أصول في دراسة مسائل التفسير
عبد العزيز الداخل
شرح مراحل بحث المسألة التفسيرية
المرحلة الأولى: تصنيف المسألة
- هذه المرحلة هي الأساس الذي يُبنى عليه اختيار مراجع البحث في المسألة.
- كثير من مسائل التفسير لها تعلّق بعلوم أخرى من علوم القرآن أو علوم الحديث أو الاعتقاد أو السيرة أو العلوم اللغوية وهي متعددة.
- إحسان الطالب لتصنيف المسألة ومعرفته بتعلقّها بتلك العلوم يعينه على أن يرجع إلى المراجع المهمّة لبحث المسألة.
- المداومة على تصنيف المسائل تنمّي القدرة الذهنية لدى طالب العلم، وتوسّع مداركه، وتبصّره بالمراجع الأصلية لبحث تلك المسائل.
- بعض المسائل لها تعلّق ما ببعض علوم القرآن كعلم القراءات وعلم نزول القرآن والوقف والابتداء وعدّ الآي ورسم المصاحف والمبهمات، وغيرها.
- وكذلك المسائل التفسيرية على أنواع؛ منها مسائل لها تعلّق ببعض العلوم اللغوية، ومنها مسائل لها تعلّق ببعض الأدوات الأصولية، ومنها مسائل لها تعلّق بالأحكام الفقهية، ومنها مسائل لها تعلق بالاعتقاد.
- كل مسألة لها أصول تستخرج منها، والباحث المدقق هو الذي يتمكّن من معرفة نشأة تلك المسألة ومراجعها الأصلية، واشتراك بحثها في عدد من العلوم.
- مداومة بحث مسائل التفسير ودراستها بالعناية على معرفة أصول نشأة المسائل والأقوال فيها يعين الباحث على حسن فهم تلك المسائل وجمع الأقوال المعتبرة فيها، واكتشاف العلل والخطأ في تناول تلك المسائل وتداول تلك الأقوال.
أمثلة على تصنيف المسائل:
1. المراد بشرح الصدر في قول الله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} ؛ هذه المسألة لها تعلّق بكتب التفسير، ولا سيّما أقوال السلف في هذه المسألة، ولها تعلّق بكتب السيرة، وما روي من حوادث شرح صدر النبي صلى الله عليه وسلم.
2. المراد بالكرسي في قول الله تعالى: {وسع كرسيّه السموات والأرض} ؛ هذه المسألة لها تعلّق بكتب التفسير، ولها تعلّق بكتب الاعتقاد.
3. المراد ببلوغ الكتاب أجله في قول الله تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} ؛ هذه المسألة لها تعلّق بكتب التفسير، وكتب الفقه.
4. الوقف على قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلّ من عند ربّنا} ؛ هذه المسألة لها تعلّق بكتب التفسير، وكتب الوقف والابتداء.
5. أمد منع قربان الحائض في قوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} ؛ هذه المسألة لها تعلّق بكتب التفسير، وكتب توجيه القراءات للقراءتين الواردتين فيها {حتى يَطْهُرْن} و {حتى يَطَّهَّرْن}، وكتب الفقه.
6. المراد ببطن مكة في قول الله تعالى: {وهو الذي كفّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم} هذه المسألة لها تعلّق أيضا بكتب التفسير، ولها تعلّق بكتب السيرة.
7. معنى الاستفهام في قوله تعالى: {عمّ يتساءلون} ، هذه المسألة لها تعلّق بكتب التفسير، وكتب أسباب النزول، وكتب البلاغة.
8. معنى الأمر في قول الله تعالى: {اعملوا ما شئتم}؛ هذه المسألة لها تعلّق بالتفسير وبأصول الفقه وبالبلاغة.
9. معنى "ضيزى" في قول الله تعالى: {تلك إذا قسمة ضيزى}؛ هذه المسألة لها تعلق بكتب التفسير، وكتب مفردات اللغة ومعاجمها.
تنبيهات:
1. ينبغي للمفسّر أن يكون على معرفة جيدة بالمراجع المهمة لكل نوع من أنواع المسائل التي يريد البحث عنها ودراستها.
2. يشير بعض المفسّرين والعلماء في تناولها لبعض المسائل إلى كتب ومراجع مهمّة؛ فينبغي أن يُعتنى بها.
