك الله في الْعِبَادَة الَّتِي يتعبَّد لله عَزَّ وَجَلَّ بها، بارك الله في علمه، بارك الله له في صلاته، بارك الله له في قراءته للقرآن، بارك الله له في شأنه كله.
    وإذا حُرم الْعَبْد الإخلاص، إذا لم يكن عنده إخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه لا ينتفع بالعبادة، كأنه لم يعملها، لا يجد لها أثرًا لا في حياته، ولا في سلوكه، ولا في أخلاقه، ولا في أولاده، ولا في بيته، ولا في ماله، أبدًا، كأنه لم يعمل عِبَادَة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    لكن إذا رُزق الإخلاص عمَّت البركة حياته:
    ووجد أثرًا في قلبه ونورًا في صدره، وراحةً وسكينةً وطمأنينةً في الدُّنْيَا، هذه كلها عاجل بُشْرى المؤمن، هذه يحصلها الآن وَهُوَ في هذه الحياة، غَيْر ما يدخره الله له من الأجور العظيمة.
    فالله الله بالإخلاص أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام:
    وَقَدْ سمعت شيخنا الشَّيْخ مُحَمَّد المختار الشنقيطي حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى ووفقه يَقُولُ: لا يمل الْعَبْد من تكرار الحَدِيْث حول الإخلاص؛ يَعْنِي أنا أعرف أنكم ما شاء الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ربما تحضرون، وربما استمعتم لمواعظ حول الإخلاص وتعرفون هذا الأمر، ويمكن لو طُلب منكم الحَدِيْث حوله ما شاء الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلُّ واحد منكم قَدْ يتحدث ويسهب في الحديث، ولكن نُذكِّر أنفسنا، نحن نحتاج أن نُذكِّر أنفسنا باستمرار بأمر الإخلاص، مهما سمعنا من مواعظ، مهما حضرنا من دروس، إلى أن يشيب الإِنْسَان، إلى أن يلقى الله ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99] إلى آخر يوم في حياة الإِنْسَان لما يسمع موعظة عَنْ الإخلاص ينبغي أن يستمع لها بقلبه، وأن تؤثر فيه، وأن يتطامن، وأن يتواضع لله رب العالمين، ويتهم نفسه، يَقُولُ: لعلي أنا مُقصِّر في الإخلاص، لعلي أنا كذا، حَتَّى يُحسِن من هذه العِبَادَة العظيمة، وَحَتَّى يُحسِن من إخلاصه في العبادات، فَإِنَّه بالإخلاص تحصل البركات، ويتقبل الله جَلَّ وَعَلَا العبادات، بدون إخلاص -كَمَا قُلْنَا- يكون العمل مردودًا عَلَى صاحبه، نسأل الله السلامة والعافية.
    وسيذكر الشَّيْخ وَفَّقَهُ اللهُ بعض أقوال أهل العلم في نفس المعقد، بعض أقوال أهل العلم من السَّلَف، كيف كانوا يجدون صعوبة في الإخلاص، فماذا نَقُول نحن؟!
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    والإخلاص في العلم يقوم عَلَى أربعة أصول، بها تتحقق نية المعلم للمتعلم إذا قصدها.
    يَعْنِي يَقُولُ الشَّيْخ:ينبغي عَلَى طالب العلم، وعَلَى طالبة العلم أن يستحضرا هذه الأمور الأربعة حينما يتعلمون العلم.
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    اَلْأَوَّلُ: رفع الْجَهْل عَنْ نفسه، بتعريفها ما عليها من العبوديات، وإيقافها عَلَى مقاصد الأمر وَالنَّهْي.
    الثَّانِي: رفع الْجَهْل عَن الخلق بتعليمهم وإرشادهم لما فيه صلاح دنياهم وآخرتهم.
    الثَّالِث: إحياء العلم وحفظه من الضياع.
    الرَّابِع: العمل بالعلم.
    هذه المقاصد الأربعة ينبغي أن تكون حاضرة في نفس طالب العلم؛ أَنَّهُ:
    يريد أن يرفع الْجَهْل عَنْ نفسه.
    يريد أن يرفع الْجَهْل عَن الآخرين.
    يريد أن يحيي ميراث النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وينشره بين الناس.
    يريد أن يعمل بالعلم.
    فَإِنَّ العلم كالشجرة، والعمل كالثمرة، فإذا كان العلم بلا عمل كان كالشجرة الَّتِي لا ثمر لها.
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    فالعلم شجرة، والعمل ثمرة، وَإِنَّمَا يراد بالعلم العمل.
    ولقد كان السَّلَف رَحِمَهُم اللهُ يخافون فوات الإخلاص في طلبهم العلم، فيتورَّعون عَن ادِّعائه؛ لأنهم لم يحققوه في قلوبهم.
    فهشام الدستوائي يَقُولُ: والله ما أستطيع أن أقول: إني ذهبت يومًا أطلب الحَدِيْث أريد بِهِ وجه الله عَزَّ وَجَلَّ.
    وسئل الْإِمَام أحمد: هل طلبت العلم لله؟ فَقَالَ: لله عزيز، ولكنه شيءٌ حُبِّب إليَّ فطلبته.
    ومَن ضيَّع الإخلاصَ فاته علمٌ كثيرٌ وخيرٌ وفيرٌ.
    وينبغي لقاصد السلامة أن يتفقد هذا الأصل؛ وَهُوَ الإخلاص، في أموره كلها، دقيقها وجليلها، سرها وعلنها، ويحمل عَلَى هذا التفقد شدة معالجة النِّيَّة.
    قَالَ سفيان الثوري: ما عالجت شيئًا أشد عليَّ من نيتي؛ لأنها تتقلب عليَّ.
    أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام، لو لم نخرج بفائدة من درس اليوم إِلَّا كَلِمَة سفيان هذه، لكفى بهذه الفائدة خيرًا وفضلًا.
    نعيد الفائدة:
    قَالَ سفيان الثوري رَحِمَهُ اللهُ: ما عالجت شيئًا أشد عليَّ من نيتي؛ لأنها تتقلب عليَّ.
    يَعْنِي أن النِّيَّة لا ينبغي للعبد أن يَقُولُ: كفى، أنا أخلصت لله وما أحتاج إلى أن أتابع هذا الموضوع، كفى أنا أريد أن ألتفت إلى أمور أخرى، مركز بموضوع الإخلاص، وَالحَمْدُ للهِ أشعر أنني حققت الإخلاص، فأنا منتهي من موضوع الإخلاص، لا، النِّيَّة تتقلب أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام.
    ولذلك يَقُولُ سفيان رَحِمَهُ اللهُ: ما عالجت شيئًا أشد عليَّ من نيتي؛ لأنها تتقلَّب عليَّ.
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    بل قَالَ سليمان الهاشمي:ربما أُحدِّث بحديث واحد ولي نية، فإذا أتيت عَلَى بعضه تغيَّرت نيتي، فإذا الحَدِيْث الواحد يحتاج إلى نيَّات.
    يَقُولُ سليمان رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إنه ربما يبدأ يُحدِّث الناس بحديث النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وله نية طيبة، له نية خالصة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولكن أثناء تحديثه الناس ربما يصيبه شيء من العُجْب أو غَيْر ذَلِكَ، فيعود ويصحح النِّيَّة، فَاَلنِّيَّة أمر -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- كما ذكرنا ينبغي عَلَى الْعَبْد أن يتعاهده باستمرار حَتَّى بعد أن يبدأ في العمل.
    النِّيَّة المطلوب من الْعَبْد مراقبتها في ثلاثة مواضع:
    الموضع الْأَوَّلُ: قبل العمل، فقبل أن يبدأ بالعمل يستحضر أن النِّيَّة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحْدَهُ، وأنه يرجو ما عند الله، ويبتغي القرب من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه لا يريد شيئًا من الخلق إطلاقًا البتة، لا يهمه ثناؤهم ولا مدحهم، ولا إعجابهم، ولا شيء من هذه الأمور، فيصلح نيته قبل البدء بالعمل.
    ثُمَّ أثناء العمل يتابع نيته إن تقلبت أعادها إلى الصواب، فهو دائمًا النِّيَّة محل متابعة ومحل نظر ومحل مراقبة من الْعَبْد؛ لأنه يعلم أن بها صلاحه وفلاحه، وبفواتها خسرانه وبواره، فلا يقبل الله عملًا إِلَّا إن كان خالصًا.
    ثُمَّ بعد العمل، كيف بعد العمل؟ يَعْنِي حَتَّى بعد أن ينتهي العمل، نعم بعد أن ينتهي العمل.
    قَالَ بعض أهل العلم: ربما يعمل الْعَبْد عملًا ثُمَّ يتلاعب الشيطان بِهِ؛ فيغير نيته بعد عشرين سنة، مَثَلًا يحج وعمره عشرون سنة، ثُمَّ يأتي وعمره أربعون سنة يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أنا حججت وقت ما كان عمري عشرين، وبكيت وخشعت، ويبدأ يحدث أمام الناس ويرائي ويسمع بعمله، فيفسد عَلَى نفسه عملًا كان عمله قبل عشرين سنة وقبل ثلاثين سنة وقبل أربعين سنة، لا له إِلَّا الله!
    ننظر كيف أن الشيطان حريص أَيُّهَا الأخوة الكرام عَلَى أن يضل الإِنْسَان إلى آخر يوم من حياته، نسأل الله السلامة والعافية، نسأل الله أن يثبتنا عَلَى الحق حَتَّى نلقى ربنا جَلَّ فِي عُلَاهُ؛ ولذلك الْعَبْد لا يأمن حَتَّى تخرج الروح وتفارق جسده، لا يأمن من كيد الشيطان ومكره، فَإِنَّ قصد الشيطان أن يُضِل بني آدم ويُبعِدهم عَنْ طريق ربنا جَلَّ فِي عُلَاهُ.
    ولعلِّي أقرأ بعض الْكَلَام الذي ذكره الْإِمَام ابْن رجب عَلَيْهِ رَحْمَةُ اللهِ فِيمَا يتعلق بِاَلنِّيَّةِ، فإنه قَدْ ذَكَرَ كلامًا طيبًا ونقولات جميلة عَن السَّلَف عليهم رحمة الله فِيمَا يتعلق بِالنِّيَّةِ في شرحه للحديث الْأَوَّل من الأربعين النووية وَهُوَ حديث "الأعمال بِالنِّيَّةِ".
    قَالَ ابْن رجب عَلَيْهِ رَحْمَةُ اللهِ في شرح الحديث الأول من (الأربعين النووية) في كتابه (جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم):
    وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: تَعَلَّمُوا النِّيَّةَ، فَإِنَّهَا أَبْلَغُ مِنَ الْعَمَلِ.
    وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: لَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ لَهُ، وَلَا أَجْرَ لِمَنْ لَا حِسْبَةَ لَهُ؛ يَعْنِي: لَا أَجْرَ لِمَنْ لَمْ يَحْتَسِبْ ثَوَابَ عَمَلِهِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَبِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: لَا يَنْفَعُ قَوْلٌ إِلَّا بِعَمَلٍ، وَلَا يَنْفَعُ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَلَا يَنْفَعُ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا نِيَّةٌ إِلَّا بِمَا وَافَقَ السُّنَّةَ.
    وَعَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ، قَالَ: إِنَّي لَأُحِبُّ أَنْ تَكُونَ لِي نِيَّةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: انْوِ فِي كُلِّ شَيْءٍ تُرِيدُهُ الْخَيْرَ، حَتَّى خُرُوجِكَ إِلَى الْكُنَاسَةِ.
    وَعَنْ دَاوُدَ الطَّائِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ الْخَيْرَ كُلَّهُ إِنَّمَا يَجْمَعُهُ حُسْنُ النِّيَّةِ، وَكَفَاكَ بِهَا خَيْرًا وَإِنْ لَمْ تَنْصَبْ.
    قَالَ دَاوُد: وَالْبِرُّ هِمَّةُ التَّقِيِّ، وَلَوْ تَعَلَّقَتْ جَمِيعُ جَوَارِحِهِ بِحُبِّ الدُّنْيَا، لَرَدَّتْهُ يَوْمًا نِيَّتُهُ إِلَى أَصْلِهِ.
    وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، قَالَ: مَا عَالَجْتُ شَيْئًا أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ نِيَّتِي؛ لِأَنَّهَا تَنْقَلِبُ عَلَيَّ.
    وَعَنْ يُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ، قَالَ: تَخْلِيصُ النِّيَّةِ مِنْ فَسَادِهَا أَشَدُّ عَلَى الْعَامِلِينَ مِنْ طُولِ الِاجْتِهَادِ.
    وَقِيلَ لِنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَلَا تَشْهَدُ الْجَنَازَةَ؟ قَالَ: كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَنْوِيَ، قَالَ فَفَكَّرَ هُنَيَّةً، ثُمَّ قَالَ: امْضِ.
    وَعَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: صَلَاحُ الْقَلْبِ بِصَلَاحِ الْعَمَلِ، وَصَلَاحُ الْعَمَلِ بِصَلَاحِ النِّيَّةِ.
    وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكْمُلَ لَهُ عَمَلُهُ، فَلْيُحْسِنْ نِيَّتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَأْجُرُ الْعَبْدَ إِذَا حَسُنَتْ نِيَّتُهُ حَتَّى بِاللُّقْمَةِ.
    وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: رُبَّ عَمَلٍ صَغِيرٍ تُعَظِّمُهُ النِّيَّةُ، وَرُبَّ عَمَلٍ كَبِيرٍ تُصَغِّرُهُ النِّيَّةُ.
    وَقَالَ ابْنُ عَجْلَانَ: لَا يَصْلُحُ الْعَمَلُ إِلَّا بِثَلَاثٍ: التَّقْوَى لِلَّهِ، وَالنِّيَّةِ الْحَسَنَةِ، وَالْإِصَابَةِ.
    وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْكَ نِيَّتَكَ وَإِرَادَتَكَ.
    الله يغار -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- إذا صرف الْعَبْد شيئًا من الْعِبَادَة لغيره سُبْحَانَهُ، حَتَّى لو كان من باب الرياء أو الشِّرْك الأصغر، فَإِنَّ ذَلِكَ يبغضه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْكَ نِيَّتَكَ وَإِرَادَتَكَ.
    وَعَنْ يُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ، قَالَ: إِيثَارُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَفْضَلُ مِنَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِهِ. خَرَّجَ ذَلِكَ كُلَّهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ "الْإِخْلَاصِ وَالنِّيَّةِ"، وَرَوَى فِيهِ بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْوَرَعُ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَصِدْقُ النِّيَّة فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
    وَبِهَذَا يُعْلَمُ مَعْنَى مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّ أُصُولَ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ:
    حَدِيثُ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ».
    وَحَدِيثُ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَهُوَ رَدٌّ».
    وَحَدِيثُ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ».
    فَإِنَّ الدِّينَ كُلَّهُ يَرْجِعُ إِلَى فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ ، وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ ، وَالتَّوَقُّفِ عَنِ الشُّبُهَاتِ، وَهَذَا كُلُّهُ تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ.
    وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ:
    أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِي ظَاهِرِهِ عَلَى مُوَافَقَةِ السُّنَّةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَهُوَ رَدٌّ».
    وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِي بَاطِنِهِ يُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ عُمَرَ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ».
    وَقَالَ الْفُضَيْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2]، قَالَ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ. وَقَالَ: إِنَّ الْعَمَلَ إِذَا كَانَ خَالِصًا، وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا، وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا، لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا وَصَوَابًا، قَالَ: وَالْخَالِصُ إِذَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالصَّوَابُ إِذَا كَانَ عَلَى السُّنَّةِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْفُضَيْلُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110].
    وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّمَا تَفَاضَلُوا بِالْإِرَادَاتِ ، وَلَمْ يَتَفَاضَلُوا بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَقَدْ ذُكر ذَلِكَ عَنْ أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
    قَالَ بعض السَّلَف: ما سبق أبو بكر القومَ بكثيرِ صلاةٍ ولا صوم، ولكنه سبقهم بشيء وقر في قلبه؛ يَعْنِي: إخلاصه لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
    والله تَعَالَى أعلم، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.
    نقرأ التعليقات جزاكم الله خيرًا:
    الشَّيْخ علي يَقُولُ: من أراد أن يُصنِّف كِتَابًا فليبدأ بحديث الأعمال بِالنِّيَّاتِ، عبدالرحمن بْن مهدي، أمثال (رياض الصالحين) و (الأربعون النووية).
    الطَّالِبُ: من الفوائد: النِّيَّة الكاملة تجبر نقصان العمل، وَالنِّيَّةِ الناقصة لا تجبرها.
    الشَّيْخُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! فعلًا النِّيَّة هِيَ تجارة المؤمن.
    الطَّالِبُ: لماذا تتقلب النِّيَّة عَلَى الْعَبْد رغم أَنَّهُ بدأ بنية خالصة، كيف تعرف أن نيَّتك خالصة لله.
    الشَّيْخُ: النِّيَّة تتقلب عَلَى الْعَبْد رغم أَنَّهُ بدأ نية خالصة؛ لأن الشيطان لا يترك الْعَبْد في شأنه، الشيطان يظل عدوًّا للعبد، وقلنا: إِنَّه يظل حَتَّى بعد أن ينتهي العبد من العمل كما ذكرنا ربما بعشرين سنة وثلاثين سنة يأتيه الشيطان يبدأ يحدث يَقُولُ: أنا حججت قبل ثلاثين سنة أيام ما كنت شبابًا وبكيت في تِلْكَ الحجة وتأثرت، ويبدأ يُسمع بعمل كان عمله قبل زمن بعيد، فالشيطان لا يترك الْعَبْد، وَقَالَ الله: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ [فاطر: 6].
    الطَّالِبُ: كيف تعرف أن نيتك خالصة لله وَحْدَهُ؟
    الشَّيْخُ: هُوَ أمر يصعب عَلَى الْعَبْد أن يُزكِّي نفسه ويقول: إن نيته خالصة لله وَحْدَهُ، لكن يظل يجاهد نفسه، ويسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرزقه الإخلاص والقبول، لا يحدث بالعمل أحدًا إذا عمل عملًا في السر فإنه يفرح بذلك، يحب أعمال السر، ليستوي عنده مدح الناس وذمهم، هذه من علامات المخلص، ما يختلف الأمر، فالأمر سيان إن نظر الناس إليه أو لم يكن أحد ينظر إليه، فالأمر سيان في كُلِّ الأحوال، هُوَ يجري عَلَى ما يرضي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويعمل ما يرضي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بغض النظر عن أحد ينظر، أحد يمدح، أحد يذم، هذه كلها من علامات المخلِص.
    الطَّالِبُ: عمدة الدِّين عندنا كلمات أربع من كلام خير البرية: اتق الشبهات، وازهد، ودع ما لَيْسَ يعنيك، واعملن بنية.
    الشَّيْخُ: فعلًا هذا الحَدِيْث هُوَ أحد الْأَحَادِيث الَّتِي هِيَ أعمدة هذا الدِّين، حديث «إِنَّمَا الأعمال بِالنِّيَّاتِ».
    أسأل الله عَزَّ وَجَلَّ أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، جزاكم الله خيرًا عَلَى هذه التعليقات المفيدة، وفقنا الله وَإِيَّاكُمْ لما يحب ويرضى، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلمَ، وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,676

