المجلس الأول من مجالس شرح كتاب تعظيم العلم للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي
د. خالد بن حسن المالكي
المجلس الأول
من مجالس شرح كتاب تعظيم العلم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، اللَّهُمَّ صل وسلم وبارك عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ، أَمَّا بعد:
اللَّهُمَّ لا علم لنا إِلَّا ما علمتنا، إنك أنت السميع العليم، اللَّهُمَّ علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بِمَا علمتنا، وزدنا علمًا، أَمَّا بعد:
فمرحبًا بكم أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام في هذه السلسلة بعون الله من الدروس الَّتِي نبدأها بكتاب/ (تعظيم العلم) للشيخ/ صالح بْن عبدالله العصيمي وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى.
وَقَدْ شرح الشَّيْخ الْكِتَاب في كِتَاب آخر أسماه (شرح تعظيم العلم)، والكتابان كلاهما موجود في القناة، الْكِتَاب الْأَوَّلُ المتن، والكتاب الآخر هُوَ كِتَاب (شرح تعظيم العلم) شرح المتن، وكلا الكتابين للشيخ صالح بْنعبدالله العصيمي وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى.
[المتن]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحَمْدُ للهِ الذي صيَّر الدِّين مراتب ودرجات، وجعل للعلم بِهِ أصولًا ومهمات، وَأَشْهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حقًّا، وَأَشْهَدُ أَن محمدًا عبده ورسوله صدقًا، اللَّهُمَّ صل عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آل مُحَمَّد، كما صليت عَلَى إبراهيم وعَلَى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللَّهُمَّ بارك عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آل مُحَمَّد كما باركت عَلَى إبراهيم وعَلَى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، أَمَّا بعد:
فحدثني جماعة من الشيوخ، وَهُوَ أول حديث سمعته منهم بإسناد كلٍّإلى سفيان بْن عيينة، عَنْ عمرو بْن دينار، عَنْ أبي قابوس مولى عبدالله بْن عمرو، عَنْ عبدالله بْن عمرو بْن العاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الْأَرْض يرحمْكم من في السماء»، ومن آكد الرحمة رحمة المعلمين بالمتعلمين في تلقينهم أحكام الدِّين، وترقيتهم في منازل اليقين.
ومن طرائق رحمتهم: إيقافهم عَلَى مهمات العلم بإقراء أصول المتون، وتبيين مقاصدها الكلية، ومعانيها الإجمالية، ليستفتح بذلك المبتدئون تلقيهم، ويجد فيه المتوسطون ما يذكرهم، ويطلع منه المنتهون على تحقيق مَسَائِل العلم.
[الشرح]
وهذا الْكِتَاب -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- جاء شرحه في برنامج (مهمات العلم)؛ حَيْثُ إن الشيخ وَفَّقَهُ اللهُ في كُلِّ عام يقوم بتقديم برنامج (مهمات العلم) في مدينة النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسجد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كانت النسخة الَّتِي معنا من برنامج (مهمات العلم) في سنته السادسة، سنة ستٍّ وثلاثين بعد الأربعمائة والألف، وَهُوَ كِتَاب (تعظيم العلم) كما ذكرنا لمصنفه صالح بْن عبدالله بْن حمد العصيمي.
[المتن]
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى.
[الشرح]
الآن بدأنا في المتن.
[المتن]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحَمْدُ للهِ ما عظَّمه مُعظِّم، وسار إليه راغبٌ مُتعلِّم، وَأَشْهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له، شهادةً نبرأ بها من شرك الإشراك، فتوجب لنا النجاة من نار الهلاك، وَأَشْهَدُ أَن محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسله ربُّه بالهدى ودين الحق ليظهره عَلَى الدِّين كله ولو كره المشركون، فبلَّغ رسالته وأدَّاها، وأسلم أمانته وأبداها.
انتصبت بدعوته أظهر الحجج، واندفعت ببيناته الشبهات واللجج، فورثنا المحجة البيضاء، وَالسُّنَّة الغراء، لا يتيه فِيها ملتمس، ولا يُرد عنها مقتبس، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ عدد من تعلَّم وعلَّم.
[الشرح]
وهذه المقدمة -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- نستفيد منها:
أَن من تعلَّم العلم الشرعي فإنه يمكنه ذَلِكَ العلم من رَدِّ الشُّبُهات، فَإِنَّ من تسلَّح بالعلم كان العلم معه كالذخيرة أو كالسلاح يردُّ بِهِ شُبَه أهل الباطل.