3. ينبغي للباحث أن يكون حسن الملاحظة؛ فيعرف ما لبعض العلماء والباحثين من عناية حسنة ببعض أنواع المسائل؛ فيحرص على الرجوع إلى أقوالهم وكتبهم عند الحاجة إلى بحث ذلك النوع من أنواع المسائل.
4. إذا اكتشف الباحث علّة الخطأ في مسألة ما فليعتنِ بشأن تلك العلة وطرق اكتشافها؛ لأن تلك العلة قد تتكرر أمثلتها كثيراً؛ فيسهل عليه أن يعرفها بعد ذلك.
المرحلة الثانية: اختيار المراجع
- إذا عرف الباحث نوع المسألة ؛ فينبغي عليه أن يعرف المراجع المهمّة لبحث تلك المسألة.
- هذه المرحلة هي أهم مراحل البحث العلمي في مسائل التفسير، ومن أحسن اختيار مراجع المسألة؛ فقد أسّس بحثه على أساس متين.
- يعتمد تحديد المراجع على عنصرين مهمّين:
العنصر الأول: نوع المسألة؛ فكلّ مسألة لها مراجعها الأصلية ونشأتها التي ينبغي للطالب أن يتعرّف على مظانّها.
العنصر الثاني: مقصد الباحث؛ فالباحث حين بحثه ودراسته تعرض له احتياجات علمية متنوّعة، ولهذه الاحتياجات أثرها في تحديد المراجع.
- ويمكن تقسيم المسائل التي يبحثها المفسّر مع مقاصد بحثها إلى أنواع أشهرها:
1. ما يحتاج فيه إلى التحقق من صحة النقل كالتفسير النبوي وكثير من تفاسير الصحابة والتابعين ؛ وفي هذا النوع من المسائل يكون الرجوع لكتب التفسير بالمأثور كتفسير ابن جرير وابن أبي حاتم وعبد الرزاق والدر المنثور وتفسير ابن كثير والبغوي وغيرها، وفي كثير من الأحيان يحتاج الباحث إلى مراجعة دواوين السنة ، وقد يجد فيها ما لا يجده في هذه الكتب على أهميتها.
[ومشروع "جمهرة تفاسير السلف" في جمهرة العلوم، يختصر على الباحث شيئاً كثيراً في هذا النوع بإذن الله تعالى، ونسأل الله الإعانة على إتمامه].
2. مسائل في التفسير لها تعلّق ببعض العلوم اللغوية؛ فينصح الكاتب بالرجوع إلى التفاسير المعتنية بهذا النوع من المسائل كمعاني القرآن للفراء والزجاج والنحاس، ومجاز القرآن لأبي عبيدة وغريب القرآن لابن قتيبة وتأويل مشكل القرآن له وغريب أبي عبيد ونحو هذه الكتب.
وفي كثير من الأحيان يحتاج الباحث إلى مراجعة دواوين اللغة ومن أجلها تهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري، ومن أجمعها لسان العرب لابن منظور، ومن أحسنها المحكم والمخصص لابن سيده ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس.
[ومشروع "جمهرة التفسير اللغوي" يجمع للباحث عامّة أقوال هؤلاء العلماء وغيرهم، وينظر في تفصيله إلى هذا الموضوع: مقدّمة جمهرة التفسير اللغوي]
3. مسائل يريد الباحث أن يجمع فيها أقوال المفسرين في الآية ويحاول أن يحصرها؛ فينصح بالرجوع إلى تفسير ابن جرير الطبري والمحرر الوجيز لابن عطية، وزاد المسير لابن الجوزي، والنكت والعيون للماوردي، وتفسير الثعلبي، فهذه التفاسير قد حوت عامّة أقوال المفسّرين، وإن رجع معها إلى تفسير القرطبي فحسن.
4. مسائل يريد الباحث نقد الأقوال المذكورة فيها وتمييز صحيحها من ضعيفها والترجيح بين الأقوال المعتبرة، والتعرف على علل الأقوال الخاطئة، ونحو ذلك فيوصى بالرجوع إلى تفاسير العلماء الذين لهم عناية بهذا الباب، ومنهم: ابن جرير وابن عطية وابن كثير وابن عاشور ومحمد الأمين للشنقيطي، وما جمع من تفاسير شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، ونحو هذه التفاسير التي عُرف عن أصحابها عنايتهم بالتحرير العلمي ونقد الأقوال وتمييزها.