    افتراضي رد: مجالس شرح كتاب تعظيم العلم للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي

    المجلس الرابع

    من مجالس شرح كتاب تعظيم العلم للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي

    د. خالد بن حسن المالكي

    الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، اللَّهُمَّ صل وسلم وبارك عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ، أَمَّا بعد:
    مرحبًا بكم، وحيَّاكم الله في [المجلس الرَّابِع من مجالس شرح تعظيم العلم].
    للشيخ/ صالح بْن عبدالله بْن حمد العصيمي وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى.
    طبعًا المعقد الْأَوَّلُ تحدَّث فيه الشَّيْخ عَنْ: تطهير وعاء العلم؛ وَهُوَ القلب.
    ثُمَّ تحدث في المعقد الثَّانِي عَنْ: إخلاص النِّيَّة فيه؛ يَعْنِي: إخلاص النِّيَّة في طلب العلم.
    وَقَدْ ذكرنا أقاويل السَّلَف عَلَيْهم رَحْمَةُ اللهِ فِيمَا يتعلق بأهمية الإخلاص وفضله:
    ومن ذَلِكَ قول الفضيل بْن عياض رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْكَ نِيَّتَكَ وَإِرَادَتَكَ.
    حقيقةً كلام الفضيل هذا -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- ينبغي أن نجعله نصب أعيننا، فهل نبخل عَلَى الله جَلَّ فِي عُلَاهُ بأن نخلص النِّيَّة له؟ والله يريد ذَلِكَ، والله يأمر بِهِ، والله يحب ذلِكَ، والله لا يحبُّ أن يشرك بِهِ، والله يبغض من يشرك بِهِ، فلماذا نجد صعوبة في أمر الإخلاص مع أَنَّهُ محبوب جدًّا إلى الله؟! بل هُوَ أحبُّ الْأَشْيَاء إلى الله أن يخلص الْعَبْد لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أحب الأعمال إلى الله أن تخلص وتعمل عملًا تخلص فيه لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ما الدليل عَلَى ذَلِكَ؟
    الدليل عَلَى ذَلِكَ: أن أَوَّل أركان الْإِسْلَام هُوَ شهادة أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأن محمدًا رَسُول الله قبل حَتَّى الصَّلَاة وَالزَّكَاة والصيام والحج.
    ومقتضى الشهادتين: الإخلاص والمتابعة، مقتضى شهادة أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الإخلاص لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وألَّا يشرك الْعَبْد بالله شيئًا، لا شركًا أصغر ولا شركًا أكبر.
    ومقتضى شهادة أن مُحَمَّدًا رَسُولُ الله: متابعة النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نسأل الله جَلَّ فِي عُلَاهُ أن ييسر لنا الإخلاص، وأن يرزقنا القبول، إن ربي قريب مجيب، اللَّهُمَّ يسِّر لنا الإخلاص يا رب العالمين، ووفِّقنا للإخلاص في الأقوال والأعمال وَالنِّيَّات.
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    المعقد الثَّالِث
    جمع همة النفس عَلَيْهِ
    أي: المعقد الثَّالِث من معاقد تعظيم العلم (جمع همة النفس عَلَيْهِ) دعونا نقرأ كلام الْمُصَنِّف في هذا المعقد.
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    فَإِنَّ شعث النفس إذا جُمع عَلَى العلم التأم، واجتمع، وإذا شغل بِهِ وبغيره ازداد تفرقًا وشتاتًا، وَإِنَّمَا تُجمع الهمة عَلَى المطلوب بتفقد ثلاثة أمور:
    أولها: الحرص عَلَى ما ينفع، فَمَتَى وُفِّق الْعَبْد إلى ما ينفعه حرص عَلَيْهِ.
    ثانيها: الاستعانة بالله عَزَّ وَجَلَّ في تحصيله.
    إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى
    فأوَّل ما يجني عَلَيْهِ اجتهاده
    ثالثها: عدم العجز عَنْ بلوغ البغية منه.
    وَقَدْ جُمعت هذه الأمور الثلاثة في الحَدِيْث الذي رواه مسلم بْن الحجاج، قَالَ: حدَّثنا أبو بكر بْن أبي شيبة وابن نمير، قالا: حدثنا عبدالله بْن إدريس عَنْ ربيعة بْن عثمان، عَنْ مُحَمَّد بْن يحيى بْن حبان، عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «احرص عَلَى ما ينفعك، واستعِن بالله ولا تعجز».
    تأملوا -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- كيف جمع النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أُوتي الكلم بأبي هُوَ وأمي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الأمور الثلاثة في هذا الحَدِيْث بأقل عبارة، وأوجز عبارة، وأفصح عبارة!
    وهذه قاعدة -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- ينبغي أن نعتقدها في النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
    أولًا: أن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أعلم الناس بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فهو أعلم الناس.
    ثانيًا: هُوَ أفصح الناس صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    ثالثًا: هُوَ أنصح الناس صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    إذا اعتقدنا هذه الأمور الأربعة في النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يمكن بحال من الأحوال أن نُقدِّم قول غيره عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فينبغي أن نُؤصِّل هذه العقيدة في أنفسنا؛ وَهِيَ أن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أعلم الناس بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وبشرعه، وهو أفصح الناس، كان كلامه فصيحًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجيزًا بليغًا، وَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنصح الناس ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، وَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصدق الناس، عُرف حَتَّى قبل البعثة بِأَنَّهُ الأمين صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
    والمراد من كلامنا حول ما يختص بِهِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وما يتصف بِهِ هُوَ:
    أن نحفظ هذا الحَدِيْث، وأن نضعه نصب أعيننا إذا ما أردنا الانشغال بطلب العلم «احرص عَلَى ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز».
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    فمن أراد جمع همته عَلَى العلم فليشعل في نفسه شعلة الحرص عَلَيْهِ؛ لأنه ينفعه، بل كُلّ خير في الدُّنْيَا والآخرة إِنَّمَا هُوَ ثمرة من ثمرات العلم.
    اللَّهُ أَكْبَرُ، إذا كان كُلُّ خير في الدُّنْيَا والآخرة هُوَ ثمرة من ثمرات العلم أفلا يستحق هذا العلم أن نشمِّر له، وأن نحرص عَلَيْهِ؟!
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    وليستعن بالله عَلَيْهِ.
    بلا شَكَّ لأنه إذا لم يستعن بالله كما مَرَّ معنا في البيت الذي معنا:
    إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى
    فأول ما يجني عَلَيْهِ اجتهاده
    إذا لم يعن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَبْد لم يتمكن من فعل أي عمل صالح ولا عِبَادَة، التوفيق لَا بُدَّ أن يكون قبل أن يعمل الْعَبْد أي عمل صالح، لَا بُدَّ أن يكون هناك توفيق من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليعمل هذا العمل، ولأهمية الاستعانة بالله، فَإِنَّ الصَّلَاة لا تصح إِلَّا بها؛ لأنها جزء من الفاتحة، قَالَ الله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5].
    فَهٰذَا يشعرنا -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- بأهمية الاستعانة بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى تحصيل كُلِّ ما ينفع من أمور الدُّنْيَا وَالآخرة، ومن ذَلِكَ طلب العلم، وَهُوَ الموضوع الذي نحن بصدده.
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    ولا يعجز عَنْ شيء منه.
    يَعْنِي بعض الْمَسَائِل قَدْ لا تتضح من أول مرة، قَدْ تقرأ كتابًا تفهم منه.. مَثَلًا كِتَابًا في التَّفْسِير، ما تفهمه بالكامل، فهمك له يكون مَثَلًا أربعين بالمائة، تقرأ كِتَابًا آخر في التَّفْسِير وإذا بك ترتفع في مستوى الفهم إلى خمسين أو ستين بالمائة، وهكذا -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- فلا يعجز الْعَبْد، ولا مَثَلًا تمر عَلَيْهِ مَسْأَلَة فيها صعوبة فيتوقف عَنْ إكمال الطريق، أو يستصعب الطريق، أو يستصعب المشوار، لا، بل يستعين بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، يقرأ أكثر، يسأل، يحاول أن يجعل الْمَسْأَلَة في ذهنه مرة واثنين وثلاثة، يكررها بينه وبين نفسه ومع أخوانه ومع شيوخه، وإذا بها تنفتح بعون الله إذا استعان بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وحرص عَلَى الدُّعَاء.
    قَالَ الشَّيْخ وَفَّقَهُ اللهُ: (ولا يعجز عَنْ شيء منه) وأَيْضًا حَتَّى لا يصاب طالب العلم بالإحباط ينبغي له أن يتدرج في الطلب، فلا يبدأ بالمطولات، وَإِنَّمَا كما سيمر معنا يبدأ بالمختصرات.
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    فإنه حِيْنَئِذٍ يدرك بغيته ويفوز بِمَا أمله.
    قَالَ الجنيد رَحِمَهُ اللهُ: ما طلب أحدٌ شيئًا بجدٍّ وصدقٍ إِلَّا ناله، فَإِنَّ لم ينله كله نال بعضه.
    من أعظم أسباب انقطاع طلاب العلم عَنْ مواصلة المشوار:
    هُوَ: استطالة الطريق، وسيمر معنا بعون الله في كلام الْمُصَنِّف في أحد المعاقد، فلا يستطيل الطريق، أنت سائر إلى الله، إن مت في أول الطريق، أو مت في وسط الطريق، أو مت في آخر الطريق؛ فأنت عَلَى الطريق، يكفيك شرفًا أنك مت عَلَى طريق العلم وعَلَى الطريق الموصل إلى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، عَلَى صراط الله المستقيم، فلا تعجل، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ: ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ﴾ [الإسراء: 11].
    هذه العجلة الَّتِي تكون في الإِنْسَان قَدْ تؤدي بِهِ إلى أن يُحرم العلم، وَالنَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الأناة من الله، والعجلة من الشيطان»، فلا يستعجل الْعَبْد، ولا ينظر إلى كتب العلم والمراجع ويجدها كبيرة ثُمَّ يستثقل قراءتها ويبتعد، بل يشغل نفسه بالمرحلة الَّتِي هُوَ فيها، بالكتب الَّتِي هِيَ في مرحلته، إن كان في أول الطريق أو في وسط الطريق أو في آخر الطريق، يشغل نفسه بالمرحلة الَّتِي هُوَ فيها، وبالزمن الذي هُوَ فيه، يجد ويجتهد ويحاول أن يُدرك الغاية في فهم ما هُوَ مشغول بِهِ من متون العلم وفنونه.
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    الجد بالجد والحرمان بالكسل
    فانصب تصب عَنْ قريب غاية الأمل
    فانهض بهمتك واستيقظ من الغفلة، فَإِنَّ الْعَبْد إذا رزق همة عالية فتحت له أبواب الخيرات، وتسابقت إليه المسرَّات.
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,676

    افتراضي رد: مجالس شرح كتاب تعظيم العلم للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي

    هنا الشَّيْخ بدأ يُحدث قارئ الْكِتَاب ويخاطبه مباشرةً، يستنهض همته، ويستفيقه من غفلته؛ فيقول: (فانهض بهمتك واستيقظ من الغفلة، فَإِنَّ الْعَبْد إذا رزق همة عالية فتحت له أبواب الخيرات، وتسابقت إليه المسرَّات).
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:قَالَ ابْن القيم رَحِمَهُ اللهُ في كتابه (الفوائد): إذا طلع نجم الهمة في ظلام ليل البطالة، وردفه قمر العزيمة، أشرقت أرض القلب بنور ربها، ومن تعلقت همته بمطعم أو ملبس أو مأكل أو مشرب لم يشم رائحة العلم.
    واعلم بأن العلم لَيْسَ يناله
    من همه في مطعم أو ملبس
    فاحصر لتبلغ فيه حظًّا وافرًا
    واهجر له طيب المنام وغلس
    وإن مِمَّا يُعْلي الهمة ويسمو بالنفس: اعتبار حال من سبق، وتعرف همم القوم الماضية.
    أبو عبدالله أحمد بْن حنبل كان -وَهُوَ في الصبا- ربما أراد الخروج قبل الفجر إلى حلق الشيوخ، فتأخذ أمه بثيابه وتقول رحمة بِهِ: (حَتَّى يؤذن الناس أو يصبحوا).
    وقرأ الخطيب البغدادي رَحِمَهُ اللهُ صحيح البخاري كله عَلَى إسماعيل الحيري في ثلاثة مجالس؛ اثنان منها في ليلتين من وقت صلاة المغرب إلى صلاة الفجر، واليوم الثَّالِث من ضحوة النَّهَار إلى صلاة المغرب، ومن المغرب إلى طلوع الفجر.
    قَالَ الذهبي في تاريخ الإِسْلَام: وهذا شيءٌ لا أعلم أحدًا في زماننا يستطيعه.
    قَالَ الشَّيْخ صالح العصيمي -وَفَّقَهُ اللهُ- الْمُصَنِّف: رحم الله أبا عبدالله، كيف لو رأى همم أهل هذا الزمان، ماذا يَقُولُ؟!
    وكان أبو مُحَمَّد بْن التبان أول ابتدائه يدرس اللَّيْل كله، فكانت أمه ترحمه، وتنهاه عَن القراءة بِاللَّيْلِ، فكان يأخذ المصباح ويجعله تَحْتَ الجفنة -شيء من الآنية العظيمة- ويتظاهر بالنوم، فإذا رقدت أخرج المصباح وأقبل عَلَى الدَّرْس.
    وَقَدْ رأيت في بعض المجموعات الخطية في مكتبة نجدية خاصة، مِمَّا يُنسب إلى عبدالرحمن بْنَ الحسن آل الشَّيْخ -صاحب فتح المجيد- قوله:
    شمر إلى طلب العلوم ذيولًا
    وانهض لذلك بكرة وأصيلا
    وصِلِ السؤال وكن هديت مباحثًا
    فالعيب عندي أن تكون جهولا
    فكن رجلًا رجله عَلَى الثرى ثابتة، وهامة همته فوق الثريا سامقة، ولا تكن شاب البدن أشيب الهمة، فَإِنَّ همة الصادق لا تشيب، كان أبو الوفاء بْن عقيل أحد أذكياء العالم من فقهاء الحنابلة ينشد وَهُوَ في الثمانين.
    يَعْنِي عمره ثمانون سنة أيها الأحبة الكرام.
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خلقي
    ولا ولائي ولا ديني ولا كرمي
    وَإِنَّمَا اعتاض شعري غَيْر صبغته
    والشيب في الشعر غَيْر الشيب في الهمم
    هذا المعقد أَيُّهَا الكرام عنون له الشَّيْخ صالح وَفَّقَهُ اللهُ بهذا العنوان؛ قَالَ: (همة النفس عَلَيْهِ) الْإِنْسَان -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- إذا كان مشغولًا بالدنيا وبالمال وجمع المال يصعب أن يحصل العلم؛ فلذلك ينبغي للعبد أن يُقلِّل من الشواغل، نحن مشكلتنا في هذا الزمان أن الشواغل كثيرة، الجوال يشغلنا، والتطبيقات تشغلنا، وحسابات التواصل الاجتماعي تشغلنا، فتجد أننا لا نجد وقتًا لطلب العلم، وإن بدأنا نقرأ أو بدأنا نحضر الدروس فالذهن مشغول، الذهن ذاهب، لا نتمكن من التركيز؛ لأن النفس مشتتة أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام.
    فنحن إن أردنا أن نُحصِّل العلم، ينبغي أن نجمع همة النفس عَلَيْهِ، كيف نجمع همة النفس عَلَيْهِ؟ يَعْنِي نقلل من الشواغل، شيء ما له داعي، ما له داعي ألغِه من حياتك حتى تتفرغ؛ لأنه يشغل مساحة، في النهاية حياتك عبارة عَنْ مساحة مثل مساحة الغرفة، أو مثل الكأس كلما كانت مملوءة، وتريد أن تضيف فيها شيئًا إضافيًّا تجد أنه ما فيها مكان، أنت وقتك كله صار مشغولًا ما بين وسائل التواصل، ما بين المكالمات، ما بين الاتصالات، وضياع الوقت هنا وهناك، أين سيجد العلم مكانًا في حياتك؟ لا، إنه ينبغي أن تعمل إزاحة، كما يَقُولُ أخواننا المصريين: (تزق الحتة الفلانية شوية)، وتبعد عندك هذه، تلغي هذه من حياتك، صار فيه فراغ، الفراغ هذا نعمة، الفراغ نعمة إذا وجد في حياة الْعَبْد بنص قول رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ».
    ترى بعض الناس تبدأ تتكلم معه فيقول: والله أنا مشغول، ولكن لا تحس بنفسك أَنَّهُ شيء جيد أنك مشغول، إِلَّا إذا كنت مشغولًا بطاعة الله، إِلَّا إذا كنت مشغولًا بالخير، هذه نعمة، لكنك تكون مشغولًا في أمور تافهة، في أمور لا تُقدِّم ولا تُؤخِّر، أو في أمور قَدْ تستغني عنها، أي شيء ممكن تستغني عنه استغنِ عنه؛ حَتَّى تعطي مساحةً للعلم، حَتَّى تعطي مكانًا، لأجل أن تحضر درسًا لَا بُدَّ أن يكون فيه وقت معين تقتطعه من يومك لحضور الدَّرْس، هذا الوقت لو أن يومي كله مشغول من أين أجد الوقت لحضور الدَّرْس؟ بعد ذلك تبدأ تسجل، تَقُولُ: أسمع الدَّرْس مسجلًا، وبعد ذلك تجد نفسك ضيَّعت حضور الدَّرْس، أو حضور الدروس.
    القراءة نفس الْكَلَام، القراءة تحتاج إلى وقت، حتى تقرأ في كلام أهل العلم وترجع إلى كتب أهل العلم، وتقرأ في التَّفْسِير، وتقرأ في غيره من الفنون، يحتاج الأمر إلى وقت.
    أنا يومي كله مشغول، من أين سأجد وقتًا للقراءة؟ لا يوجد، فاقد الشيء لا يُعطيه -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- فلهذا جاء هذا المعقد يَقُولُ لنا: فرِّغوا أنفسكم للعلم، أي أمر يمكنك أن تستغني عنه مِمَّا يشغل وقتك استغنِ عنه، ما دام لَيْسَ فيه قربة إلى الله، ويمكنك أن تستغني عنه فاستغنِ عنه، الأخبار؛ ما هُوَ ضروري أن أعرف كُلِّ الذي يصير في العالم لحظة بلحظة، أنا لست مراسلًا في واحدة من القنوات، ولست كاتبًا في صحيفة حتى آخذ الْكَلَام وغدًا ورائي مقال أكتبه وأنزله بالجريدة، يكفيك أن تعرف الآن أحوال أخواننا في فلسطين وهي لا تخفى عَلَى أحد.
    أنت لَا بُدَّ أن تعلم أحوال الْمُسْلِمِينَ، ما تجلس كالأعمى ما يدري ما يحدث، علمت الأخبار فما هُوَ العمل؟ العمل هُوَ أنك تبدأ بِالدُّعَاءِ لهم، تبدأ تذكرهم بدعائك وتعمل ما تستطيع، أَمَّا أنك تظل متابعًا طوال اللَّيْل وَالنَّهَار لتغريدات فُلَان، وفلان إيش قَالَ؟ هذا شغل، حَتَّى حفظ الْقُرْآن سيصبح صعبًا عليك، وَهُوَ حفظ الْقُرْآن الذي هُوَ الدرجة الأُوْلَى في سلم طلب العلم، ستجد فيه صعوبة، الْقُرْآن يحتاج إلى وقت للحفظ، ووقت للمراجعة.
    لو تلاحظون نحن نلف وندور عَلَى موضوع الوقت، فعلًا الوقت كنز، إِنَّمَا يعرف قيمة الوقت حقيقة الْعَبْد الْمُسْلِم الذي يرجو ما عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فاللحظة في حياة الْمُسْلِم تعني له أكثر مِمَّا تعني لأي شخص من أي ديانة أخرى؛ لأن الْمُسْلِم يعلم أن وراء هذه الدُّنْيَا آخرة، ووراء هذا الوقت حساب عليه «لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حَتَّى يُسأل عَنْ أربع: عَنْ ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعَنْ جسمه فِيمَا أبلاه، وعن علمه ماذا عمل فيه؟»، والحديث له عدد من الروايات أو كما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حَتَّى يُسأل عَنْ عمره فِيمَا أفناه، وعن علمه فِيمَا فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فِيمَا أبلاه»، فإذا علمنا -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- أننا مسئولون فلنُعِدَّ للسؤال جوابًا، من علم أَنَّهُ يقف بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ﴾ [الصافات: 24]، وأن الله جَلَّ وَعَلَا سيخاطبه ليس بينه وبين الله جَلَّ وَعَلَا ترجمان «ما من أحد إِلَّا وسيكلمه ربه لَيْسَ بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إِلَّا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إِلَّا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إِلَّا النَّار، فاتقوا النَّار ولو بشق تمرة»، ومن أعظم ما تُتَّقى بِهِ النَّار طلب العلم، ومن أعظم ما تطلب بِهِ الجَنَّة طلب العلم.
    فنسأل الله جَلَّ وَعَلَا أن يوفقنا وَإِيَّاكُمْ للعلم النافع والعمل الصالح، وجزاكم الله خيرًا لحضوركم واستماعكم.
    الطَّالِبُ: ما نصيحتك للطالب الذي يدرس أكثر من علم من المختصرات، كيف يمكن أن ينظم جدوله في التَّعَلُّم، أو تنصح بأن يدرس علمًا واحدًا ثُمَّ ينتقل إلى الذي بعده؟
    الشَّيْخُ: نعم، هذا الذي يُنصح بِهِ، وسيمر معنا في (معاقد تعظيم العلم) أن الذي ينصح بِهِ طالب العلم بأن يبدأ بعلم وفن واحد، ثُمَّ ينتقل إلى الذي بعده.
    الطَّالِبُ: ما هِيَ أفضل العلوم الَّتِي يمكن أن نبدأ في تعلمها؟
    الشَّيْخُ: أنا أسمع أن الأفضل البدء بالقرآن بلا شَكَّ، البداية هِيَ مع حفظ الْقُرْآن وتعلم الْقُرْآن؛ لأن الْقُرْآن يعطي الْإِنْسَان الفصاحة ويعطيه الْبَلَاغَة، ويعطيه الفهم، ويعطيه العلم، ويعطيه النور، ويعطيه البركة، ويعطيه الهداية، ويعطيه الصلاح، ويعطيه الإيمان، ويعطيه قوة العلاقة مع الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
    فالقرآن جالب لكل الخيرات، ودافع للشرور عَن الْإِنْسَان، فيقوى إيمان الْعَبْد، فيبدأ في الابتعاد عَن المعاصي ويترك المعاصي؛ لأنه أصبح من أهل الْقُرْآن، صاحب قرآن، فيبتعد عَن المعاصي ويترك الذنوب كما مَرَّ معنا في المعقد اَلْأَوَّل (تطهير وعاء العلم) ثُمَّ يقبل عَلَى الطاعات، فيزداد إيمانًا ويسهل عَلَيْهِ طلب العلم؛ لأن نفسه أصبحت زكية، فالقرآن يزكي النفس، ويُطهِّر الأخلاق، ويسمو بهذه النفس لترتقي إلى أعالي القمم، وتكون مهيئة لتقبُّل العلوم وما نفع، حَتَّى العقل يصبح صافيًا، سُبْحَانَ اللَّهِ! لمن تعلم الْقُرْآن وداوم عَلَى تلاوته، الذهن يصبح قويًّا، تصبح حدة عند الْإِنْسَان في الفهم وفي التَّحْلِيْل، وفي البحث، وفي المناقشة، وفي الطرح وفي الأسلوب، سُبْحَانَ اللَّهِ! أصبح الْقُرْآن وقد شكَّل شخصية علمية، الْقُرْآن يشكل الشخصية العلمية الَّتِي تنجح بعون الله في أي نوع من أنواع العلوم، حَتَّى إنَّهُ كثيرًا من الناس الَّذِينَ برعوا في العلوم الدنيوية هم أصلًا من حُفَّاظ الْقُرْآن، فنسأل الله عَزَّ وَجَلَّ أن يوفِّقنا وَإِيَّاكُمْ للعلم النافع والعمل الصالح.
    الطَّالِبُ: ما رأيك في دراسة علم الْقُرْآن مع حفظه وتفسيره؟
    الشَّيْخ: هُوَ كان هذا فعل السَّلَف عَلَيْهم رَحْمَةُ اللهِ كانوا يتعلمون الْقُرْآن، ولا يتجاوزن عشر آيات حَتَّى يعلمون ما فيها من علمٍ وعمل، ويعملون بها، فيتعلم الإِنْسَان الْقُرْآن ويحاول أصلًا إذا عرف معنى الآيات الَّتِي يحفظها يسهل الحفظ وترسخ الآيات في الذهن؛ لأنه مستحضر للمعاني، بِلَا شَكَّ تعلم الْقُرْآن وتعلَّم تفسيره، وتعلَّم معاني الآيات، وتدبَّر الْقُرْآن هُو هذا.. العلم كما قَالَ ابْن القيم رَحِمَهُ اللهُ:
    فتدبر الْقُرْآن إن رُمْت الهُدى
    فالعلم تَحْتَ تدبُّر الْقُرْآن
    البيت هذا أعتقد أَنَّهُ يلخص الأمر، قَالَ:
    فتدبر الْقُرْآن إن رمت الهدى
    فالعلم تَحْتَ تدبر الْقُرْآن
    كأن تدبر الْقُرْآن مظلة تحتها العلم، فمن اشتغل بالقرآن حصل علمًا وافرًا، وزكت نفسه، وطهرت أخلاقه، وقرب من ربه جَلَّ فِي عُلَاهُ -وَفَّقَكُمْ اللهُ- لكل خير، هذا واللهُ أَعْلَمُ.
    سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدك، نشهد أن لا إله إِلَّا أنت نستغفرك ونتوب إليك، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجمعين.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,676

    افتراضي رد: مجالس شرح كتاب تعظيم العلم للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي

    المجلس الخامس من مجالس شرح كتاب تعظيم العلم

    للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي



    السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، اللهم صلي وسلم وبارك عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ، اللهم لا علمَ لنا إِلَّا ما علمتنا، إنك أنت السميع العليم، رب اشرح لنا صدورنا، ويسِّر لنا أمورنا، اللهم علِّمنا ما ينفعُنا، وانْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا، وزدنا علمًا، أَمَّا بَعْدُ:
    فمرحبًا بكم أحبتنا الكرام في المجلس الخامِس من مجالس شرح تعظيم العلم للعصيمي وَفَّقَهُ اللهُ تَعالَى.
    كنا قد تحدثنا في المجلس الرَّابِع حولَ المعقدِ الثَّالِث؛ وهو: جمعُ هِمة النفسِ عليه، وذكرنا -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- أنَّ جمع همة النفس عَلَى العلم، يعني تفريغ النفس من الشواغل.
    سُبْحَانَ اللَّهِ، الإنسان قد يكون ما عنده أعمال خلال يومه، يعني عنده فراغ، لكنه مهموم، يعني: من ناحية الوقت لديه وقت، لديه فراغ، لا شُغل لديه، يمكن أن نقول إنه مُتفرِّغ، أو لديه وقت فراغ كبير، لكن لأن نفسه مشغولة بهموم، وأمور متعلقة بالدنيا وغيرها، فإنه لا يتمكن من طلب العلم، ومن تحصيل مراده منه.
    وذلك من أهم الأمور -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام - تفريغ الذهن، والعقل، والقلب، والنفس من الشواغل الَّتِي لا تنفع الإنسان، وطردُها قدر المستطاع، حَتَّى يُحَصِّل طالب العلم بُغيته من طلب العلم.
    ولذلك نؤكد عَلَى هذِه المسألة ونكررها؛ أنَّ المقصود بتفريغ طالب العلم للعلم ليس معناه فَقَطْ تفريغه من الشواغل الحسيَّة، وَإِنَّمَا أَيْضًا من الشواغل المعنوية.
    مثلًا من الشواغل المعنوية:
    الخلافات مع الناس.
    الأحقاد.
    المشاكل.
    فتجد طالب العلم ينبغي أن يكون مبتعدًا عن هذِه الأمور، خصوصًا فيما يتعلق بدائرة أهله، وعائلته، وأقاربه، لا يُدخِل نفسه في مشاكل وخلافات؛ لأن هذِه الشواغل تشغل القلب -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- تَرَى الَّذِي يعفو، ويصفح عن الناس ويتسامح معهم، هذَا إِنَّمَا يُساعد نفسه، قبل أن يسامح الآخرين؛ لأنه يفرغ قلبه من هذِه الشواغل، فتصفو نفسه أثناء العبادة، يتمكن من الخشوع في صلاته بعون الله.
    أما الَّذِي لديه أحقاد، ومشاكل، وخلافات مع أهله، أو زوجته، أو أقاربه، أو غيرهم من الناس، أو في عمله، تجده دائمًا مشوشًا، هذا التشويش مشكلة في طلب العلم، أن تكون النفس مشوشة، طلب العلم يحتاج إلى نفس هادئة، مُتزنة، بعيدة عن المشاكل، حَتَّى تستوعب العلم، ويبقى فيها، ويثبت.
    فلذلك ينبغي عَلَى طالب العلم أن يكون متسامحًا، ويأخذ بالعفو: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 22]، حَتَّى بعون الله، أولًا:
    يحصل على الدرجات العالية التي رتبها الله جَلَّ جَلَالُهُ عَلَى العفو، فإن العفو فضله عظيم، قَالَ الله تعالى: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40].
    يعني: حينما يأتي في الكتاب وَالسُّنَّة جزاءُ أمرٍ غير محدد، فلنا أن نتخيل عِظم ذلك الثواب، فاللهُ جَلَّ وَعَلَا جعل أجر من يعفو ويصفح عليه سُبْحَانَهُ، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40]؛ أي: له أجرٌ عظيمٌ عند الله جَلَّ جَلَالُهُ، لا يعلمه إِلَّاه هو سُبْحَانَهُ؛ فلذلك هذَا الأمر يساعد كثيرًا طالب العلم، وأحببت التذكير بخصوصه.
    أما المعقِد الَّذِي معنا اليوم، فهو المعقد الرَّابِع من معاقد تعظيم العلم، ولعل بعضكم يستغرب، يقول: لماذا نحن ندرس هذِه المعاقد؟ لماذا ندرس هذَا الكتاب؟ لِمَ لا ندرس مثلًا: كتابًا في العقيدة، أو التفسير، أو الحديث، أو الفقه.
    أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام، قبل أن ندرس هذِه العلوم، ينبغي أن نعرف الطريق، حَتَّى لا نتخبط، حتى لا نسير في الطريق ثُمَّ نتوقف، حتى نسير ونحن نعلم مُرادنا وهدفنا، ونكون حازمين، جازمين، عازمين، عَلَى المُضي إليه، وبلوغه بعون الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
    فدراسة معاقد تعظيم العلم، إنما هي دليل، أو ما يُعرف بالكتالوج، دليل طالب العلم، هذا الدليل إذا أحسنت فهمه، فستطلب العلم باحترافية بعون الله تَعَالَى، ستطلب العلم بمهارة، ستتمكن من العلم؛ لأنكَ عرفت كيف تسير.
    بعكس من يبدأ في العلم ويتخبط، ويدرس هذا العلم، ثُمَّ يدرس علمًا آخر، ثُمَّ يتراجع، ثُمَّ يتقدم؛ لأنه لم تكن لديه خارطة يسير عليها.
    كتاب تعظيم العلم يعتبر خارطة الطريق لطالب العلم؛ فلذلك أحببنا أن نأخذ وقتنا في دراسة هذا الكتاب ونمضي فيه مَعقدًا، مَعقدًا حَتَّى نفهمه، ونستوعب هذِه المعاقد الَّتِي هي بعون الله خيرُ مُعين لطالب العلمِ في طلبه للعلم.
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    المعقد الرَّابِع: صرفُ الهمة فيه إِلَى علم القرآن وَالسُّنَّة.
    إن كلَّ عِلمٍ نافع، مردُّه إِلَى كلام الله، وكلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وباقي العلوم، إِمَّا خادمٌ لهما فيُؤخذ منه ما تتحقق به الخدمة، أو أجنبي عنهما فلا يضر الجهل به.
    فَإِلَى القرآن وَالسُّنَّة، يرجِع العلم كله، وبهما أُمِر النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الزخرف: 43]، وهل أوحي إِلَى أبي القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء سوى القرآن وَالسُّنَّة؟!
    من أهم الأمور الَّتِي ينبغي عَلَى طالب العلم العناية به تعظيم الكتاب وَالسُّنَّة، والوقوف عند نصوص الكتاب وَالسُّنَّة، ينبغي أن يتعامل طالب العلم مع كلامِ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغاية التعظيم، فإن هذَا التعظيم يرزقه الله جل وعَلَا به خيرًا كَثِيْرًا، ويرزقه به سُبْحَانَهُ الدرجات العُلَى في الآخرة، أما بدون هذَا التعظيم فإنه سيظل يدور حائرًا في مكانه، كما يُقال: يدور حول نَفْسِهِ، يدور في مكان معين، لا يتقدم كَثِيْرًا، تصيبه الآفات القلبية؛ الحسد وغيره من أمراض القلوب، ويظلّ مكانك سرًّا؛ لعدم تعظيم كلام الله، وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    ينبغي لطالب العلم ألا يُقدِّم قولَ أحدٍ عَلَى قول الله، وقول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مهما كان؛ ولذا كتب الشيخ وَفَّقَهُ اللهُ هذَا المعقِد وقال فيه: "ومن جعل علمه القرآن وَالسُّنَّة، كان مُتَّبِعًا، غيرَ مُبتدِع، ونال من العلم أوفره"، فالمعيار عند طالب العلم هو كلام الله، وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    كثير من الناس اليوم يتهم المستقيمين عَلَى دين الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بالتشدد، عندما تسأله ما معيارك أنت؟ يقول يعني: لا، لكن ليس دائمًا أنه مطلوب منا مثلًا: نبتعد عن كل شيء حرام، نتركه، يعني: الدين يُسْر، يبدأ يعطي تأويلات مستكرهة، مصدرها عدم تعظيم كلام الله، وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    فالمعيار والوسط كما قَالَ الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143]، فالمعيار، والوسط، والحق، والخير، كلام الله، وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل ما ابتعد عن هذا الوسط فهو شرٌّ، إن كان في اتجاه التفريق، أو في اتجاه الغُلوِّ، المعيار، والوسط، هو كلام الله، وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والخير، والحق والهدى في كتاب الله، وفي سُنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    ولذا قَالَ الشيخ وَفَّقَهُ اللهُ: "ومن جعل علمه القرآن وَالسُّنَّة، كان متبعًا غير مبتدع ونال من العلم أوفره"، فما بال العلوم الأخرى غير الشرعية مثلًا: العلوم الدنيوية؛ كالطب، والحساب و...، و...، و... إِلَى آخره، هذِه كما يقول أهل العلم من فروض الكفايات، يعني: ينبغي عَلَى المسلمين أن يتعلموا هذِه العلوم، حَتَّى لا يحتاجوا إِلَى الكفرة، وَحَتَّى يُقِيمُوا أمر دنياهم، وعليهم ألَّا يهملوا ذلك، بل ينبغي ويجب عَلَى بعضهم أن يقوم بذلك، فهي من فروض الكفايات.
    أما علم القرآن وَالسُّنَّة، فإنه علمُ فرضِ عَين، يعني: ينبغي عَلَى كل مسلم أن يعلم ما يُمكِّنه من عبادة ربه عَلَى بصيرة، وهو ما يسميه أهل العلم المعاصرين: ما لا يسع المسلم جهله.
    هذا ينبغي عَلَى كل أحد، أن يتعلم هذا العلم الَّذِي هو لا يسعهُ جهله، حَتَّى يتمكن من عبادةِ الله، وأداء الصلاة، وغيرها من العبادات الَّتِي أُمِرَ بها، وما زاد عَلَى ذلك مِمَّا هو ليس مطلوبًا من كل أحد، فيُعتبر من فروض الكفايات.
    يعني: أنه أَيْضًا ينبغي عَلَى بعض المسلمين تعلمه، ومثلًا: القضاء، هل كل المسلمين مطالبون بالقضاء؟ لا، إذا تعلمه من يكفي سقط الإثم عن الباقين، لكن تَعلُّم الشريعة بشكلٍ عام ما جاء في القرآن وَالسُّنَّة، مطلوبٌ لزيادة الإيمان، ففيه منافع كثيرة؛ ولذلك حَتَّى لو اختار الشخص تخصُّصًا مثلًا: في الجامعة، أو غيرها تخصص غير التخصُّصات الشرعية، ينبغي أن يكون له حظٌّ من علوم الشريعة.
    فإن علوم الشريعة، تُنير له قلبه، وتُزكي فؤاده، وتجعله ينجح بعون الله حَتَّى في العلوم الدنيوية الَّتِي يطلبها، فلا يبخس المسلم حظه من العلم الشرعي، ولا يتركه ويبتعد عنه، وينصرف عنه، إِلَى غيره من علوم الدنيا محتجًّا بأنه مشغول بعلمٍ آخر، فإنه وإن كان يتعلَّم علمًا آخر، نافعًا للأُمَّةِ، إِلَّا أن علم الشريعة يزكي النفس، ويُطِّهر القلب، ويقويه، ويزكي نفسه، ويَقوَى بعون الله، حَتَّى عَلَى العلوم الدنيوية الَّتِي هي مجال تخصُّصه.
    فعلوم الشريعة لها فضلها، ولها مكانتها، ولها شرفها، ولها أثرها العظيم عَلَى نفس العبد، وعَلَى نفوس المسلمين، ونجاحهم، وتفوُّقهم، وعدم تسلُّط أعدائهم عليهم.
    فعلومُ الشريعة ينبغي أن تكون -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- كالأساس الَّذِي جميعُ المسلمين يتعلمونه، ثُمَّ من أراد، علومُ الشريعة نقصد بها هنا، ما لا يسع المسلم جهله، والأمور الَّتِي تُزكي الإيمان في القلب، وتجعل علاقةَ العبد بربه علاقة عَلَى بصيرة، هذا أمر مشترك، هذا قدر مشترك بين جميع المسلمين، ينبغي أن يكون لدى جميع المسلمين مثل هذا الاهتمام، ثُمَّ من أراد أن يتخصص أكثر في الشريعة، فليتخصص أكثر في الشريعة، ومن أراد أن يتخصص أكثر في علوم أخرى، فليتخصَّص أكثر في علوم أخرى، لكن في أرضية مشتركة بين الجميع، بين عموم المسلمين، حَتَّى لا يحصل بينهم خلافات، ونزاعات، وتضارب في الآراء، وفي الأقوال، والأعمال، لماذا؟
    لأن القرآن، والسُّنَّة يُعطِيهم هذِه الأرضية المشتركة، والأُخوَّة الإيمانية الَّتِي تجعلهم متفقين، متحدين بعون الله، يدحرون أعداءهم من اليهود، والنصارى، وغيرهم، أما إذا فُقِدت هذِه الأرضية، فإن ذلك يؤدي إِلَى كثير من النزاعات، وتفرُّق الأُمَّة، وتسلُّط أعدائها عليها.
    عمومًا نحن لا نريد أن نخرج كَثِيْرًا عن كلام الشيخ، حَتَّى نتمكَّن إِنْ شَاءَ اللهُ من قراءة المعقد كاملًا.
    قَالَ ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "من أرادَ العلمَ، فليثور القرآن، فإن فيه عِلمَ الأوَّلين، والآخرين". كلام عظيم -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام -.
    ما معني فليثور القرآن؟
    يعني: كما قَالَ الشارح الشيخ العصيمي أَيْضًا في كتابه في شرح المتن قَالَ: " أي: ليبحث عن فهمه بإجالة القلب للنظر في معانيه".
    يثور يعني: يبحث في القرآن، يتدبر، يحاول أن يبحث في العلم، في معاني القرآن يتأملها، يُديم الفكر فيها، يجعلها همه، حَتَّى يُرزَق العلم؛ ولذلك قَالَ: "مَنْ أراد العلم فليثور القرآن فإنه فيه علم الأوَّلين والآخرين".
    وقال مسروق: فهلا سألنا أصحاب مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسروق من التابعين أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- قَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "ما نسأل أصحاب مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن شيءٍ، إِلَّا وعلمه في القرآن، إِلَّا أن علمنا يقصُر عنه".
    ويُنسب لابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عنهما، أنه كان يُنشد:
    جميعُ العلم في القرآن لكن
    تقاصر عنه أفهام الرِّجَالِ
    الكلام هذَا، كل كلمة منه تُعتبر دُرَّةً، من دُرر العلم، ومن دُرر الخير في فضل القرآن، وفضل كلام الله تَباركَ وَتَعَالَى ثُمَّ قَالَ: "وما أحسن قول عياضٍ اليحصبيُّ في كتابه الإلماع:
    العلم في أصلين لا يعدوهما
    إِلَّا المضلُّ عن الطريق اللاحبِ
    طبعًا كلمة اللاحب كما شرحها الشيخ العُصيمي وَفَّقَهُ اللهُ في شرح الكتاب، قَالَ: "والطريق اللاحب: هو الواضح، الزائغ عن الطريق الواضح لا يُوفقُ إِلَى أصل العلم، وما أحسن قولَ عياض اليحصبي في كتابه الإلماع:
    العلم في أصلين لا يعدوهما
    إِلَّا المضلُّ عن الطريق اللاحبِ
    قلنا كلمة اللاحب يعني: الواضح.
    علمُ الكتابِ وعلمُ الآثارِ التي
    قد أُسنِدت عن تابع عن صاحبِ
    علم الكتاب: الذي هو علم القرآن، وعلم الآثار الَّتِي: الذي هو علم السُّنَّة والآثار الَّتِي جاءت عن التابعين، والصحابة الذين هم السلف عليهم رحمةُ الله وتابعيهم.
    إذًا هذا العلم، إذا اشتغل العبد بعلم القرآن وَالسُّنَّة فإنه -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- يصيب من العلم حظًّا وافرًا، بعكس إذا ما انشغل بالعلوم الأخرى.
    يعني: ما الذي نقصده بالعلوم الأخرى؟ لأن الناس عندما طالَ بهم الزمان بدأوا يُفرِّعون تفريعات، بعيدة عن الكتاب وَالسُّنَّة كما حصل مثلًا: في علم الكلام، والفلسفة، وغيرها من العلوم الَّتِي ليس مرجعها وأصلها القرآن وَالسُّنَّة.
    فهم وإن كانوا يتحدثون حولَ مسائل شرعية عن الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وعن أوامره وخلقه، و...، و...، و... إِلَى آخره، إِلَّا أنهم لما لم يتخذوا من القرآن وَالسُّنَّة أصلًا ينطلقون منه، ضلوا، وأضلُّوا خلقًا كَثِيْرًا.
    فالرجوع للكتاب وَالسُّنَّة، فيه الخير، وفيه الهدى، وفيه الرشاد، وحقيقةً يُستغرَب من مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يذهب ويبحث عند الكفار مثلًا: عن بعض الأمور الَّتِي هي موجودة في القرآن وَالسُّنَّة، يبحث عندهم مثلًا: عن بعض الحكم، بعض الناس تجده يكتب في حالة الواتس (ريتشارد كذا... يقول كذا..)، ألم تجد الناس الذين يعطونك نصائح، ويوجهونك، من علماء الأُمَّة، وقبل ذلك من كلام الله جَلَّ جَلَالُهُ، ومن كلام رسولهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والسلف الصالح والأئمة، والأعلام، وأصحاب الفضل في هذِه الأُمَّة.
    والخيرُ في هذِه الأُمَّة إِلَى قيام الساعة، حَتَّى تذهب تبحث عند غيرنا عما ينفعك، عما يدلك، عما يرشدك، هذا إذا سلم العبد منه، واستفاد شيئًا من مقولات الغرب، فإنه قد يضر عقيدته بتعظيم الكفار في قلبه.
    أحيانًا سُبْحَانَ اللَّهِ، أستغرب من أن نفس العبارة موجودة في كلام الله، وفي كلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تذهب تبحث عنها عند غيرهم، وتقول فلان قَالَ، وفلان قَالَ نفس العبارة مكتوبة، يعني: قالها السلف، قالها العلماء، ابن القيم، ابن تَيْمِيَّة، رحمهم الله وغيرهم من علماء الأُمَّة عَلَى مَرِّ العصور، من السلف؛ كالفضيل بن عياض، والحسن و...، و...، و... ثُمَّ تأتي لتأخذ كلامًا من عند كافر!
    لا بد أن يكون عندك تعظيم لله جَلَّ وَعَلَا، ولشرعه، ولدينه، ومحبة، وموالاة للمؤمنين، يعني نحن لا نمنع هنا، لا بد لأنه الكلام ربما بعضه قد يُفهم خطأ، نحن لا نمنع الاستفادة من الغرب في العلوم الدنيوية، هذِه ما فيها إشكال.
    ما يختلف اثنان أنك أنت تذهب تستفيد منهم مثلًا: في السيارات، في الطائرات، في العلوم الدنيوية المختلفة، الطب وغيره، هذا ما أحد يختلف فيه، لكن تذهب تبحث عن حكمة، أو كلام يُستفاد من الشريعة، وموجود أصله في الشريعة، مِمَّا ينفع الإنسان، ويقوي علاقته بربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويصلح أحواله، ويصلح له دينه، ودنياه.
    يعني ليس هناك أي سبب مقنع يجعلك تبحث عندهم، وهو كله الخير موجود في كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- في سورة الشَّمْس، أقسم أحدَ عشرَ قسمًا، لم يقسم الله جَلَّ جَلَالُهُ بمثل هذا العدد من الأمور في القرآن كله، في سورة الشَّمْس أحدَ عشَر قسمًا، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 1 - 8].
    ما هو الأمر الَّذِي أقسم الله عليه بأحد عشر قسمًا؟ لم يقسم الله جَلَّ وَعَلَا في القرآن بمثل هذا العدد -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام - عَلَى أمر.
    ما هو الأمر الَّذِي تقسم عليه يا ربنا؟ قَالَ الله: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10]؛ أي: زكَّى نفسه بالطاعات، وبالخيرات، وبما يُقرِّبه إِلَى الله.
    أهمية تزكية النفس جاءت في الشريعة، أفنبحث عن تزكية النفس عند غير الشريعة؟! الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعطى أهمية لهذا الأمر، بأن أقسم بكل هذِه الأمور في القرآن في سورة الشَّمْس، مِمَّا يدلك عَلَى عِظَم اهتمام الشريعة بتزكية النفس وتحسين الأخلاق.
    من الذي جاء يعلمني أخلاقًا من واحد لا يؤمن بالله ولا برسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعلمني كيف أعمل، وكيف أتعامل مع الناس، لِمَ استغنيت أنا عن القرآن وَالسُّنَّة حَتَّى أذهب أبحث أنا عند الغرب؟!
    فأرجو أن تكون الفكرة واضحة، كل ما يتعلق بالأخلاق، والعبادات، والعقائد، وهذِه الأمور، ينبغي ألا تُؤخذ إِلَّا من كلام الله، وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خصوصًا إذا نحن نتحدث عن طالب العلم، الَّذِي ينبغي أن يكون حاملًا لهذا النور، ناشرًا له بين الناس، فمن بابٍ أولَى أن يكون مُعظمًا له، مُقَدِّمًا لكلام الله، وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كلام غيرهم، والله يقول: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الحجرات: 1].
    "وأعلى الهمم في طلب العلم، كما قَالَ ابن القيم في كتابه "الفوائد"، طلبُ علم الكتابِ وَالسُّنَّة، والفهم عن الله ورسوله نفس المُراد، وعلم حدود المنزل، وقد كان هذا هو علم السلف عليهم رحمة الله، ثُمَّ كثر الكلام بعدهم فيما لا ينفع".
    كَمَا ذَكَرْت لكم، دخل علم الكلام، ودخل غيره من العلوم الَّتِي لم يكن مستندها وأصلها القرآن وَالسُّنَّة؛ فلذلك قَالَ: فالعلم في السلف أكثر، والكلام فيمن بعدهم أكثر.
    قَالَ حماد بن زيد: "قلت لأيوب السختياني: "العلمُ اليوم أكثر أو فيما تقدم؟" فقَالَ: "الكلام اليوم أكثر، والعلمُ فيما تقدم أكثر".
    وفي جملة ذكرها الشيخ العُصيمي وَفَّقَهُ اللهُ، في شرحه للمعقِد، قَالَ: "ومن جميل ما يُذكر، أن أحد العُبَّاد الصالحين، واسمه حمدون القصَّار، قيل له: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟!".
    يعني فعلًا أنت الحين تستغرب، لم يتناقل الناس كلام السلف إِلَى اليوم، ويؤثر فيهم، ويتغيرون باستماعهم لكلام السلف عليهم رحمة الله، واليوم فيه ناس وفيه كثير مشايخ وغيرهم يقولون كلامًا ليس بنفس الفائدة حقًّا التي في كلام السلف، ليست نفس الفائدة الَّتِي تراها في كلام السلف رحمهم الله، فتستغرب، لكن هنا يظهر لك السبب.
    قيل له: "ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟!"، فَقَالَ: "لأنهم تكلموا لعزِّ الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعزة النفس، وطلب الدنيا، ورضا الخلق"؛ رواه البيهقي في شعب الإيمان، وأبو نعيم الأصبهاني في كتاب حلية الأولياء.
    فمن هنا تعرفوا الفرق -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- وما برز من برز في هذه الأُمَّة، بعد توفيق الله له، إِلَّا بالإخلاص لله رب العالمين.
    مدار الكلام هنا عَلَى الإخلاص، إنه يقول: لماذا السلف كلامهم أصبح له نفع عظيم، وأثر كبير، قَالَ: لأنهم أخلصوا لله، وتكلموا لله.
    بينما نحن طبعًا، هو يتهم النفس من باب اتهام النفس، والتواضع لله تَبَارك وَتَعَالَى، يقول: ونحن نتكلم لأنفسنا، حَتَّى نظهر ويُعرف أنه فلان ابن فلان الشيخ؛ فلذلك حصل الفرق، فَهذا كل الكلام مرده عَلَى أهمية الإخلاص لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أن يكون قصد طالب العلم، والعالم، هو ابتغاء رضوان الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لا مدحًا، ولا طلبًا لمدحٍ، ولا رياءً، ولا سمعةً، ولا طلبًا لفخرٍ، ولا عُجبٍ، ولا كبرٍ عَلَى أحد.
    سؤال: ما توجيهكم في ظاهرة تكاثر من يتحدثون في العلم الشرعي وإظهار الإسلام عَلَى أنه مُتشدِّد، وأنه يضلل من هم عامة الشعب؟ هل تطيقها قلوبنا من الشَّكِّ؟
    الإجابة: أنه عندما يكون في قلب المسلم تعظيم للقرآن وَالسُّنَّة، فإنه بعون الله لا يضل، ويوفقه الله للصراط المستقيم، مَتَى ما قل في قلب طالب العلم، أو المسلم العامي، أو غيرهم تعظيم القرآن وَالسُّنَّة، فهنا يتسلط عليه الشيطان، هنا هو فتح المجال، هو قَالَ لإبليس: تفضل أعطيني ما عندك من شبهات ولأعوان إبليس كأنه يقول لهم: تفضلوا، هذا قلبي بين أيديكم، ازرعوا ما شئتم من شبهات وشكوك، وغير ذلك في دين الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
    لكن إذا كان في قلب المسلم التعظيم التام لكلام الله جَلَّ وَعَلَا، وكلام رسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما أحد يتمكن؛ لأنه أصلًا يصير سبحانه عنده مثل ما قَالَ الله في الحديث: "كنت سمعه الذي يسمع به"، يعني أنه يسمع شُبهة ولا يسمع شيئًا يطعن في الدين تلقائيًا نفسه تتقزز، نفسه تشمئز من هذا الكلام المعارض لكلام الله، وكلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    نور يُلقيه الله في قلب العبد، إذًا عظيم كلام الله وكلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهذا النور يحرق كل شُبهة، ويحرق كل شهوة، لا يجعل للشيطان طريقًا؛ لأن القلب امتلأ بتعظيم كلام الله جَلَّ جَلَالُهُ، وتعظيم كلامه، وتعظيم رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتعظيم السُّنَّة.
    فهو إذا سمع كلام أحد من الناس ينتقد كلام القرآن وَالسُّنَّة، نفسه تشمئز، وما يستقر الكلام في قلبه مباشرةً ترفضه النفس؛ بسبب تعظيمها لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وتعظيم كلام الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    وَهذا التعظيم لكلام الله، وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يأتي من تعظيم العلم، والعمل، والدعوة، ينبغي عَلَى المسلم دائمًا في كلِّ يومٍ من أيامه أن يشتغل بهذه الأمور الثلاثة، يعطي جزءًا من وقته، ويومه لطلب العلم، ويطبق ويعمل بما يتعلمه هذا العمل.
    1- العلم.
    2- العمل.
    3- النشر والدعوة.
    لماذا الدعوة مهمة في صد الشبهات؟
    أحيانًا يُقال: أفضل وسيلة للدفاع الهجوم، الآن إذا أنت بدأت تدعو إِلَى الله، أنت الآن آخذ موقف هجومي ضد الشيطان وضد أعداء الله، وضد أصحاب الشهوات، والشبهات.
    مَتَى ما بعدت عن الدعوة، فأنت في موقف دفاعٍ، دائمًا الشبهات تأتيك، وتصارع، وتبتعد، وتتعوَّذ بالله من الشيطان، مع كثرة الضرب، وكثرة الشبهات الَّتِي تُلقَى، ممكن تجد نفسك انحرفت، يعني: بدأت تستقر في قلبك بعض الشهوات، أو بعض الشبهات، لكن عندمت تكون آخذًا موقفًا هجوميًّا، فأنت تعاند أعداء الله، أنت تصارع أعداء الله بنشر الدين وتعظيم الله، وتعظيم كلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    تنشر آية، تنشر حديثًا، تنشر خيرًا، هو يهاجمك، كيف أنت الذي تهاجمه؟! فتصير أنت الذي تهاجم أعداء الله بنشرك للعلم، وأنت الَّذِي تجاهد بنشر هذا القرآن، والخير كما قَالَ الله: ﴿ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 52]، أرجو أن أكون قد أجبت عَن السؤال، هذا والله تَعَالَى أعلم، والحمد لله رب العالمين، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,676