[المتن]
أَمَّا بعد: فلم يزل العلم إرثًا جليلًا، تتعاقب عليه الأماثل جيلًا جيلًا، لَيْسَ لطلاب المعالي همٌّ سواه، ولا رغبة لهم في مطلب عداه، وكيف لا؟! وبه تنال سعادة الدارين وطيب العيشين، وشرف الوجود، ونور الأغوار والنجود، حلية الأكابر، ونزهة النواضر، من مال إليه نعم، ومن جال بِهِ غنم، ومن انقاد له سلم، لو كان سلعة تُباع لبُذِلت فيه الأموال العظام، أو صعد في السماء لسمت إليه نفوس الكِرام.
هُوَ من المتاجر أربحها، وفي المفاخر أشرفها، أكرم المآثر مآثره، وأحمد الموارد موارده، فالسعيد من حضَّ نفسه عليه، وحثَّ ركاب روحه إليه، والشقي من زهِد فيه أو زهَّد، وأبعد عنه أو بعد، أنفه بأريج العلم مزكوم، وختم القفا هذا عبدٌ محروم.
[الشرح]
يَعْنِي واضح من خلال المقدمة أَن الشَّيْخ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى يرغب في تحفيز قارئ الْكِتَاب، والمطلع عَلَى هذا الشرح عَلَى فضل العلم ومكانته، وأنه هُوَ أنفع شيء للإنسان، بِهِ تُنال سعادة الدُّنْيَا والآخرة.
[المتن]
والعلم يدخل قلب كُلِّ موفق
من غَيْر بوَّاب ولا استئذان
ويرده المحروم من خذلانه
لا تشقنا اللَّهُمَّ بالحرمان
وإن مِمَّا يملأ النفس سرورًا، ويشرح الصدر ويمده نورًا، إقبال الخلق عَلَى مقاعد التعليم، وتلمُّسهم صراطه المستقيم، وأدل دليل وأصدقه تكاثُر الدروس العلمية، وتوالي الدورات التعليمية، حلاوة في قلوب المؤمنين، وشجن في حلوق الكفرة والمنافقين، فالدروس معقودة، والركب معكوفة، والفوائد شارقة، والنفوس تائقة، الأشياخ ينتثلون درر العلم، والتلامذة ينظمون عقده.
وإن من الإحسان إلى هذه الجموع الصاعدة، والأجيال الواعدة، إرشادها إلى سر حيازة العلم الذي يظهرها بمأمورها، ويبلغها مأمنها رحمةً بهم من الضياع في صحراء الآراء، وظلماء الأهواء، وإعمالًا لهذا الأصل جمل الحَدِيْث أَيُّهَا المؤمنون عَنْ تعظيم العلم، فَإِنَّ حظ الْعَبْد من العلم موقوف عَلَى حظ قلبه من تعظيمه وإجلاله.
[الشرح]
طبعًا هنا هذه الجملة مهمة جدًّا، ربما تكون هذه الجملة هِيَ خلاصة الْكِتَاب كاملًا، قَالَ الشَّيْخ وَفَّقَهُ اللهُ: (وإعمالًا لهذا الأصل جمل الحَدِيْث أَيُّهَا المؤمنون عَنْ تعظيم العلم) ثُمَّ قَالَ -ركزوا معي في هذه الجملة-: (فَإِنَّ حظ الْعَبْد من العلم موقوف عَلَى حظ قلبه من تعظيمه وإجلاله).
[المتن]
فمن امتلأ قلبه بتعظيم العلم وإجلاله صلح أَن يكون محلًّا له، وبقدر نقصان هيبة العلم في القلب ينقص حظ الْعَبْد منه؛ حَتَّى يكون من القلوب قلب لَيْسَ فيه شيء من العلم.
[الشرح]
إذًا من هذه الجملة نعرف:
أَن من كان عنده مزيد علم فَإِنَّ في قلبه مزيد تعظيم للعلم، ومن كان قلبه خاويًا من العلم فقد خوى قلبه من تعظيم العلم قبل ذَلِكَ، فَالْمَسْأَلَة كلها مدارها عَلَى تعظيم العلم، مَن عظَّم العلم نال منه حظًّا وافرًا، ومن لم يُعظِّم العلم فلا يسأل: لماذا كان حظي منه قليلًا؟ لأنه لم يُعظِّم العلم في قلبه.