واعتياد الطالب على البحث في كتبهم يعينه على سرعة الوصول إلى مراده، ونسعى في مشروع "جمهرة التفاسير" إلى جمع أقوالهم في كل آية في موضعها، وما زلنا في مراحل العمل لإتمام هذا المشروع الكبير، ونسأل الله تعالى الإعانة والتسديد.
5. مسائل تفسيرية لها صلة بالاعتقاد؛ فيعتني بالرجوع إلى التفاسير التي عُرف أصحابها باتّباع السنّة ونصرتها، والتنبيه على البدع والانحرافات؛ كتفسير ابن جرير، وتفسير أبي المظفّر السمعاني، وتفسير ابن كثير،وأضواء البيان للشنقيطي، وما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم في التفسير والتنبيه على انحرافات أهل البدع والأهواء.
ومن الخطأ البيّن أن يأخذ الباحث تقرير مسائل الاعتقاد من التفاسير التي سلك أصحابها غير طريقة أهل السنة في تقرير تلك المسائل.
6. مسائل تفسيرية لها صلة بعلم البلاغة؛ فيرجع إلى تحرير ابن عاشور وإرشاد أبي السعود وكشاف الزمخشري وروح المعاني للألوسي وبعض حواشي البيضاوي، ويحتاج مع هذا إلى النظر في بعض كتب البلاغة، وكتب بيان المشكل.
- وهكذا في سائر أنواع المسائل التفسيرية؛ يجد الطالب أن طائفة من التفاسير اعتنت بذلك النوع عناية حسنة، وذلك النوع وثيق الصلة بعلم من العلوم له كتبه المرجعية وأئمته المعروفون، وأصولهم في دراسة تلك المسائل.
- تنبيه: هذا التقسيم لتلك الكتب إنما هو على ما يغلب من عناية أصحابها، وليس المقصود منه خلو تلك الكتب من العلوم الأخرى، ولكن لكل علم مصادره وأئمته.
- ومداومة الطالب على البحث والكتابة تعينه على بناء ملكة حسنة في انتقاء المصادر، وسرعة الوصول إلى ما يبحث عنه.
أنواع المصادر:
النوع الأول: مصادر أصيلة، وهي المصادر التي تنقل أقوال السلف بالإسناد؛ كتفسير عبد الرزاق وتفسير ابن جرير وتفسير ابن أبي حاتم وما كتبه أهل الحديث في دواوين السنّة من كتب في التفسير؛ ككتاب تفسير القرآن من صحيح البخاري، وكتاب التفسير من جامع الترمذي وغيرها.
النوع الثاني: مصادر بديلة، وهي المصادر التي تنقل عن مصادر أصلية مفقودة؛ كالدرّ المنثور ينقل فيه السيوطي عن تفاسير مفقودة لا نصل إليها إلا بواسطة؛ كتفسير سفيان ابن عيينة وتفسير ابن مردوية وتفسير النقاش وما لم يطبع من تفسير ابن المنذر وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وغيرها؛ فهذه التفاسير إذا نقل عنها أحد العلماء في كتابه فيكون ذلك الكتاب مصدراً بديلاً.
النوع الثالث: مصادر ناقلة، وهي المصادر التي تنقل عن كتب أصيلة أو بديلة أو ناقلة ما يمكننا أن نتوثّق منه بالرجوع إلى تلك المصادر.
ما يتوقّف على النقل:
- ما يتوقّف البحث فيه على صحة النقل نوعان:
النوع الأول: الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، والآثار المروية عن الصحابة والتابعين وتابعيهم، ومراجع هذا النوع سبقت الإشارة إليها.
والنوع الثاني: أقوال علماء اللغة، وعلماء اللغة الذين تكلّموا في تفسير القرآن أو في بيان بعض المسائل اللغوية المتّصلة بالتفسير على ثلاث درجات:
... الدرجة الأولى: الذين لهم كتب في بيان معاني القرآن؛ كيحيى بن سلام البصري والفراء والأخفش وأبي عبيدة معمر بن المثنى وابن قتيبة والزجاج والنحاس ونحوهم؛ فهؤلاء يرجع إلى كتبهم لنقل أقوالهم.