    افتراضي رد: مجالس شرح كتاب تعظيم العلم للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي

    المجلس السادس من مجالس شرح كتاب تعظيم العلم

    للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي





    الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، اللَّهُمَّ صل وسلم وبارك عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ،أَمَّا بعد:
    مرحبًا بكم أحبتنا الكرام في المجلس السَّابِع من [مجالس شرح تعظيم العلم].
    للشيخ/ صالح بْن عبدالله بْن حمد العصيمي.
    اليوم بعون الله نتحدث حول/ المعقد السَّادِس والمعقد السَّابِع.
    نحاول إِنْ شَاءَ اللهُ أن ندرس معقدين من معاقد تعظيم العلم.
    وقبل أن نبدأ في الحَدِيْث حول معاقد تعظيم العلم، كنا قَدْ تحدثنا في لقاءين سابقين حول ما ينبغي عَلَى الْمُسْلِم عمله في مواجهة الشبهات الَّتِي قَدْ تعرض له.
    ولعلي أختم بهذا الأمر وَهُوَ: أن الأصل في الأمور الدنيوية الإباحة -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- الله جَلَّ وَعَلَا جعل باب الحلال واسعًا ولم يضيق عَلَى الخلق بتحريم أشياء كثيرة؛ بل المحرم هُوَ الباب الضيق أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام.
    ولذلك القاعدة تَقُولُ:
    إن الأصل في الأمور الدنيوية الإباحة، والأصل في الأمور الشَّرْعِيَّة المنع.
    بمعنى: أَنَّهُ لو أراد شخص أن يتعبد عِبَادَة لله ويعمل عِبَادَة نَقُول له: ممنوع، إلى أن تأتي بالدليل، إلى أن يكون هناك نصٌّ في الْقُرْآن أو السُّنَّة ويوضح أن هذا الأمر عِبَادَة، فالأصل في العبادات التوقيف والمنع، إِلَّا ما جاء الشرع بِهِ.
    وفي المقابل: الأصل في الأمور الدنيوية الإباحة، يَعْنِي حَتَّى نأخذ مثالًا عَلَى هذه القاعدة، عندما تقوم بعمل أي أمر دنيوي، تأكل أي طعام، تلبس أي لباس، تصنع أي شيء مِمَّا يتعلق بأمور الدُّنْيَا الأصل الإباحة، إذا جاء أحد يطلب منك يَقُولُ لك: ما الدليل عَلَى أن هذا الأمر مباح؟ تَقُولُ له: أنت قل لي: ما الدليل عَلَى أَنَّهُ ممنوع؟ يَعْنِي أنت تطالبه بالدليل عَلَى المنع؛ لأن الأصل الإباحة، فإذا وُجِد دليل عَلَى منع مثلًا الطعام، أخذنا مثالًا عَلَى الطعام أَنَّهُ أكل لحم الخنزير، هناك دليل عَلَى تحريمه؛ إذن الآن نتوقف عَنْ أكل لحم الخنزير؛ لأنه جاء نص بمنعه.
    الجانب الآخر وَهُوَ العبادات؛
    قُلْنَا:
    الأصل فيها المنع.
    مَثَلًا شخص قَالَ: إِنَّه يريد كما جاء في عهد النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد أن يقف في الشَّمْس، يتعبد إلى الله بالوقوف في الشَّمْس ولا يستظل، أو يَقُولُ: لا أتزوَّج النساء، نَقُول: الأصل المنع، ما يصلح أن تتعبد إلى الله بشيء لم يرد في الشَّرِيعَة، فإذا أردت أن تتعبد لله نطالب بالدليل، نَقُول: أعطنا دليلًا عَلَى قيامك بهذه الْعِبَادَة، يَقُولُ: قَالَ الله، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هكذا؛ إذًا ليس هناك إشكال، إذا ما وُجِد لديه دليل؛ نَقُول: الأصل في العبادات المنع.
    إذن هذا الأمر يفيد في ماذا؟
    يفيد في محاربة الشبهة الَّتِي كنا نتحدث عنها، وأن المتدينين متشددون، والدين فيه تشدد، وكل الْأَشْيَاء الَّتِي حرمها الله مع أن الأصل في الأمور الدنيوية الإباحة، وكل الْأَشْيَاء الَّتِي حرمها الله جعل لك بديلًا في المباح، حينما حرم الله جَلَّ وَعَلَا عَلَيْنَا الخمر، كُلّ العصائر والماء وأنوع المشروبات مباحة، إِلَّا أشياء محدودة وضيقة، منها شرب الخمر، عندنا مَثَلًا ما يتعلق بالأطعمة كَذَلِكَ الأصل فيها الإباحة؛ يَقُولُ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ ﴾ [الأنعام: 145].
    يَعْنِي إذا الله حرم عَلَيْنَا لحم الخنزير فانظر كم من الأطعمة متاحة ومباحة؟ فالله جعل لنا بديلًا في الحلال.
    الفكرة الَّتِي أود أن أوصلها لكم أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام:
    هُوَ: أن ما حُرم عَلَيْنَا هناك بديل في الحلال، حرم الله جَلَّ وَعَلَا عَلَيْنَا الزنا، لكنه أباح لنا الزواج، فيوجد بديل، يوجد مخرج للإنسان لأن يعمل الحلال دون أن يعصي ربه ويستمتع في هذه الحياة الدُّنْيَا بالمباحات، لا أحد يمنعه، لكن لا يقترب من الحرام حَتَّى لا يضر دينه ودنياه.
    ونختم بهذا الأمر قبل أن نبدأ في المعقد السَّادِس:
    فَإِنَّ الله جَلَّ وَعَلَا لم يحرم عَلَيْنَا شيئًا إِلَّا لضرره، ولم يوجب عَلَيْنَا شيئًا، ولم يفرض عَلَيْنَا شيئًا إِلَّا لمنفعته لنا.
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    المعقد السَّادِس
    رعاية فنونه في الأخذ وتقديم الأهم فالمهم
    إن الصور المستحسنة يزيد حسنها بتمتع البصر بجميع أجزائها، ويفوت من حسنها عند الناظر بقدر ما يحتجب عنه من أجزائها، والعلم هكذا، فمن راعى في فنونه الأخذ، وأصاب في كُلِّ فن حظًّا، كملت آلته في العلم.
    قَالَ ابْن الجوزي رَحِمَهُ اللهُ في (صيد خاطره):جميع العلوم ممدوحة.

    من كُلِّ فن خذ ولا تجهل بِهِ
    فالحر مطلع عَلَى الأسرار

    ويقول شيخ شيوخنا مُحَمَّد بْن مانع رَحِمَهُ اللهُ في (إرشاد الطلاب):
    ولا ينبغي للفاضل أن يترك علمًا من العلوم النافعة الَّتِي تعين عَلَى فهم الْكِتَاب وَالسُّنَّة، إذا كان يعلم من نفسه قوة عَلَى تعلُّمه، ولا يسوغ له أن يعيب العلم الذي يجهله، ويزري بعالمه؛ فَإِنَّ هذا نقص ورذيلة، فالعاقل ينبغي له أن يتكلم بعلم، أو يسكت بحلم، وَإِلَّا دخل تَحْتَ قول القائل:

    أتاني أن سهلًا ذمَّ جهلًا
    علومًا لَيْسَ يعرفهن سهل
    علومًا لو قراها ما قلاها
    ولكن الرضا بالجهل سهل
    وهذا نجد أيها الأحبة الكرام في شرح هذا المعقد:
    ذكر الشَّيْخ وَفَّقَهُ اللهُ الاستخفاف ببعض المعارف، كيف الاستخفاف ببعض المعارف؟ يَعْنِي كما ذكر الشَّيْخ في شرحه تجد أحدهم إذا برز في الحَدِيْث عاب التَّفْسِير وأهله، فَقَالَ: أكثر ما ينقل في التفاسير ضعيف الإسناد، والمتكلمون في التَّفْسِير لا معرفة لهم بالأسانيد، فهم ينقولون نقل معور عَنْ معور، وإذا كان مبرزًا في الفقه ولا يعلم الحَدِيْث، عاب الحَدِيْث بأن المقصود من الحَدِيْث العمل، وفي الصحيحين ما يغني في بيان الْأَحْكَام عَنْ تطلُّب معرفة علوم الحَدِيْث والجرح والتعديل وما تعلق بها.
    قَالَ الشَّيْخ: وهذا داء مشهود في الناس قديمًا وحديثًا، والسلامة منه ألا تستخف بشيء من المعارف الإسلامية، فالعلوم الَّتِي بثت في الأُمَّة، وانتشرت في أنحائها قديمًا وحديثًا، هِيَ من العلوم المقبولة الَّتِي يُرفع إِلَيْهَا الرأس ويُحث عليها الناس.
    إذًا ما ينبغي الاستخفاف بعلوم الشَّرِيعَة أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام، أو إظهار أن أحد العلوم هُوَ الأفضل وَهُوَ الأنفع وما سواه لا ينفع كثيرًا، ونحو ذَلِكَ، هذا كله لا ينبغي أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام.
    يَقُولُ الشَّيْخ هنا في شرحه:
    سبب المشكلة هُوَ التخصص:
    يأتي شخص يتخصص في الفقه، فهو يرى أن الفقه شيء رائع وجميل، وَهُوَ أصلًا صار تخصصه، يَعْنِي صار فاهمًا فيه ومتمكنًا منه؛ فلذلك يحبه، وهذا طبيعي، منشغلًا بِهِ، يقرأ فيه كثيرًا، يتبحَّر فيه، يتابع دروسه، أصبح متمكنًا في هذا العلم، هذا لا بأس فيه، ما فيه إشكال، نحن لا نعترض عَلَى التخصص، لكن لا تتحدث حول العلوم الأخرى، فتتحدَّث مثلًا عَنْ علم الحَدِيْث كما ذكر الشَّيْخ في الْمِثَال، أو تتحدث عَنْ علم التَّفْسِير، أو عَنْ علم العقيدة، أو عَنْ غَيْر ذَلِكَ، وتبدأ تذري بهذه العلوم أو تنقص من قدرها، أو تُظهر أنها لَيْسَت بمنزلة الفقه، وأن الفقه أَهَمُّ، وأن ما سواه حَتَّى لو لم تتعلمه لا يضرك ونحو ذَلِكَ، كُلّ هذا لا ينبغي أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام.
    فَإِنَّ هذه العلوم لم تأتِ إِلَّا من كلام الله وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالمذكور في التَّفْسِير وفي العقيدة وفي الحَدِيْث وفي الفقه، كله إِنَّمَا مصدره الْقُرْآن وَالسُّنَّة، المرجع لهذِه العلوم الْقُرْآن وَالسُّنَّة، كيف نعيب شيئًا مصدره الْقُرْآن والسُّنَّة؟
    ينبغي للعبد أن يتنبه وَألَّا يجعل تخصصه في أحد العلوم سببًا لأن يزري بغير العلم الذي تخصص فيه.
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    وَإِنَّمَا تنفع رعاية فنون العلم باعتماد أصلين:
    أَحَدُهُمَا: تقديم الأهم فالمهم مِمَّا يفتقر إليه المتعلم في القيام بوظائف العبودية لله.
    سُئل مالك بْن أنس إمام دار الهجرة عَنْ طلب العلم؛ فَقَالَ: حسنٌ جميل ولكن انظر الذي يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فالزمه.
    وَقَدْ مَرَّ أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام في المعقد الخَامِس من معاقد تعظيم العلم، قول مُحَمَّد مرتضى بْن مُحَمَّد الزبيدي، صاحب تاج العروس في منظومة له تسمى (ألفية السند) قَالَ فيها:

