خطبة عيد الأضحى

أدام الله عليكم أيام الفرح

حسان أحمد العماري


الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، الحمد لله الذي خلق الأرض والسماوات، له الحمد ما تتابعت بالقلب النَّبَضات، وله الحمد ما تعاقبت الخطوات، وله الحمد عددَ حبات الرمال في الفَلَوات، وعدد ذرات الهواء في الأرض والسماوات، وعدد الحركات والسكنات، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه، واستنَّ بسنته، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين؛ أما بعــــد:
عبــاد الله: هذا يوم عيدكم، عيد الأضحى المبارك، جَعَلَهُ الله يومَ ذِكْرٍ وفرح وسرور، جاء مع فريضة الحج وأعمال العشر من ذي الحجة، وصيام يوم عرفة، فكانت هذه الأعمال الجليلة، والأوقات الفاضلة، مدرسة تربوية وتعليمية للفرد المسلم، ينهَل منها ما يقوِّي إيمانه، ويزكِّي نفسه بالقيم والأخلاق والمثل العليا، ثم جاء العيد ليضيف إلى هذه المدرسة الفرح والسرور، والبهجة والأمل؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58]، لقد شرع الإسلام الأعيادَ والمناسباتِ؛ ليفرح الناس، وتسعد المجتمعات، وجعله نقطة انطلاق لإصلاح العلاقات بينهم بالتسامح والتصافح والعفو، ولين الجانب، والتزاور وصلة الأرحام، وهي توجيهات للفرد المسلم في سائر حياته بحسن التعامل مع من حوله، وجعل الإسلام ذلك التعامل الحسن من العبادات العظيمة والأخلاق الكريمة، ورتَّب عليها سبحانه وتعالى عظيمَ الأجر وأجزل الثواب.

أيها المسلمون: إن الغاية المنشودة من العبادات في الإسلام تزكيةُ النفس الإنسانية، وتوثيق صلة الإنسان بخالقه وبالناس من حوله، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلا يوجد تعدٍّ، ولا ظلم ولا بغي؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45]، وبالزكاة تترعرع الأُلْفة بين القلوب، وينمو الإحسان بين الناس وتتطهر النفس؛ قال تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة: 103]، وبالصوم يتمرس الإنسان على الصبر وسائر خصال التقوى والبر، وبالحج تتم سائر الفضائل الدينية التي تغرسها مناسكه في قلب المسلم؛ قال تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة: 197]، وكذلك ذكر الله، وقراءة القرآن، والدعاء، وغيرها من العبادات تربط المسلم بخالقه، وتزيد في تقوية إيمانه، وتهذيب سلوكه، وتزكية أخلاقه، وهكذا تثمر العبادات في الإسلام ثمرتها، وتُؤتي أُكُلها إذا صدقت نية صاحبها، وارتوت منها أحاسيسه.

عباد الله: إن الأخلاق ليست سلوكيات مجردة، فرضتها الأعراف والتقاليد، أو فرضها الواقع لحاجته إليها، بل هي عبادة لله في دين الإسلام، يترتب عليها الأجر والمثوبة، والجزاء والحساب، والجنة والنار، بل تعتبر علامة على كمال الإيمان عند الفرد المسلم؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا))؛ [السلسلة الصحيحة للألباني: (284)]، وجعل الإسلام تربية الناس وتزكيتهم على الأخلاق الحسنة، والقيم العظيمة، من مهام الأنبياء والرسل، وهدفًا رئيسيًّا من أهداف الرسالات السماوية؛ قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 2]، وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم: ((إنما بُعثتُ لأُتمِّم مكارم الأخلاق))؛ [البخاري]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقًا))؛ [السلسلة الصحيحة للألباني: (791)]، وبالأخلاق والتزامها سلوكًا في واقع الحياة يدرك المؤمن درجاتٍ عالية في مراتب العبادة؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إن المؤمن لَيُدْرِكُ بحسن خلقه درجةَ الصائم القائم))؛ [صححه الألباني رحمه الله، انظر: مشكاة المصابيح: (5028)].

وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أهميةَ الأخلاق والمعاملة الحسنة في نجاة العباد يوم القيامة؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال صلى الله عليه وسلم: إن المفلس من أُمَّتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وسبَّ هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دماء هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيَت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أُخِذَ من خطاياهم، فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار))؛ [رواه مسلم].

لقد رسب هذا المفلس، وفشل بسبب المعاملات لا بسبب العبادات، ونال درجة النجاح في امتحان العبادات.

فيأتي وقد شتم هذا، وهذه معاملات، وأكل مال هذا، وهذه معاملات، وضرب هذا، وهذه معاملات، في ختام الحديث: ((يُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته... ثم طُرح في النار))، إن رسوبه في المعاملات قضى على نجاحه في العبادات، وهذا الرسوب والفشل نهايته النار، والعياذ بالله.

أيها المسلمون: العيد فرصة لرأب الصدع، وحل الخلافات، ونبذ العداوات، وصلة القربى والأرحام، والتسامح والتغافر بين الأصدقاء والإخوة والجيران، وخيرُ هؤلاء جميعًا هو من يبدأ ويسارع لينتصر على حظوظ نفسه ووسوسة شيطانه، فإن ما عند الله خير وأبقى، فالدنيا بما فيها إلى زوال، ﴿ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى: 17]، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه.

الخطبة الثانية
أيها المسلمون عباد الله: لِيَقُمْ كلُّ من ضحى إلى أضحيته، فله عند الله أجر عظيم، وأطعموا منها البائس والفقير والمحروم، وتفقَّدوا أحوال الضعفاء والأيتام والمساكين، وأدخِلُوا عليهم البهجة والفرح والسرور، ومن لم يضحِّ لضيق العيش والحاجة، فلا يبتئس ولا يحزن؛ فقد ضحَّى عنه وعن غيره من المسلمين رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان؛ يقول جابر بن عبدالله رضي الله عنه: ((شهِدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأضحى بالمصلَّى، فلما قضى خطبته نزل من منبره، وأُتِيَ بكبش، فذبحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: بسم الله والله أكبر، هذا عني، وعمن لم يضحِّ من أُمتي))؛ [صححه الألباني في صحيح أبي داود].

ولا تنسَوا صلةَ الأرحام والأقارب، وتفقُّدَ الجيران، والتوسعة على الأهل والأولاد في مثل هذه الأيام، كلٌّ حسب قدرته واستطاعته، وأكْثِروا من ذكر الله كما هداكم، واشكروه على ما أعطاكم، وجدِّدوا إيمانكم، وحسِّنوا أخلاقكم، واحفظوا دماءكم، واجتنبوا الفتن، تفوزوا برضا ربكم، وصِلوا أرحامكم، تحل البركة في أعماركم وأموالكم.

هنيئًا لكم بالعيد أيها المسلمون، في كل مكان، وتحت أي ظروف وأحوال، وأدام الله عليكم أيام الفرح، وسقاكم سلسبيل الحب والإخاء، ولا أراكم في يوم عيدكم مكروهًا، وجعل سائر أيامكم عبادة وطاعة لله، وعملًا وفرحًا وسرورًا، وكشف الله الغمة عن هذه الأمة، ورفع عنها البلاء والفتن، والأمراض وسيئ الأسقام، وثِقوا بالله، وأحسنوا الظن به سبحانه، فبيده كل شيء، وهو أرحم بنا من أنفسنا، اللهم غيِّر أحوالنا إلى أحسن حال، واجعل حياتنا وبلادنا وأوطاننا عامرة بالسعادة والمحبة، والأمن والإيمان، والسلامة والإسلام.

هـــذا، وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير؛ حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال في كتابه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين؛ أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، اللهم اجمع شمل المسلمين، ولُمَّ شعثهم، وألف بين قلوبهم، واحقُن دماءهم.

اللهم جنِّبنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، واجعل بلدنا هذا آمنًا وسائر بلاد المسلمين.

ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا ووالدينا والمؤمنين عذاب القبر والنار.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.