... والدرجة الثانية: الذين تنقل أقوالهم في كتب التفسير وليس لهم تفاسير مفردة لكن لهم كتب معروفة؛ كالخليل بن أحمد وسيبويه والأصمعي وأبي عبيد القاسم بن سلام وابن السكيت والمبرّد وثعلب وأبي علي القالي؛ فهؤلاء يمكن الرجوع إلى كتبهم عند الحاجة إلى توثيق النقل عنهم.
... والدرجة الثالثة: الذين تنقل أقوالهم في كتب التفسير وليس لهم كتب مطبوعة كعيسى بن عمر الثقفي وأبي عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب الضبي؛ فهؤلاء يرجع إلى أقوالهم بأحد طريقين:
أحدهما: الرجوع إلى كتب تلاميذهم وما نقلوه عنهم.
والآخر: الرجوع إلى معاجم اللغة التي اعتنت بجمع أقوالهم وما روي عنهم.
وينظر هنا في ( كتب علماء اللغة المطبوعة مرتبة على القرون )
المرحلة الثالثة: مرحلة جمع النقول واستخلاص الأقوال.
- بعد معرفة الباحث لنوع المسألة وتعلّقها بما تتعلق به من العلوم، ومعرفته مصادر بحث هذه المسألة ووقوفه عليها تأتي مرحلة استيعاب الأقوال في المسألة.
- هذه المرحلة هي بمثابة إعداد العدّة لدراسة المسألة؛ لأنّها تتضمّن جمع ما يتعلق بهذه المسألة بالاعتماد على المراجع المهمّة.
- يفضّل في المرحلة الأولى عند السعة أن يدوّن الباحث الأقوال بنصّها في مسودة البحث، وأن يرتّبها على التسلسل التاريخي باعتبار المؤلفين.
- النقول جمع نقل، ونقصد به ما يذكره المؤلف في المسألة؛ سواء من قوله أو من مما رواه أو نقله عن غيره.
- ترتيب النقول على التسلسل التاريخي مهم جداً للباحث؛ لأنّه يعرّفه بنشأة القول في المسألة وأوّل ذكر لها في الكتب، ثم كيف تناقلها العلماء وتداولوا بحثها.
- إذا وجد الباحث في كلام بعض أهل العلم إشارة إلى كتاب أو قول لعالم له كتاب مطبوع أو له أصحاب ورواة ينقلون علمه فينبغي له أن يبحث عن قوله بنصّه، ويضيفه إلى النقول التي جمعها.
- تختلف المسائل من حيث وفرة النقول وندرتها؛ فالمسائل المشتهرة قد يتمكن الباحث من جمع نقول كثيرة فيها، وأمّا المسائل الخفية والنادرة أو التي طرأت بسبب إشكال فغالباً ما يجد الباحث صعوبة في جمع النقول المتعلّقة بها، وربما يجدها في غير مظانّها.
- إذا جمع الباحث ما يستطيع من النقول ثمّ رأى أن النقول لم تكتمل لديه، وأنه ينقصه الوقوف على أقوال معينة لم يجدها بعد اجتهاده؛ فينبغي له أن يستعين بسؤال أهل العلم والباحثين المتقدّمين ليوقفوه عليها أو يدلوه على مظانها، وليستفد من طرقهم في التوصّل إليها.
- إذا اجتمعت النقول الكافية للباحث أمكنه الانتقال إلى المرحلة التالية، وإذا لم تكتمل لديه النقول في المسألة بعد اجتهاده وكان مضطراً للبحث والدراسة فليعلم أنّ لهذا النقص أثره في دراسته؛ فليدع في بحثه فرصة لزيادة التوثق.
- إذا جمع الباحث النقول المتعلّقة بمسألته التي يريد دراستها؛ فليبدأ باستخلاص الأقوال التي قيلت في المسألة منها.
- استخلاص الأقوال في هذه المرحلة هو استخلاص مبدئي؛ يراد منه استيعاب ما قيل في المسألة ولو كان بين تلك الأقوال توافق أو –تقارب، ولذلك قد يجمع الباحث في المسألة الواحدة عشرين قولاً أو أكثر، وهي في حقيقتها ترجع إلى قولين أو ثلاثة أو أربعة.
- هذا الاستخلاص المبدئي ستتبعه مرحلة مهمّة قبل البدء بتحرير الأقوال.
يتبع