    فما حوى الغاية في ألف سنة
    شخص فخذ من كُلِّ فنٍ أحسنه

    يَعْنِي أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام العلم بحر، العلم واسع جدًّا، هنا في البيت الذي قرأناه قبل قليل يَقُولُ لك: لو عشت ألف سنة، ما تقدر أنك تصل إلى غاية العلوم، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ: ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85].
    طالما لو أنني أفنيت عمري، لو أفنيت ليلي ونهاري، لنتخيل كَذَلِكَ مجرد تخيل، رغم أن هذا الشيء مستحيل أن إنسانًا لا ينام وليل مع نهار في العلم وعاش مَثَلًا سبعين سنة أو ثمانين سنة ما شاء الله أن يعيش، لا يمكن أن يبلغ الغاية في العلوم؛ لأن العلوم واسعة -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- العلوم بحر، والكتب والمراجع والفنون المختلفة، لو أفنى الْإِنْسَان عمره وحياته وجهده ووقته وماله لن يبلغ الغاية فيها، إذن ما الحل ما دامت الْمَسْأَلَة هكذا، إنَّهُ الآن نحن نتكلم عَنْ بحور من العلم، عَنْ آفاق واسعة لا يمكن إدراك نهايتها؟
    هذه هِيَ فكرة المعقد كله:
    إذا أنت فهمت الفكرة هذه فقد فهمت المعقد الذي نتحدث عنه اليوم:
    أن العلوم بحر واسع، فما د ام الأمر كَذَلِكَ فابدأ بالأهم قبل المهم:
    يَعْنِي: تبدأ بالأهم؛ لأنك في النهاية حَتَّى لو أفنيت عمرك كله في العلم فلن تبلغ نهايته، من ثم تستغل مجهودك ووقتك وذهنك ومالك وكل ما يمنحك الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من وسائل في طلب العلم تبذلها في تعلُّم الأهم فالمهم، قدم الأهم، اجعلها كأنها سُلَّم أولويات، السلم تجعل فيه الأهم؛ الْأَشْيَاء الَّتِي تتعلق بعبوديتك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الْأَشْيَاء الَّتِي تحتاج إليها في علاقتك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يَعْنِي في صلاتك، إذا كان عندك مال زكاتك لهذا المال، في صومك، العبادات والأمور الَّتِي أنت محتاج إليها حَتَّى تقوم بالعبادات الَّتِي أمرك بها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، التَّوْحِيد طبعًا، والإيمان وما يتعلق بأركان الإيمان، وكل هذه الأمور تبدأ بها، قبل غيرها؛ لأن هذه مطلوبة منك، الله سيسألك عنها، سنُسأل عنها أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام.
    فما دامت هذه الأمور سنُسأل عنها بين يدي الله جل جلاله نعطيها أولوية:
    ولأنها أَيْضًا هِيَ الَّتِي توضح لنا طريق القيام بعبودية الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، عَلَى علم وبصيرة، لَيْسَ كمن يعبد الله عَلَى جهل -وَالعِيَاذُ باللهِ-.
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    ولهذا سئل مالك بْن أنس إمام دار الهجرة، وَهُوَ الْإِمَام مالك رَحِمَهُ اللهُ عَنْ طلب العلم؛ فَقَالَ: حسنٌ جميل، ولكن انظر الذي يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فالزمه.
    يَعْنِي: انظر الْأَشْيَاء الَّتِي أنت تحتاج إليها في يومك وليلتك مِمَّا يتعلق بالعبادات المطلوبة منك، فتعلَّمها وافهمها حَتَّى تطبقها، وتعمل بها؛ لأنه كما ذكرنا من قبل، العلم شجرة والعمل ثمرة، وَإِنَّمَا يُراد العلم للعمل، الهدف من العلم حَتَّى تُطبق هذه العلوم الَّتِي تعلمتها، وتفهمها وتعمل بها، حَتَّى تكون حجة لك لا عليك، من ثم ابدأ بالأهم قبل المهم فِيمَا يتعلق بوظائف عبوديتك لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    قَالَ أبو عبيدة معمر بْن المثنى:من شغل نفسه بغير المهم أضَرَّ بالمهم.
    قدم الأهم إن العلم جم
    والعمر طيف زار أو ضيف ألم
    وَالآخَر: أن يكون قصده في أول طلبه تحصيل مختصر في كُلِّ فن، حَتَّى إذا استكمل أنواع العلوم النافعة نظر إلى ما وافق طبعه منها، وآنس من نفسه قدرة عَلَيْهِ، فتبحَّر فيه، سواء كان فنًّا واحدًا أو أكثر.
    هنا الشَّيْخ رَحِمَهُ اللهُ يَقُولُ:
    ينبغي عَلَى طالب العلم أن يدرس مختلف الفنون، فيدرس مثلًا متنًا في التَّفْسِير، وفي العقيدة، وفي الحَدِيْث، وفي الفقه، وفي غيرها من العلوم الَّتِي تخدم الْكِتَاب وَالسُّنَّة، ثُمَّ بلا شَكَّ سيظهر لديه إِمَّا من خلال ما يشعر بِهِ طالب العلم أو ما يوجهه بِهِ معلمُه، رغبةٌ في التخصص في أحد هذه الفنون.
    هنا يَقُولُ الشَّيْخ لك: تخصص في الفن الذي تحب، لكن يكون لديك إلمام بالصورة الشاملة للعلوم المختلفة، ولأن الشخص إذا ما كان لديه إلمام بهذه الصورة الشاملة...
    دعونا نأخذ مثالًا:
    لو جاء شخص وبدأ من البداية يَقُولُ: أنا أريد أن أتخصص في علم العقيدة مثلًا، أنا أحببت علم العقيدة، والعقيدة لها علاقة بالإيمان بالله، والإيمان بالله هُوَ أسمى ما ينبغي عَلَى الْمُسْلِم العناية بِهِ، وأفضل الأعمال، وَهُوَ مقتضى شهادة أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأن مُحَمَّدًا رَسُول الله، المهم حب العقيدة.
    هنا الشَّيْخ يَقُولُ: هذا الشخص لو من البداية بدأ يتخصص في علم العقيدة ويدرس متون العقيدة ويحضر دروس العقيدة و... و...، فلن يتميز في العقيدة، إِلَّا إذا أخذ صورة شاملة عَن العلوم قبل أن يبدأ في التخصص في علم العقيدة، يدرس تفسيرًا، يدرس حديثًا، يدرس -كَمَا قُلْنَا- فقهًا، يتعلم علوم الشَّرِيعَة، يأخذ متنًا في كُلِّ هذه الفنون وغيرها، ثُمَّ بعد ذَلِكَ يبدأ في التخصص؛ هنا سيُبدِع، هنا بعون الله سيتمكن من التميز في هذا التخصص الذي أحبَّه أو وجَّهه له معلمُه.
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,676

    افتراضي رد: مجالس شرح كتاب تعظيم العلم للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي

    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    أَمَّا بلوغ الغاية في كُلِّ فن.
    يَعْنِي: يأتي واحد ويصير متخصصًا يَعْنِي فاهمًا فيها كلها ما شاء الله تبارك الله، يَقُولُ: هذا ما يتحقق لكل أحد (وَأَمَّا بلوغ الغاية في كُلِّ فن) أن يكون لديه تميز في مختلف الفنون، ومختلف العلوم.
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    والتحقق بملكته، فَإِنَّمَا يهيأ له الواحد بعد الواحد في أزمنة متطاولة.
    يَعْنِي: إن ما يحصل لشخص في أزمنة متطاولة؛ يَعْنِي نسميها باللهجة العامية أَنَّهُ (فين وفين) أَنَّهُ يأتي واحد ويصبح بارعًا في شتى الفنون، (فلتة) ما شاء الله تبارك الله في شتى الفنون، هذا يَعْنِي (فين وفين)، لكن الذي عَلَيْهِ عموم الناس أَنَّهُ مثلما ذكرنا، يكون لديه صورة شاملة عَن العلوم ثُمَّ يتخصص في فن أو فنين عَلَى الأكثر، هذا الذي عَلَيْهِ أكثر الناس، كما ذكر الشَّيْخ في الشرح.
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    ثُمَّ ينظر المتعلم فِيمَا يمكنه من تحصيلها إفرادًا للفنون ومختصراتها واحدًا بعد واحد أو جمعًا لها، والإفراد هُوَ المناسب لعموم الطلبة، ومن تيار شعر الشناقطة قول أحدهم:
    وإن لم ترد تحصيل فن تممه
    وعن سواه قبل الانتهاء مه
    وفي ترادف العلوم المنع جا
    إن توأمان استبقا لن يخرجا
    ومن عرف من نفسه قدرة عَلَى الجمع جمع، وكانت حاله استثناءً من العموم.
    ومن نواقد هذا المعقد المشاهدة:الإحجام عَنْ تنوع العلوم، والاستخفاف ببعض المعارف، والاشتغال بِمَا لا ينفع، مع الولع بالغرائب.
    وكان مالك يَقُولُ:شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قَدْ رواه الناس.
    فِيمَا يتعلق بالبيتين اللذين مرا:
    وإن لم ترد تحصيل فن تممه
    وعن سواه قبل الانتهاء مه
    وفي ترادف العلوم المنع جا
    إن توأمان استبقا لن يخرجا
    نأخذ مثالًا عليها:
    يأتي شخص يريد أن يحفظ متنًا في العقيدة، ويتعلم هذا الفن، الأفضل له من بعد أن ينتهي من دراسة متن العقيدة يبدأ يدرس متنًا في الفقه، بعد أن ينتهي من دراسة متن الفقه ينتقل إلى دراسة متن في التَّفْسِير أو الحَدِيْث هكذا، يَعْنِي يدرس فنًّا ثُمَّ ينتقل إلى فنٍّ آخر، طبعًا هذا يختلف عَن المعاهد والكليات والجامعات، فَإِنَّ طرق التدريس في الجامعات والكليات أصبحت أن الطالب يدرس ربما مادة من العلم الفلاني، ومادة من العلم الفلاني.
    لكن يَقُولُ الشَّيْخ: الأصل والذي عَلَيْهِ الْعُلَمَاء الذي ينصحون بِهِ أن يكون الْإِنْسَان يدرس فنًّا ثُمَّ ينتقل إلى آخر، ننتقل بعد ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ إلى المعقد التالي من معاقد تعظيم العلم وهذا المعقد السَّابِع.
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:

    المعقد السَّابِع
    المبادرة إلى تحصيله
    واغتنام سن الصبا والشباب
    فَإِنَّ العمر زهرة:إِمَّا أن تصير بسلوكك المعالي ثمرة، وَإِمَّا أن تذبل وإن مِمَّا تثمر بِهِ زهرة العمر المبادرة إلى تحصيل العلم، وترك الكسل والعجز، واغتنام سن الصبا والشباب؛ امتثالًا للأمر باستباق الخيرات، كما قَالَ تَعَالَى:﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ [البقرة: 148].
    وأيام الحداثة فاغتنمها
    ألا إن الحداثة لا تدوم

    قَالَ أحمد رَحِمَهُ اللهُ: ما شبهت الشباب إِلَّا بشيء كان في كمي فسقط.
    والعلم في سن الشباب أسرع إلى النفس وأقوى تعلقًا ولصوقًا.
    ولعل قول الحسن هُوَ خلاصة هذا المعقد أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام.
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    قَالَ الحسن البصري: العلم في الصغر كالنقش في الحجر.
    نعيد كلام الحسن رَحِمَهُ اللهُ وَهُوَ مشهور، لا أظنه يخفى عَلَى أحد.
    قَالَ الحسن البصري: العلم في الصغر كالنقش في الحجر.
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    فقوة بقاء العلم في الصغر كقوة بقاء النقش في الحجر، فمن اغتنم شبابه نال إربه، وحمد عند مشيبه سراه.
    اغتنم سن الشباب يا فتى
    عند المشيب يحمد القوم السرى
    وأضر شيء عَلَى الشباب: التسويف وطول الأمل، فيُسوِّف أحدهم ويركب بحر الأماني، ويشتغل بأحلام اليقظة، ويُحدِّث نفسه أن الأيام المستقبلة ستفرغ له من الشواغل، وتصفو من المكدرات والعوائق، والحال المنظورة.
    يَعْنِي: المشاهدة في الناس.
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    إن من كبرت سنه كثرت شواغله، وعظمت قواطعه، مع ضَعْف الجسم ووهن القوى، ولن تدرك الغايات العظمى بالتلهف والترجي والتمني.
    ولست بمدرك ما فات مني
    بلهف ولا بليت ولا لو أني
    ثُمَّ هنا في آخر هذا المعقد كلام مهم، حَتَّى لا يأتي شخص كبير في العمر يَقُولُ: لقد ذهبت الفرصة، لا أستطيع أن أتعلم، نحن نَقُول له: لا، الكلام هذا غَيْر صحيح.
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    ولا يتوهم مِمَّا سبق أن الكبير لا يتعلم؛ بل هَؤُلَاءِ أصحاب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعلموا كبارًا، كما ذكره البخاري في كِتَاب العلم من صحيحه، وَإِنَّمَا يعسر التَّعَلُّم في الكبر كما بيَّنه الماوردي في (أدب الدُّنْيَا والدين) لكثرة الشواغل، وغلبة القواطع، وتكاثر العلائق، فمن قدر عَلَى دفعها عَنْ نفسه أدرك العلم.
    يَعْنِي: حَتَّى لو كان كبيرًا.
    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    وَقَدْ وقع هذا لجماعة من النبلاء طلبوا العلم كبارًا فأدركوا منه قدرًا عظيمًا، منهم القفال الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللهُ.
    وذكر الشَّيْخ وَفَّقَهُ اللهُ في شرح المعقد:
    أن الكبير إذا تقلل من شواغله، ونحن تكلمنا في المعقد الثالث من معاقد تعظيم العلم وَهُوَ (جمع همة النفس عَلَيْهِ) يَعْنِي التقلل من الشواغل، وذكرنا أهمية أن الْإِنْسَان يفرغ قلبه وذهنه من الهموم ومن الخلافات مع الناس حَتَّى يرسخ العلم ويثبت في قلبه، ويتقلل من الشواغل والأمور الدنيوية، وأي شيء ما يحتاج إليه مما ينفعه في دينه ودنياه يبتعد عنه حَتَّى فرغ وقته، حَتَّى يجد وقتًا للدروس وللقراءة ولتلاوة الْقُرْآن،ولتعل م العلوم، وللعمل بالعلم ونشره كَذَلِكَ.
    قَالَ الشَّيْخ وَفَّقَهُ اللهُ:
    فالكبير إذا تقلل من شواغله ودفع العوائق الَّتِي تعرض في طريق العلم، وحسم العلائق الَّتِي تجذبه إلى غيره، أمكنه أن يطلب، وفي القديم والحديث: من طلب العلم كبيرًا صار مشارًا إليه بالتقدم.
    يَعْنِي: هُوَ الحالة المنظورة، المشاهد في حياة الناس، أن الشخص كلما كان عمره أكبر كلما ازدادت شواغله.
    خلاصة هذا المعقد:
    أن الْإِنْسَان يستغل عمره، ولأنه أصلًا لا يدري مَتَى يأتيه الْمَوْت، فيبادر بتحصيل العلم، ويبادر بِمَا ينفعه، ويبادر باستباق الخيرات امتثالًا لأمر الله، في قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الحديد: 21].
    بالنسبة للسؤال الذي ورد:
    كيف أنتظم عَلَى جداولي؟
    من الأمور المفيدة في هذا الأمر: هُوَ والله تَعَالَى أعلم أن يكون لك صحبة، أن يكون للشخص صحبة، يَعْنِي مثلًا أنا أريد أن أحفظ الْقُرْآن، لا تحفظه وحدك، التحق بحلقة فيكون معك معلم يتابع، وطلاب، وترى هذا يحفظ وهذا يراجع، وهذا يسمع، فتشعر بالحماس، وتشعر بالرغبة في المنافسة في الخير، مَثَلًا في أي أمر... في قراءة،... في حضور دروس أو غيره، إذا كنت أنت تقوم بهذا الأمر وحدك فقَدْ لا تلتزم بِهِ.
    لكن ماذا تفعل؟
    تحاول أن تجد مجموعة يشتركون معك في نفس الهدف، حَتَّى لو كان الأمر متعلقًا مثلًا بقراءة، هناك بعض المجموعات، وبعض القنوات المختصة بعمل جداول للقراءة، فيلتحق عدد كبير فيها؛ وَمن ثم الشخص يجد نفسه لديه رغبة للاستمرار ولمواصلة القراءة، وهكذا.
    يحاول دائمًا أن يجد صحبة في كُلِّ أمر يريد القيام بِهِ، ويشرك أهله وأحبابه يخبرهم مثلًا بعزيمته عَلَى أمر معين، حَتَّى يلزم نفسه بهذا الأمر، حَتَّى يتابعونه، ماذا فعلت؟ أنت قلت: إِنْ شَاءَ اللهُ ستحفظ في كُلِّ أسبوع كذا، حفظت أم لم تحفظ؟ فدائمًا المؤمن قويٌّ بإخوانه، يكون له صحبة في الخير فإنها بعون الله من أنفع ما يكون بالنسبة لطالب العلم حَتَّى ينتظر عَلَى ما يريد ويبلغ الغاية بعون الله في العلم وما يتعلق بِهِ.
    السَّائِل: إذا كان المعلم لا يقيمنا عَلَى حفظنا؟
    الشَّيْخ: إذا كان المعلم لا يُقيِّم عَلَى الحفظ، نحن ذكرنا في معقد سابق أهمية اختيار المعلم، يَعْنِي ليس كُلّ أحد ينفع أن نذهب إليه ونأخذ عنه العلم، أو نختاره أن يكون معلمًا لنا، مثل ذَلِكَ إذا كان لدينا مشكلة نسأل الله أن يعافينا ويعافي جميع المسلمين، نختار الطبيب الحاذق، هذا نفس الأمر، إذا أنا أريد أن أدرس علمًا أو أتعلم كِتَاب الله أو سُنَّة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أختار المعلم الحاذق، المعلم المتمكن في العلم وصاحب الخلق، صاحب الدِّين والعمل بالعلم، فإذا كان المعلم لا يتابع، لا يهتم، فليس هناك مشكلة، ما وقفت عَلَيْهِ، نغيره ونختار معلمًا آخر، والله يوفقه ويهديه سواء السبيل، هذه الإجابة باختصار.
    السَّائِل: هل الذي درس علوم الدِّين المختصرة خلال دراسته في المتوسط والثانوي حسب المنهج الدراسي يكون أهلًا أن يتخصص ويتوسع في علم معين؟
    الشَّيْخُ: غالبًا لا؛ لأن العلوم الَّتِي تدرس في المراحل المتوسطة والثانوية هِيَ علوم مختصرة جدًّا جدًّا، قَدْ يكون اختصارًا مخلًّا؛ لأنه مع الأسف الكثير من المدارس تدرس مواد كثيرة ومتعددة، وَقَدْ تُعطي حصص الشَّرِيعَة عددًا أقل من الحصص، ومن ثمَّ لا يتمكن الطالب من فهم هذه العلوم فضلًا عَنْ أَنَّهُ بعد ذَلِكَ ينطلق ويتخصص في أحدها، هم يحاولون بعض الأمور العامة لكن لا يُكتفى بها؛ لذلك ينبغي عَلَى الْإِنْسَان أن يحرص عَلَى حضور دروس العلم، والتبحُّر أكثر في العلوم الشَّرْعِيَّة، حَتَّى لا يفاجأ بعد ذلك أن هناك أشياء كثيرة يجهلها من الدِّين، ويعتقد أَنَّهُ كان يكفي الذي درسه بالمدرسة، والحقيقة تَقُولُ: إِنَّه لا يكفي الذي يُدرس في المدرسة حَتَّى نَقُول: قَدْ تعلمنا دين الله، أو تعلمنا الفقه في دين الله، أو تعلمنا تفسير كِتَاب الله، أو تعلمنا الحَدِيْث، يَعْنِي كُلّ واحد لو يراجع ما هِيَ الْأَشْيَاء الَّتِي تدرس في المدارس يكتشف أنها لا تغطي الجوانب الأساسية، أنا لا أتكلم عَن الإضافات والتبحُّر، لا تغطي الجوانب الأساسية التي هِيَ ما لا يسع الْمُسْلِم جهله، نحن نتكلم الآن عَنْ طالب علم، أتكلم عَلَى الأساسيات التي المصطلح المعاصر لها كَلِمَة ما لا يسع الْمُسْلِم جهله، فَالَّذِي يُدرس في المدارس ما يغطي الذي يحتاج إليه الْمُسْلِم العامي التي هِيَ الْأَشْيَاء الَّتِي تسمى ما لا يسع الْمُسْلِم جهله، فضلًا عَنْ أنها تغطي احتياجات طالب العلم وتمكنه بعد ذَلِكَ من التبحُّر في أحد العلوم، والله المستعان.
    لعلنا نكتفي بِمَا ورد من أسئلة ونلتقي إن شاء الله في الغد بعون الله.
    سبحانك اللَّهُمَّ ربنا وبحمدك أَشْهَدُ أن لا إله إِلَّا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
    وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,676