[المتن]
فمن عظم العلم لاحت أنواره عليه، ووفدت رسل فنونه إليه، ولم يكن لهمته غاية إِلَّا تلقيه، ولا لنفسه لذة إِلَّا الفكر فيه، وكان أبو مُحَمَّد الدارمي الحافظ لمح هذا الْمَعْنَى، فختم (كِتَاب العلم) من سننه المسماة بـــ (المسند الجامع) بــباب في إعظام العلم.
[الشرح]
الشَّيْخ يستشهد بفعل أبي مُحَمَّد الدارمي رَحِمَهُ اللهُ حين ختم كِتَاب العلم من سننه المسماة بـــ (المسند الجامع) بباب في إعظام العلم، وهذا الأمر -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- لا ينطبق فَقَطْ عَلَى العلم، كُلُّ عِبَادَة يعظمها الْعَبْد ينال منها حظًّا وافرًا، من عظَّم الصَّلَاة نال من الصَّلَاة حظًّا وافرًا، من عظَّم الصوم نال من الصوم أجرًا عظيمًا كبيرًا، وهكذا.
كُلُّ عِبَادَة يزداد انتفاع الْعَبْد بها عَلَى قدر تعظيمه لها:
والعلم عِبَادَة من أشرف العبادات، وأجلها؛ لأنه ينير الطريق إلى الْإِنْسَان، وبه يعرف الْإِنْسَان الخير من الشر، والحق من الباطل، والصواب من الخطأ، وَأَمَّا من لم يكن لديه علم فإنه يتخبط في الشهوات، ويتلاعب بِهِ أهل الباطل، ويتلاعب بِهِ الشيطان -وَالعِيَاذ باللهِ- ويغرق ربما في وحل الشهوات والشبهات؛ لأنه لَيْسَ متسلحًا بالعلم.
فهذا الْكِتَاب أهميته تأتي من موضوعه:
وَهُوَ أَنَّهُ يخبرنا عَنْ قيمة تعظيم العلم لمن أراد طلب العلم، وهكذا -كَمَا ذَكَرْت لكم- كُلّ عِبَادَة ينال الْعَبْد منها الحظ الأوفر إذا امتلأ قلبه بتعظيم هذه الْعِبَادَة.
وانظر لنفسك مثلًا إذا تجهزت للصلاة وتوضأت وأسبغت الوضوء، ثُمَّ خرجت من البيت مبكرًا إلى الصَّلَاة، وقلبك مملوء بتعظيم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وأنك ستناجي الله وهكذا، ففي قلبك تعظيم للصلاة، فإنك تجد من الخشوع والخضوع واللذة في هذه الصَّلَاة ما لا تجده لو لم يكن في قلبك ذَلِكَ التعظيم.
والعلم ينطبق عليه هذا الْمِثَال:
فَإِنَّ الْعَبْد الذي يعظم العلم ويُجِلُّه يرزقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منه حظًّا وافرًا، وَسَيَأْتِي مَعْنَاهُ معاقد ذكرها الْمُصَنِّف الشَّيْخ العصيمي وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى تساعد طالب العلم عَلَى تعظيم العلم، وتدله عَلَى الطريق الَّتِي بها يكون معظمًا للعلم، وهذا هُوَ موضوع هذا الْكِتَاب.
[المتن]
وأعون شيء عَلَى الوصول إلى إعظام العلم وإجلاله معرفة معاقد تعظيمه؛ وَهِيَ الأصول الجامعة المحققة لعظمة العلم في القلب، من أخذ بها كان معظمًا للعلم، مُجِلًّا له، ومَن ضيَّعها فلنفسه أضاع، ولهواه أطاع، فلا يلومَنَّ إن فتر عنه إِلَّا نفسه (يداك أوكتا، وفوك نفخ) ومن لا يكرم العلم لا يكرمه العلم.
[الشرح]
لاحظوا في بعض الجمل في الْكِتَاب من جمال هذا الْكِتَاب أَن الجمل المهمة الَّتِي تعتبر كالخلاصة لهذا الْكِتَاب أنا أتحدث عَنْ كِتَاب الشرح الآن كِتَاب (شرح تعظيم العلم) للعصيمي الذي أرسلته لكم في القناة، ونحن الآن نقرأ في الصفحة رقم 9.
من جمال الْكِتَاب:
إن الْكُتُب المهمة الَّتِي هِيَ محور الْكِتَاب، ومدار حديث الْكِتَاب، الَّتِي نستطيع أَن نَقُول: إنها خلاصة الْكِتَاب، وأهم ما ذكر في الْكِتَاب محبرة، يَعْنِي: مغمقة، من ثمَّ يركز عليها القارئ ويركز عليها طالب العلم، من هذه الجمل قول الْمُصَنِّف وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى: (ومن لا يكرم العلم لا يكرمه العلم).
[المتن]
وسنأتي بالقول بِإِذْنِ اللهِ عَلَى عشرين معقدًا يعظم بها العلم من غَيْر بسطٍ لمباحثها، فَإِنَّ المقام لا يحتمل، والإتيان عَلَى غاية كُلّ معقد يحتاج إلى زمنٍ مديد، والمراد هنا التبصرة والتذكير (وقليل يبقى فينفع، خيرٌ من كثير يُلقى فيرفع).
[الشرح]
وهذه قاعدة -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام-:
دائمًا النفس قَدْ تميل في بعض الأحيان إلى التطويل، ولكن التطويل قَدْ يضر بالسامع؛ لِأَنَّ الْكَلَام قَدْ يُنْسي بعضُه بعضًا، لكن إذا رُزِق الْإِنْسَان مهارة تلخيص العبارات وتلخيص الْكَلَام والإتيان عَلَى صلب الموضوع بأقل عبارة، فَإِنَّ ذَلِكَ رزق من الله يؤتيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من يشاء، وهذا هُوَ المطلوب عند التعليم ألا يكثر الْإِنْسَان طالب العلم بحيث يتشتت، وَإِنَّمَا يبدأ طالب العلم بِالتَّدَرُّجِ، ويهتم بأصول العلم، وسيمرُّ معنا في معاقد تعظيم العلم أَن الْإِنْسَان يهتم بأصول العلم؛ لِأَنَّ العلم بحر، العلم واسع، والإنسان لو أفنى عمره كله في طلب العلم لم يدرك آخره، فعَلَى هذا ينبغي له أَن يعرف طريق العلم.
الكثير من الناس يرغبون في أَن يطلبوا العلم:
لكنهم يبذلون أعوامًا وسنين دون أَن يحصلوا منه حظًّا وافرًا.
ما السَّبَب؟
لعله يكون أحد الأسباب: عدم معرفتهم بالطريق الموصل إلى بلوغ الغاية في العلم، فهذا الْكِتَاب أحببنا أَن نبدأ بِهِ حَتَّى يدلنا عَلَى الطريق، فلا نتشتت ولا نتخبَّط، ولا نُضيِّع الأعمار والسنين هكذا دون كبير فائدة، فكانت البداية مع هذا الْكِتَاب النافع المفيد.
[المتن]
فخذ من هذه المعاقد بالنصيب الأكبر تنل الحظ الأوفر من رياض الفنون، وحدائق العلوم، وَإِيَّاكُمْ والإخلاد إلى مقالة قوم حُجبت قُلوبهم، وضعفت نُفوسهم، فزعموا أَن هذه الأحوال غلو وتنطُّع وتشدُّد غَيْر مقنع، فقد ضُرب بينهم وبينها بسور له باب باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قِبَله العذاب.
[الشرح]
وكلام الشَّيْخ هنا وَفَّقَهُ اللهُ يحتمل أحد أمرين:
1- إِمَّا أَنَّهُ فعلًا هناك بعض الناس قالوا للشيخ أو كتبوا أو سَمِعَ الشَّيْخ أنهم يقولون: إن هذه الأمور المذكورة في هذا الْكِتَاب فيها تنطُّع وفيها غلو وفيها تعظيم للعلم فوق الحد المطلوب وا وا.. إلى آخره.
2- أو أَن الشَّيْخ يرد عَلَى شُبَهٍ قَدْ تُلقى عَلَى كتابه، فهو من البداية يذكر أَنَّهُ رُبما يأتي أُناس ويقولون: إن هذه الأحوال تنطُّع وتشدد وغلو، فهؤلاء قوم لم يعرفوا العلم ولم يعرفوا قدره.
فهذا محتمل، وهذا محتمل، واللهُ أَعْلَمُ.
[المتن]
فليس مع هَؤُلَاءِ.
[الشرح]
أي الَّذِينَ ينتقدون ما هُوَ موجود في مثل هذا الْكِتَاب.
[المتن]
عَلَى دعواهم من أدلة الشرع ما يصدقها، ولا من شواهد الأقدار ما يوثقها، وَإِنَّمَا هِيَ عذر البليد، وحجة العاجز، فأين الغلو والتنطُّع من شيء الوحي شاهده، والرعيل الْأَوَّلُ سالكه.
[الشرح]
هنا -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- فيه قاعدة نريد أَن نستفيدها من هذا الْكَلَام:
(أَن الحكم عَلَى أفعال الناس وأقوالهم وأعمالهم هُوَ كِتَاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فما وافق الشرع قبلناه، وما صادم الشرع رفضناه، وإذا كان الْمُسْلِم بهذه الطريقة فإنه -أيها الأحِبَّة الكرام- يعيش حياة هانئة، هادئة، مطمئنة، راضية، مسلمة لأمر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، كما قَالَ الله: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36].
فهو فَقَطْ الحجة الَّتِي ينتظرها أَن يكون الدليل ثابتًا في كِتَاب الله أو سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَن يكون الدليل في الْقُرْآن أو ثابتًا في سنة النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يبحث ويقول: لَا بُدَّ الْكَلَام يكون مقنعًا، أو ما هِيَ الحجة الَّتِي تقنعني؟
القناعة كُلّ القناعة أو العقل كُلّ العقل:
أَن تسير وَفْق كِتَاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ الْعَبْد سلم أَن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ خالق الكون، وَهُوَ مُدبِّره، وَهُوَ رب العالمين، وَهُوَ إله الأوَّلين والآخرين، وَهُوَ العليم الخبير، وَهُوَ الحكيم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو يؤمن بذلك، ثُمَّ آمن بالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه مُرسَل من عند ربنا تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فلم يبق هناك مجال لردِّ شيء جاء عَن الله أو عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل الحكمة كُلّ الحكمة أَن نتبع ما جاء في كِتَاب الله وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام، كُلّ الناس يدَّعي:
يدَّعون أنهم عَلَى حق، حَتَّى أهل البدع يدَّعون أنهم عَلَى حق، أهل الباطل يدَّعون أنهم عَلَى حق، الكل يدَّعي، لكن ما هُوَ دليلك عَلَى هذا الدعوى؟ ما هِيَ البينة؟ ما هِيَ الحجة؟
أَمَّا الْمُسْلِم فحجَّتُه قَالَ الله قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكفى بها حُجَّة، وكفى بهذه الحجة شرفًا وفضلًا، قَالَ الله، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كفى، انْتَهَى الموضوع، بالنسبة للمسلم انْتَهَى النقاش، بدأ وقت العمل، بدأ وقت التنفيذ، أَن أعرف أَن هذا الأمر خير أو شر انْتَهَى الموضوع بمجرد أني عرفت أَنَّهُ جاء في الشَّرِيعَة، إِمَّا الأمر بِهِ أو المنع عنه، بقي أني أعمل بهذا الشيء حَتَّى أنجو أمام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
أَمَّا الَّذِينَ ربما في قلوبهم مرض أو يُعطون أنفسهم أكبر من حجمها، يتكبَّرون عَلَى الوحي، ويظنون أَن عقولهم أفضل مِمَّا جاء عَن الله أو عَنْ رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهؤلاء لم يقدروا الله حقَّ قدره، وصدق الله ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ [الأنعام: 91].
هَؤُلَاءِ لم يعرفوا أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ أعلم بمصالحهم من أنفسهم، يقولُ ربنا جَلَّ فِي عُلَاهُ: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]؛ يَعْنِي: ألا تستحون أَن تعارضوا ما جاء عَنْ الله وعن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ لعل هذا الْمَعْنَى يمكن أخذه من هذه الآية، عمومًا هذه الجملة؛ لأنها إذا وضعناها كقاعدة تساعدنا كثيرًا في مواجهة الشبهات الَّتِي تعرض في طريق الْمُسْلِم، يُلقي بها أهل الباطل، وكما قَالَ الله: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الفرقان: 31]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 112].
أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام:
إذا كان الْأَنْبِيَاء أبناء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بنصِّ الْقُرْآن أَن أهل الباطل يجادلونهم، ويلقون عَلَى مسامع الناس كلامًا يُشكِّكهم في كلام الْأَنْبِيَاء، فما بالكم بِمَا هُوَ دونهم من الدعاة وغيرهم؟! فلا يفتر الْعَبْد عَنْ طريق العلم إن وجد من يثبط عنه؛ لأنه متمسك بأصل عظيم، الأصل هُوَ (قَالَ الله، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كما قَالَ ابْن القيم رَحِمَهُ اللهُ في النونية:
العلم قَالَ الله قَالَ رسوله
قَالَ الصحابة هم أولو العرفان
[المتن]
فأين الغلو والتنطُّع من شيء الوحي يشاهده، والرعيل اَلْأَوَّلُ سالكه؟ فكل معقد منها ثابت بآية محكمة، أو سنة مصدقة، أو آثار عَنْ خير القرون الماضية، فإذا وثقت بصدقها وعقلت حبرها وخبرها، فلا تقعد همتك بخطبة الكسل والتواني، تتسلل إِلَيْهَا وَهِيَ تجلجل، هذه أحوال من مضى من سلف الأُمَّة وخير الورى، فأين الثرى من الثُّريَّا؟ بل من سمت نفسه إلى مقاماتهم أدركها.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالكرام فلاح
[الشرح]
الحقيقة -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- حينما نقرأ في الْكِتَاب سنجد فعلًا أَن الشَّيْخ كما ذكر في مقدمته وَفَّقَهُ اللهُ كُلّ معقد من معاقد تعظيم العلم يذكر عليه دليلًا، يَعْنِي فعلًا هُوَ الآن قَالَ في المقدمة: كيف هَؤُلَاءِ يزعمون وجود خلل فِيمَا أقول وأنا كُلّ شيء أقوله أستشهد عليه، إِمَّا بكلام الله أو كلام رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أقوال ونقولات عَن السَّلَف عليهم رحمة الله، فمن أين جاء النقد؟! فهذا معنى كلامه، وفعلًا من يقرأ الْكِتَاب يجد أَنَّهُ وَفَّقَهُ اللهُ يستشهد دومًا عَلَى كُلّ معقد إِمَّا بآية أو حديث أو أثر عَن السَّلَف عليهم رحمة الله تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ في خاتمة هذه المقدمة.
[المتن]
فأشهد قلبك هذه المعاقد وتدبَّر منقولها ومعقولها، واستنبط منطوقها ومفهومها، فالمباني خزائن المعاني.
[الشرح]
بهذا أن انتهينا من المقدمة الَّتِي ذكرها الشَّيْخ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى، نبدأ إِنْ شَاءَ اللهُ غدًا مع المعقد الْأَوَّل وَهُوَ: (معقد تطهير وعاء العلم) ولعلنا نمر عَلَى المعاقد قراءةً يَعْنِي عناوين هذه المعاقد.
المعقد الْأَوَّلُ: تطهير وعاء العلم.
المعقد الثَّانِي: إخلاص النِّيَّة فيه؛ يَعْنِي: في طلب العلم.
المعقد الثَّالِث: جمع همة النفس عليه.
المعقد الرَّابِع: صرف الهمة فيهإلى علم الْقُرْآن وَالسُّنَّة.
المعقد الخَامِس: سلوك الجادة الموصلة إليه.
المعقد السَّادِس: رعاية فنونه في الأخذ وتقديم الأهم فالمهم.
المعقد السَّابِع: المبادرة إلى تحصيله واغتنام سن الصبا والشباب.
المعقد الثَّامِن: لزوم التأني في طلبه وترك العجلة.
المعقد التَّاسِع: الصبر في العلم تحملًا وأداءً.
المعقد العَاشِر: ملازمة آداب العلم.
المعقد الحادي عشر: صيانة العلم عما يشين المروءة، صيانة العلم عما يشين مِمَّا يخالف المروءة ويخرمها.
المعقد الثَّانِي عشر: انتخاب الصحبة الصالحة له.
المعقد الثَّالِث عشر: بذل الجهد في تحفيظ العلم والمذاكرة بِهِ، والسؤال عنه.
المعقد الرَّابِع عشر: إكرام أهل العلم وتوقيرهم.
المعقد الخَامِس عشر: رد مشكله إلىأهله.
المعقد السَّادِس عشر: توقير مجالس العلم وإجلال أوعيته.
إِنْ شَاءَ اللهُ نمر عليها كلها بعون الله، نسأل الله الإعانة والتيسير.
المعقد السَّابِع عشر: الذب عَن العلم والذود عَنْ حياضه.
المعقد الثَّامِن عشر: التحفظ في مَسْأَلَة العلم.
المعقد التَّاسِع عشر: شغف القلب بالعلم وغلبته عليه.
المعقد العشرون: حفظ الوقت في العلم.
فَهِيَ عشرون معقدًا ثُمَّ ختم الْمُصَنِّف وَفَّقَهُ اللهُ الْكِتَاب بخاتمة نافعة، أسأل الله عَزَّ وَجَلَّ أَن ينفعنا وإياكم بِمَا نَقُول ونسمع، والله تَعَالَى أعلم، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد، وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.