    افتراضي رد: مجالس شرح كتاب تعظيم العلم للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي

    المجلس السادس من مجالس شرح كتاب تعظيم العلم

    للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي

    المجلس السابع

    من مجالس شرح كتاب تعظيم العلم للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي



    الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، اللَّهُمَّ صل وسلم وبارك عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ،أَمَّا بعد:
    حياكم الله أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام مع درسنا اليوم، وَهُوَ الدَّرْس السَّادِس في [شرح تعظيم العلم].

    ومع المعقد الخَامِس من معاقد تعظيم العلم [سلوك الجادة الموصلة إليه].

    درسنا فِيمَا مضى أربعة من معاقد تعظيم العلم:
    المعقد الْأَوَّلُ: تطهير وعاء العلم، وذكرنا أَنَّهُ القلب.

    ثُمَّ تحدثنا حول المعقد الثَّانِي: وَهُوَ إخلاص النِّيَّة فيه؛ أي: إخلاص النِّيَّة في طلب العلم لله رب العالمين.

    والمعقد الثَّالِث: جمع همة النفس عَلَيْهِ، فلا يكون الطالب مشتتًا، كثير الهموم، كثير المشاغل، كثير الخلافات مع الناس، فلا تجتمع نفسه وهمته عَلَى العلم؛ بل ينبغي له أن يفرغ نفسه وقلبه وذهنه من الشواغل والمُلهيات حَتَّى يتمكن من فهم العلم وإدراكه وتثبيته في قلبه.

    ثُمَّ تحدثنا في آخر مرة وآخر لقاء حول المعقد الرَّابِع من معاقد تعظيم العلم: وَهُوَ صرف الهمة فيه إلى علم الْقُرْآن وَالسُّنَّة.

    وكان قَدْ جاء سؤال في اللقاء الْمَاضِي حول كيفية مواجهة الشبهات؟

    وكيف أن الْعَبْد يحمي قلبه وعقله من الشبهات؟


    وحقيقة أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام:
    الشبهات الَّتِي تطرأ عَلَى قلب طالب العلم هِيَ منبعها من عدم فهم أُولَئِكَ الَّذِينَ يلقون الشبهات لفضل هذا الدِّين ومكانته وعظمته، فإنه لا يتصور -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- أن ينزل الله جَلَّ وَعَلَا عَلَيْنَا وَهُوَ الخالق العظيم سُبْحَانَهُ رب الكون لا إله إِلَّا هُوَ، أن ينزل عَلَيْنَا دينًا صعبًا في تكاليفه، شاقًّا لا يمكن لأحد تطبيقه، هذا لا يتصور في حق الله، هذا سوء ظن بالله؛ ولهذا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286]، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185].

    وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إن هذا الدِّين يُسْرٌ ولن يشاد الدِّين أحدًا إِلَّا غلبه»، فحينما يأتي شخص ويتحدث حول الشَّرِيعَة الإسلامية أَنَّها دين متشدِّد، وأن الأشخاص الذين يلتزمون بشرع الله هم أُناس متزمتون ومتشدِّدون، أو متكلفون ما لا ينبغي، ومثل هذه الادِّعاءات ادِّعاءات باطلة أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام.

    إذا أردنا أن نعرف ما هُوَ سبب هذه الادعاءات لعلنا نأخذ مثالًا يوضح الفكرة:
    لو أن هناك أمًّا تُكَلِّمَ ابنها أو ابنتها تَقُولُ: يا بنتي أو يا بني، ادرس، يا بني، استيقظ من النوم في الصباح، يا بني افعل كذا، الطفل قَدْ يرفض، الابن أو البنت قَدْ يرفض، يرى أن هذه الأُمَّ تكلفني بأشياء كثيرة، ادرس، احفظ، راجع، ذاكر، تذهب إلى المدرسة، وتعال تعلَّم، هذه الأم قَدْ تشد عَلَى ابنها في بعض الأحيان، قَدْ تطلب منه أن يقوم بأشياء ربما هُوَ لا يريدها، هُوَ يريد اللعب ويريد أن يقضي وقته في اللعب والله، وَهِيَ تَقُولُ له: تَعَالَ هذا وقت المذاكرة، لا تلعب في وقت الدروس.

    فهُوَ ربما ينظر إلى أن هذا الأمر فيه نوع من التشدد، أنا أمِّي شديدة زيادة عَنْ اللزوم، هذه نظرته فهو طفل، أنا أمي شديدة لا تجعلني ألعب، قَدْ يقارن نفسه بأصحابه أو بشيء من هذا القبيل، عمومًا هذا فَقَطْ مثال ولله المثل الأعلى.

    الله جَلَّ وَعَلَا هُوَ خالقنا وَهُوَ أعلم بمصالحنا، ويأمرنا بعبادات معينة، هناك بعض الناس يحب التفلُّت، ليس عنده انضباط، لا يريد أن يَقُولُ له أحد: الخمر حرام، لا يريد أن يَقُولُ له أحد: الزِّنا حرام، لا يريد أن يَقُولُ له أحد: لا تسرق، لا تكذب، يريد أن يعيش حياة سبهللة، فلما تأتي هذه الأوامر الشَّرْعِيَّة أَنَّهُ افعل ولا تفعل، يراها تشددًا؛ إذن المشكلة ليست في الأوامر الشَّرْعِيَّة، المشكلة فيك أنت، المرض فيك، والخلل فيك أنت، أنت الذي لا تريد أن تنضبط، أنت تريد الحياة سبهللة، وعندما ترى أخًا أو أختًا ملتزمين بأوامر الله تَقُولُ: أنت متشدد، وَهُوَ غَيْر متشدد؛ بل هُوَ منضبط، هُوَ ملتزم بأوامر الله عَزَّ وَجَلَّ، هُوَ يسير عَلَى منهجية واضحة، هناك جدية في حياته، لَيْسَت كُلّ حياته لعبًا وسبهللة مثلما تريد، وكل شيء حلال، وكل شيء لماذا تشددون وتحرمون؟

    هذه هِيَ الإشكالية:
    عدم معرفة الإِنْسَان بمصالحه هِيَ سبب هذا الدُّعَاء وَهُوَ الطعن في الشَّرِيعَة، لكن لو عظم، نرجع إلى المعقد السابق وَهُوَ تعظيم الله وتعظيم رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لو عظم الله لعلم أن الله جَلَّ وَعَلَا لا يأمره إِلَّا بِمَا فيه مصلحته ونفعه والخير له في الدُّنْيَا والآخرة، كما أن ذَلِكَ الطفل ولله المثل الأعلى إذا أيقن في قلبه أن أمه تحبه، وأن أمه تريد له الخير، وَإِنَّمَا تأمره بترك اللعب في بعض الأحيان والدراسة إِنَّمَا هُوَ لمصلحته، وتنهاه مثلًا عَنْ أن يخرج في البرد إِلَّا وَهُوَ لابس ملابس، ووقت الأكل يأكل، ووقت الدواء يأخذ الدواء إذا هُوَ تعب.

    لماذا هذه الأوامر كلها الأم تنفذها في البيت؟ لمصلحة الولد، لمصلحة الابن؛ لأنها تريد له الخير، تريد له المستقبل الباهر الزاهر بعون الله، هكذا ينبغي أن ننظر إلى أوامر الشَّرِيعَة، ولله المثل الأعلى.

    الله يريد بنا خيرًا:
    الله يريد لنا كُلَّ نفع في الدنيا والآخرة، الله يريد لنا ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء: 27]، انظر الله يَقُولُ في الْقُرْآن، هذه آية في الْقُرْآن -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- والله يَقُولُ في سورة النساء: ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا [النساء: 27، 28].

    الله يريد أن يخفف عنا، الله يريد أن يدخلنا الجَنَّة، يريد أن ينجينا من النَّار؛ ولذلك بعث الرسل وأنزل الكتب لمصلحة الخلق، فهو أعلم بمصالحنا، يكفيك أن تعلم أن اللهَ أَعْلَمُ بمصالحك، إذا أيقنت في قلبك أن اللهَ أَعْلَمُ بِمَا ينفعك وما يضرك وَهُوَ جَلَّ وَعَلَا بلا شَكَّ أعلم؛ لأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ في سورة الملك: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14].

    إذا أيقنت أن الله لا يريد بك إِلَّا خيرًا، وإذا منعك عَنْ أمر فلمصلحتك، ولأن ذَلِكَ خيرٌ لك، وخير لمجتمعك، وخير للناس، وإذا أمرك بأمر فهو لمصلحتك ولنفعك أنت.

    الله لا يستفيد من عبادتنا شيئًا أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام:
    «يا عبادي أنك لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني»، لا ينفع الله عبادتنا، لكن النفع يعود عَلَيْنا نحن، والضرر إن عصينا الله يعود عَلَيْنا نحن، فبهذه النفسية نتمكن من مجابهة أصحاب الشبهات الَّذِينَ يطعنون في دين الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى صباح مساء، هذا تعليق حول السؤال الذي ورد في آخر لقاء، وإذا كان هناك أي إشكال مثلما ذكرنا نكتب الأسئلة في خانة التعليقات.

    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    المعقد الخَامِس
    سلوك الجادة الموصلة إليه
    لكل مطلوب طريق يوصل إليه، فمن سلك جادة مطلوبه أوقفته عَلَيْهِ، ومن عدل عنها لم يظفر بمطلوبه، وإن للعلم طريقًا من أخطأها ضلَّ، ولم ينل المقصود، وربما أصاب فائدة قليلة مع تعبٍ كثيرٍ.


    يَقُولُ الزرنوجي رَحِمَهُ اللهُ في كتابه (تعليم المتعلم):
    وكل من أخطأ الطريق ضل، ولا ينال المقصود، قل أو جل.


    وَقَالَ ابْن القيم في كِتَاب (الفوائد):
    الْجَهْل بالطريق وآفاتها والمقصود، يوجب التعب الكثير مع الفائدة القليلة.


    وَقَدْ ذكر هذا الطريق بلفظ جامع مانع محمد مرتضى بْن مُحَمَّد الزبيدي صاحب (تاج العروس) في منظومةٍ له تسمى (ألفية السند) يَقُولُ فيها:
    فما حوى الغاية في ألف سنة
    شخص فخذ من كُلِّ فنٍّ أحسنه
    بحفظ متنٍ جامع لراجح
    تأخذه عَلَى مفيد ناصح



    فطريق العلم وجادته مبنية عَلَى أمرين، من أخذ بهما كان معظمًا للعلم؛ لأنه يطلبه من حَيْثُ يمكن الوصول إليه:
    فَأَمَّا الأمر اَلْأَوَّلُ: فحفظ متن جامع للراجح، فَلَا بُدَّ من حفظ، ومن ظن أَنَّهُ ينال العلم بلا حفظ فإنه يطلب محالًا، والمحفوظ المعول عَلَيْهِ هُوَ المتن الجامع للراجح؛ أي: المعتمد عند أهل الفن، فلا ينتفع طالب يحفظ المغمور في فن، ويترك مشهوره، كما يحفظ (ألفية الآثاري) في النحو ويترك (ألفية ابْن مالك).


    وَأَمَّا الأمر الثَّانِي: فأخذه عَلَى مفيد ناصح، فتفزع إلى شيخ تتفهم عنه معانيه، يتصف بهذين الوصفين.


    وأولهما: الإفادة؛ وَهِيَ الأهلية في العلم، فيكون ممن عرف.


    هذه مواصفات الشَّيْخ؛ لأنه أذكر جاء السؤال من قبل: هل كُلّ أحد نأخذ عنه العلم؟ طبعًا لا، لَيْسَ كُلّ أحد تأخذ عنه العلم، كما أنك عندما تكون مريضًا لا تختار أي طبيب وتقول له: تفضل افتح بطني وشقها واعمل لي عملية، وأنت غَيْر واثق بخبرته، بل أنت تبحث عن أفضل طبيب، لا تسلم جسدك لأي أحد، أَيْضًا روحك لا تسلمها لأي أحد، قلبك لا تسلمه لأي أحد، لَا بُدَّ أن تختار الشَّيْخ الذي فيه المواصفات الَّتِي ذكرها الشَّيْخ العصيمي وَفَّقَهُ اللهُ هنا.

    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    ممن عرف طلب العلم وتلقيه حَتَّى أدرك، فصارت له ملكة قوية فيه، والأصل في هذا ما أخرجه أبو داود في (سننه) قَالَ: حدثنا زهير بْن حرب، وعثمان بْن أبي شيبة، قالا: حدثنا جرير عَن الأعمش عَنْ عبدالله بْن عبدالله، عَنْ سعيد بْن جبير، عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تسمعون ويُسمع منكم، ويُسمع ممن يسمع منكم»، وإسناده قوي.


    وَالعِبْرَة بعموم الْخطابِ لا بخصوص المخاطب، فلا يزال من معالم العلم في هذه الأُمَّة أن يأخذه الخالف عَن السالف.


    (الخالف)؛ أي: المتأخر، (عَنْ السالف)؛ أي: السابق في الزمن، فلا يزال من عالم العلم في هذه الأُمَّة أن يأخذها الخالف عَن السالف، يَعْنِي جيلًا عَنْ جيل.


    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    أَمَّا الوصف الثَّانِي: فهو النصيحة، وتجمع معنيين اثنين:
    كُلّ الْكَلَام هذا في مواصفات الشَّيْخ الذي ندرس عَلَيْهِ.

    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    أَحَدُهُمَا: صلاحية الشَّيْخ للاقتداء بِهِ، والاهتداء بهديه ودله وسمته.

    طبعًا أنا أقرأ صفحة 24 في كِتَاب الشرح، إذا كان أحد يقرأ من الْكِتَاب المتن فنحن نتحدث في المعقد الخَامِس وَبِالتَّالِي صفحة 47 في كِتَاب المتن، أَمَّا في كِتَاب الشرح 42، طبعًا هُوَ نفسه، المتن موجود في كِتَاب الشرح لكن مع إضافات الذي هُوَ شرح للمتن، نرجع مرة ثانية إلى كلام الشَّيْخ وَفَّقَهُ اللهُ.

    قَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أَمَّا الوصف الثَّانِي: فهو النصيحة، وتجمع معنيين اثنين: أَحَدُهُمَا: صلاحية الشَّيْخ للاقتداء بِهِ، والاهتداء بهديه ودله وسمته) يَعْنِي باختصار يكون قدوة، الشَّيْخ يكون قدوة أصلًا، يصلح أن يُقتدى بِهِ.

    قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
    وَالآَخَر: معرفته بطرائق التعليم، بحيث يحين تعليم المتعلم، ويعرف ما يصح له وما يضره وفق التربية العلمية التي ذكرها الشاطبي في (الموافقات).


    خلاصة هذا المعقد:
    أن الشَّيْخ وَفَّقَهُ اللهُ يَقُولُ لك: يا طالب العلم، أنت تريد أن تصل إلى هدف معين فاسلك الطريق الصحيح الذي يوصلك إلى هدفك بلا عناء ولا تعب ولا مشقة، وَحَتَّى تسلك هذا الطريق وتسير فيه بعون الله لَا بُدَّ لك من شيخ يوجهك، لَا بُدَّ لك من شخص ذي أمانة، وذي علم وذي خلق وذي دين، يرشدك ويدلك، أين تذهب؟ ماذا تقرأ؟ ماذا تحفظ؟ ماذا تدرس؟ أي كِتَاب تبدأ بِهِ؟ ماذا تدرس بعد ذَلِكَ؟ هل تقرأ الْكِتَاب بنفسك أم تحضر فيه درسًا؟ كُل هذه الأسئلة تحتاج إلى شخص تستشيره، ما هِيَ مواصفات هذا الشخص الذي تستشيره؟

    ذكرها لك الشَّيْخ:
    أولها: الإفادة، أن يكون صاحب علم أصلًا، فاقد الشيء لا يعطيه، إذا كان هُوَ أصلًا خاويًا من العلم كيف يوجهك إلى أن تقرأ أو تحفظ أو تعمل أو تدرس أو تصنع أو تذاكر أو تحضر درسًا معينًا، كيف سيوجهك وَهُوَ أصلًا لا يعرف ما هِيَ الحكاية؟ ما يعرف البداية من أين والنهاية من أين؟! لَيْسَ له أهلية كما يسميها أهل العلم، لَيْسَ لديه ملكة في العلم، لم يتمكن في العلم، لم يدرس، هُوَ أصلًا قَدْ يكون غَيْر مؤهل، بعبارة أخرى غَيْر مؤهل للتدريس، ليس لديه الأهلية العلمية، يَعْنِي نتكلم عَن العلم الآن، لم نبدأ بعد في الأخلاق والمواصفات، من ناحية أنه لَا بُدَّ أن يكون قويًّا، عنده علم، صاحب علم، درس وتلقى العلم عَن الشيوخ حَتَّى أصبحت له ملكة، حَتَّى أصبح متمكنًا بعون الله من هذه العلوم الَّتِي يدرسها.

    فَهذِه الصفة الأُوْلَى: الإفادة هِيَ ما يعرف بالأهلية في العلم، يَعْنِي التمكن من العلم، والبروز فيه، يَعْنِي أن يكون كما ذكرنا قَدْ تلقى العلم وأخذه حَتَّى أصبحت له مَلَكة قوية في العلم.

    الصفة الثَّانِيَةُ من صفات الشَّيْخ: أن يكون ذا نصيحة، كثيرًا ما يحتاج طالب العلم إلى من ينصحه -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- كثيرًا ما يحتاج، يَعْنِي أول شيء قَدْ ترد عَلَيْهِ أسئلة، وأحيانًا يقرأ شيئًا في أحد الْكُتُب ولا يكون واضحًا، أحيانًا تأتي عَلَيْهِ مَسْأَلَة، أحيانًا يُسأل عَنْ شيء فيحتاج، دائمًا يحتاج إلى شخص يكون كالمرجع، يكون كالمرجع لطالب العلم يوجهه، يرشده، ينصحه، من ثمَّ لَا بُدَّ أن يكون ناصحًا، لَا بُدَّ أن يكون عنده صفة النصيحة.

    والنصيحة هِيَ من دين الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
    بل سماها النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدِّين كله، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدِّين النصيحة، قُلْنَا لمن؟ قَالَ: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»، فَلَا بُدَّ أن يكون الشَّيْخ عنده أمانة في نصحه، في نصحه لهذا الطالب، لطلب العلم.

    إذًا الوصف الثَّانِي: هُوَ النصيحة وتجمع معنيين اثنين، يَعْنِي النصيحة تندرج تحتها نقطتان، أو يندرج تحتها أمران:
    الأمر الْأَوَّلُ: صلاحية الشَّيْخ للاقتداء بِهِ، والاهتداء بهديه ودله وسمته.
    هل يَجُوز أن تدرس عَلَى شيخ لا يصلي في المسجد؟!
    أي شيخ هذا الذي لا يصلي بالمسجد؟!

    إذا كان هُوَ غَيْر قائم بالشريعة كيف يريد أن يعلم الآخرين ويقول لهم: تعالوا التزموا بأوامر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وتعلموا العلم الشرعي؟

    إذًا في مواصفات ظاهرة، نحن -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- مأمورون أن نأخذ الناس بالظاهر، هذه قاعدة عندنا في الشَّرِيعَة، والبواطن نكلها إلى الله، نكل السرائر إلى الله تَعَالَى، فأنا عندما أرى الشَّيْخ بعيني أراه لا يصلي في المسجد مَثَلًا، أنا أعطي مثالًا؛ لأن الشيوخ طبعًا كما ذكرنا من قبل ينقسمون، الْعُلَمَاء ينقسمون إلى: علماء حق، وعلماء باطل، مثلما أنت إذا ذهبت إلى طبيب، هناك طبيب ماهر، وهناك طبيب غير متمكن في الطب، فلن تسلمه جسدك، نفس الشيء هنا، روحك أو قلبك لا تسلمه لمن لا تثق بدينه وخلقه كما ذكرنا.

    فأنت عندما ترى ظاهر هذا الشَّيْخ الذي يظهر لك من صفاته، من كلامه، من أسلوبه، من صلاته، من عباداته، من معاملاته مع الناس، يظهر لك الخير، إذن اطمئن الحَمْدُ للهِ.

    لكن مَتَى ما وجد أَنَّهُ لا يصلح للاقتداء بِهِ، لَيْسَ أهلًا ليكون معلمًا، ابتعد عنه، وابحث عَنْ شيخ آخر، ما وقفت عَلَيْهِ، هذه النقطة الأُوْلَى الَّتِي هِيَ صلاحية الشَّيْخ للاقتداء بِهِ والاهتداء بهديه ودله وسمته.

    وَالآخَر معرفته بطرائق التعليم:
    لأن كُلَّ واحد من طلب العلم له ما يناسبه، هُوَ لَا بُدَّ أن يكون هذا الطالب الأنسب له أني أوجهه إلى حفظ كِتَاب معين، أو متن معين، هذا الطالب الأفضل له أني أوجهه إلى أن يقرأ في العقيدة، أَنَّهُ يقرأ في السلوك، أني أقول له: أن يحضر الدَّرْس الفلاني، عَلَى حسب مستوى الطالب، عَلَى حسب اهتمامات الطالب، يَعْنِي ميوله، ورغبته في أي فن من الفنون، أشياء كثيرة، من ثم كُلّ طالب من طلاب الشَّيْخ ينبغي أن يكون له معاملة خاصة بحسب ما يحتاج إليه ذَلِكَ الطالب.

    فإذا كان الشَّيْخ ما عنده القدرة أو المعرفة بطرائق التعليم سيصبح ضارًّا، يعطي الطالب المبتدئ أشياء يأخذها الطالب المتقدم، من ثمَّ يحصل ارتباط عند الطالب، ما يفهم المعلومات، هذه معلومات المتقدمين كيف يعطيها إلى الطالب المبتدئ؟

    والعكس صحيح: يأتي عند طالب متقدم يعطيه معلومات المبتدئين، يشعر الطالب المتقدم أن هذه المعلومات أعرفها لماذا يكررها الشَّيْخ؟ من ثم هُوَ يعطي كلًّا بحسبه، ويوجه كلًّا بِمَا يصلح له.

    أحيانًا يكون طالب مناسبًا أن يبدأ يُعلم غيره، فينصحه الشَّيْخ يَقُولُ له: ابدأ مَثَلًا حلقة قرآن، علم فيها بعض الطلاب، انصحهم، أفِد الآخرين حَتَّى يرسخ العلم ويثبت في قلبك، انقل ما تتعلمه عني إلى أهلك، إلى أقاربك، إلى مسجدك، إلى جيرانك، أشياء كثيرة تدخل بالموضوع.

    من هنا جاءت أهمية اختيار الشَّيْخ:
    والعناية باختيار الشَّيْخ الذي فيه مواصفات معينة ذكرها الشَّيْخ العصيمي وَفَّقَهُ اللهُ في هذا المعقد المهم من معاقد تعظيم العلم؛ لأنه من أخذ بهذا المعقد فإنه يصير عَلَى بصيرة بعون الله، هناك من يوجهه، حَتَّى لو هُوَ أخطأ يرده عَلَى الطريق الصحيح الذي يوصل بعون الله إلى مقصوده، وَهُوَ بلوغ الغاية في طلب العلم والتمكن منه بعون الله إذًا وتوفيقه.

    هناك نقطة أحب أن أذكرها فِيمَا يتعلق بموضوع الشبهات:
    ترى موضوع الشبهات والسؤال الذي طرح المرة الماضية هذا موضوع يستحق أن يُخصَّص له لقاء خاص، لكن نحن نحاول أن نجيب عنه قدر المستطاع.

    الشبهات -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- تكثر في قلب الْعَبْد إذا فتح ذهنه لأهل الباطل، فأنت يا طالب العلم وأنتِ يا طالبة العلم أغلقوا آذانكم، صموا آذانكم عَنْ سماع الباطل.

    المشكلة نحن اليوم نفتح في السوشيل ميديا يطلع لنا كُلُّ من هبَّ ودبَّ، ونسمع لهم، ونقول: إي فعلًا، ممكن كلامه صح.

    ينبغي أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام:
    أن نختار من نسمع لهم حَتَّى لا يؤثروا فينا سلبًا ولا يلقوا في قلوبنا شبهات، أو شهوات من حَيْثُ لا نشعر، يَعْنِي قبل قليل نحن كنا نتكلم عن مواصفات الشَّيْخ الذي تأخذ عنه العلم، وليس كُلّ أحد تأخذ عنه العلم، هذا المعقد الذي نتكلم فيه اليوم، هذا من أكبر.. الذي ما ينتبه إلى هذا المعقد سيصاب بالشبهات؛ لأنه أصبح يسمع لكل أحد، كُلّ تويتر صائرون مشايخ، كُلّ الذي في الانستجرام مشايخ، كُلّ الذي في الفيس بوك يطلعون مشهورين غَيْر مشهورين، علماء غَيْر علماء، كلهم مشايخ وما عنده مشكلة يستقبل من كُلِّ أحد.

    إذن ما دمت أنت تستقبل من كُلِّ أحد لماذا تسأل وتقول:
    الشبهات تجول وتروح وتذهب في قلبي، وأنا غَيْر قادر على أن أطمئن في عبادتي ولا أخشع في صلاتي؟

    (فأنت الذي فتحتها، فتحتها بحري) كما يَقُولُ إخواننا المصريون، أنت فتحتها عَلَى الكل، والكل يرمي شبهات ويرمي شهوات، لا، يجب عليك أن تختار، صم أذنك عَنْ سماع الباطل، وعن سماع أهل الباطل، لا تسمع لغير من يرسخ في قلبك الإيمان واليقين والعقيدة الصحيحة، ومحبة الله جل جلاله ومحبة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا الذي تستحق أن تسمع له، هذا الذي يستحق أن تعطيه أذنك ووقتك وتفتح له قلبك.

    أحيانًا بعض الْكَلَام تغلق عَلَيْهِ قلبك، أنت من البداية ريح نفسك، تعرف أن هذا الرَّجُل مبطل أغلق قلبك، أغلق أذنك لا تسمح لهذِه الشبهات أن تؤثر فيك.

    لكن لما تأتي مَثَلًا تقرأ قرآنًا، اقرأ بقلب مفتوح، قل: يا رب علمني، يا رب فهمني، يا رب ثبت الْقُرْآن في قلبي، فأنت تقرأ بصدر منشرح، ترى حَتَّى قراءة الْقُرْآن وَهِيَ عِبَادَة معروفة تختلف، هناك شخص يقرأ الْقُرْآن إيمانه يرتفع ارتفاعًا عظيمًا، وهناك شخص يقرأ الْقُرْآن ختمة وختمتين وعشرة ما يتأثر، ما الفرق؟

    هذا الْأَوَّلُ قرأ بصدر منشرح، صدر متقبل لكلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو يريد أن يدخل كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهذه المعاني المذكورة في كلام الله جَلَّ وَعَلَا يريد أن تستقر في قلبه، يريد أن تستقر معاني الْقُرْآن.

    نعيد هذه الجملة ونكررها لأهميتها:
    هُوَ فاتح قلبه للخير، ومن ثم تستقر معاني الْقُرْآن في قلبه، تؤثر فيه، تغيره، تحسنه، بينما الآخر هُوَ يقرأ وهو أصلًا يَعْنِي عادي كأنه يقرأ كلام أي أحد، لا، الْقُرْآن غَيْر، الْقُرْآن كلام الله، وهذا درس عملي، احضر الدَّرْس وأنت قلبك منشرح مرتاح مطمئن، تريد أن تستقبل هذه المعاني الَّتِي ستذكر في الدَّرْس بصدر رحب، بصدر منشرح مقبل عَلَى هذا الْكَلَام.

    والعكس بالعكس: يَعْنِي تسمع كلامًا باطلًا، قفل، حَتَّى أذنك قفلها، يَعْنِي لا تسمع لهم، لَيْسَ ضروريًّا كُلّ مقطع تفتحه، لَيْسَ ضروريًّا كُلّ رسالة وتغريدة تنشر في جريدة تقرؤها، قَدْ تضرك وَقَدْ تؤثر فيك، قَدْ تجعلك تبعد عَن الْقُرْآن، قَدْ تجعل علاقتك بالله ضعيفة، فتختار من تسمع لهم، ومن تأخذ عنهم، هذا يفيدك كثيرًا في العلم، ويفيدك في تثبت الإيمان بعون الله، وفي طرد الشبهات والشهوات.

    وبالنسبة إلى موضوع الشبهات الذي تكلمنا عنه:
    هناك حديث اليوم أرسلته أنا مهم جدًّا في هذا الموضوع، الآن أعيد إرساله في القناة مرة أخرى إِنْ شَاءَ اللهُ، هذا الحَدِيْث نقرؤه مع بعض ونختم الدَّرْس.

    عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «تَلَا رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليهِ وسَلم: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [آل عمران: 7]، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليهِ وسَلم: إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فأولئك الَّذِينَ سَمَّى الله»، يَعْنِي في الآية «فأولئك الَّذِينَ سَمَّى الله فَاحْذَرُوهُمْ» ، النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «فَاحْذَرُوهُمْ »، فاليوم كلامنا عندما نَقُول: احذروا أهل الباطل، لا تستمعوا لهم، ترى هذه النصيحة ما هِيَ من عندي، هذا توجيه نبوي كريم من نَبِيِّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخاطبًا عَائِشَة وَالأُمَّة من بعدها: «رأيت الَّذِينَ يتبعون ما تشابه منه فأولئك الَّذِينَ سَمَّى الله فَاحْذَرُوهُمْ» ، لماذا؟ طبعًا الآية واضحة، الآيات هذه الَّتِي في سورة آل عمران واضحة، أن الْقُرْآن فيه ﴿ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران: 7]، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران: 7].

    لاحظوا هنا فضل أهل العلم:
    أنهم هم الَّذِينَ بعون الله يطردون الشبهات عَنْ أنفسهم وعن غيرهم من الناس؛ ولذا قَالَ الله: ﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران: 7]، فهم يؤمنون بالمحكم والمتشابه من الْقُرْآن، ويفهمون المتشابه وفقًا للمحكم، المتشابه يردون الآيات المتشابهة إلى الآيات المحكمة حَتَّى يفهموها، حَتَّى يفسروها بالآيات المحكمة، وَمن ثمَّ يصبح الجميع لديهم واضحًا، الآيات المحكمة والآيات المتشابهة، أَمَّا أهل الباطل يأخذون بعض الآيات المتشابهة في الْقُرْآن وَالَّتِي تحتاج إلى أن ترجع إلى الآيات المحكمة حَتَّى تفهمها، هَؤُلَاءِ لا يفعلون هذا؛ أن يرجعوا إلى الآيات المحكمة حَتَّى يفهموا الآيات المتشابهة، بل يأخذون الآيات المتشابهة ويصنعون منها بحرًا من الشبهات يلقونها في قلوبهم -وَالعِيَاذُ باللهِ- وفي قلوب الآخرين.

    قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونختم بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فأولئك الَّذِينَ سَمَّى الله فَاحْذَرُوهُمْ» .
    والله تَعَالَى أعلم
    وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ
    وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •