العين لا تبصر الأهداب
نهى الطرانيسي
من لوحة أرجوانية اللون بدأ يتسلَّل من أطرافها خيوطٌ برتقاليةٌ صفراءُ، مخترقةً الغماماتِ القطنية، ومعلنةً بدءَ أخذِ نفَسٍ عميق، وتجرع كأس الندى المنعش، يظهر مسرعًا قرصُ الشمس الملتهب واقعيًّا أكثر بحرارته ودفئه للحياة.
من هنا فتحت عيني لأعيد كَرَّةَ ألمي مع الحياة، بأعمدةٍ متراصَّة صلبة باردة سلطَتْ جبروتَها عليَّ، حفنة طعامٍ بجانبها بضعُ قطرات مياه، بنفس المكان الذي به فضلاتي (أعيش)، ويُطلَب مني التنفُّس والهدوء والاستسلام، حتى أُشبِع شغفَ السيدة؛ لتراني كلَّ يوم، وتسعد بألوان ريشي الزاهية، وتطرق بجوارِ قفصي لأغرِّدَ لها، وما أغرِّد إلا خوفًا وألمًا، فتطرب آذانها، وتعد طعامها لترحل عنِّي... أتابع ظلمة نفسي وحياتي الحالية.
أتنهد... أتنهَّد لعلِّي أحاول الهدوءَ والسيطرة على كآبة نفسي، فأبصره من بعيد يحدِّق بي بعينيه اللوزيتين متأهِّبًا للهجوم حتى تضع أمامه السيدة طبق الحليب وآخرَ يحوي قطعَ طعام، فيعدل عن قراره، ويأخذ يمشي بخيلاء مقززة، يتبعها بحركاتٍ لا يفسَّر مغزاها إلا بإعلان عدائه لي، ذاك هو القط، وهذا هو حكمه الذي نصبه أمام عينيه لتنفيذه عليَّ.
القط: (ما بالك أيها المغرِّد، لمَ تبدو حزينًا؟)
(أليس أمامك طعامٌ وشرابٌ، وفوق هذا بيت جميل؟!)
المغرد: (أتسمِّي هذا بيتًا؟! بيتي هو السماء بقبَّتها الواسعة التي لا حدود لها، هكذا يكون بيتي).
القط: (دائمًا وأبدًا تبدأ شكواك الملعونة هذه، لقد أجلسَتني السيدة هنا لأراقبك؛ فأنت كثير الضجيج والحركة، وهذا مزعج لها ولي).
المغرد: (هذا قفص... أختنق هنا... أريد الطيران وأسبح بين طيات السحاب لأغرد...)
القط مقاطعًا: (كُفَّ عن كلِّ هذا، إن عدتَ للضجيج ثانيةً والاعتراض، سأتولَّى الأمر معك).
وثب القط فوق القفص، وأخذ يضربه ويقذفه يمينًا وشمالًا؛ حتى تناثر الماء ليغطِّي المغرد، وتعلَّقت بين ريشه حبوبُ الطعام؛ حيث يقف على أرضٍ داكنةِ اللون سائلة كريهة الرائحة.
القط:(سأتركك الآن أيها الناعب؛ لأرتاح قليلًا بعد الوجبة المُشْبِعة).
أطال المغرِّد النظر بيأس إلى النافذة المجاورة، فأدركت أذنه صوتَ خشخشة قادمةٍ من أسفل الباب، إنها الخنافس السوداء تأتي دائمًا من الباحة المجاورة للمنزل.
المغرد: (أنت... أيتها الخنافس انظري لأعلى).
أخذت الخنافس تخشخش بقشورها ولا تعرف مصدر الصوت؛ حتى نظرت للأعلى.
(كيف حالك أيها المغرِّد؟)
المغرد: (لست بخير، أرجوكن أطلب منكنَّ المساعدة).
الخنافس: (مساعدة!! كيف؟! نحن مجرَّد خنافس!!)
المغرد: (كيف؟! أنتم كثير، وقشوركن سميكة كيتينية، ليس من السهل تحطيمها، ولكُنَّ فكٌّ يقرض جيدًا، ومنكُنَّ يتأفَّف القط ويبتعد، أرجوكنَّ ساعدنني للنجاة).
الخنافس: (كنا نودُّ أيها المغرِّد، ما نحن إلا خنافس كبيرة العمر، نسعى فقط للغذاء ونعود للباحة المجاورة لكم).
أنهت الخنافسُ حديثها متأهبةً لإتمام مهمَّتها في المنزل، ولم تعد متذكرةً طلب المغرِّد.
أخذ المغرِّد ينفض ريشه، يقف عاليًا بعيدًا عن أرض القفص الكريهة، وفي خضم انشغاله بذلك، رأى أمامه وجه القط ملاصقًا للقفص.
القط: (أراك استوعبت الدرس أيها المغرد؛ فاليوم أنت هادئ، واستمتعتُ أنا بقيلولتي).
المغرد: (ماذا تريد أيها القط؟)
القط: (أنا أفعل ما أريده الآن، أنظر إليك، وأتلذَّذ بجمال ريشك الرطب، وبحثك عن حبَّة طعام تصلح للأكل، وعينك الحائرة المتنقلة بين الفضاء ووجهي الجميل).
عند الشباك وصل سربٌ صغيرٌ من اليمام المحلق؛ ليلتقط بعضَ الحبوب المهملة من الباحات الخارجية.
هنا أخذ المغرد يغرِّد بأعلى صوته مستغيثًا مرفرفًا بجناحيه: (أيها اليمام...أيها اليمام، أنا هنا... انظروا إليَّ).
توقَّف انهماك اليمام بالطعام والبحث، فطار مسرعًا ولم يلتفت للمغرِّد.
المغرد: (كلا أيها اليمام... أنا منكم... من جنسكم).
(لا تتركوني
يا لكم من جبناء... يا لكم من جبناء).
القط ساخرًا: (يا حسرتاه عليك أيها المغرد، لمَ تحزن يا عزيزي؟! ولمَ تتعجَّب من فرارهم؟! إنهم جبناء، من ذرةِ صوتٍ يفزعون ويهربون... ولكني أحبُّهم).
المغرد: (ماذا تقصد؟)
القط: (ما أقصده يا عزيزي، دعك من التغريد طلبًا للنجاة؛ فإنهم لا يرجون منك فائدة، وهيئْ نفسك للعيش هنا تحت إمرتي).
جاءت السيدة من الخارج وهُرع القط يداعب أرجلها، وفتحت الباب الخلفي لدخول الخادمات، وعادت هي لمزاولة أعمالها غيرِ المفهومة حاملةً القط.
ولم تُلقِ حتى نظرة عليَّ لترى كيف صار حالي!
حاولتُ أن أغفو من تعبي، فوصل إلى أذني صوت النقيق، ولم تخطئ أذناي لمن هذا الصوت؛ فاقتربت من أطراف القفص، نعم هو الضفدع اللزج الأخضر السمين.
المغرد: (ماذا أتى بك هنا أيها الضفدع؟)
الضفدع مبتسمًا: (رأيت أن أساعد الخادمات بتنظيف المنزل
ألم ترَ أي حشرات تسري هنا؟)
المغرد: (لا يهمك إلا نفسك أيها الضفدع، ألا تكترث لأمري وحالي السجينة، لقد نسي جناحاي الطيران، وفقدت القدرة على التغريد بحبٍّ بعد أن امتلأت نفسي بالألم، إن حالي يُرثى لها، ساعدني أيها الضفدع).
الضفدع مضطربًا: (كم أودُّ أيها المغرد، ولكن دعني أساعدك على تبصُّر الأمور، هنا مكان جميل، طعامك وشرابك محضر، وبيت آمن بعيد عن الطيور الجارحة أو الصيادين، ويحرسك قط، لمَ لا ترى الجانب الإيجابيَّ للحياة؟!)
المغرد: (أتعلم؟ لا رجاء منك، ستظلُّ هكذا تأخذ في النقيق؛ ليرضى عنك القط ولا يلتهمك).
الضفدع خائفًا: (اخفض صوتك أيها المغرد، دع القط في غفوته، أدام الله عليه هذه الغفوة إلى الأبد).
المغرد: (ما دمت تكرهه، لمَ لا تساعدني في النجاة والهروب؟!)
الضفدع: (لا أستطيع أيها المغرد، أرجوك أدرك كلامي وفكِّر به، وستعلم أنه الأفضل لك).
من النافذة راقب الحوارَ الحكيمُ، فانتبه له الضفدع.
الضفدع: (ها قد أتى لك حكيمُ الحيوانات، دعني أذهب للبحث عن طعامي).
اتسعت حدقتا المغرد وانتفض ريشه برؤية الحكيم (الهدهد).
المغرد: (تعبت أيها الحكيم، لعل لي عندك ردًّا شافيًا لأوجاعي؟).
الحكيم: (لمَ أجهدت نفسَك طوال الوقت والحلُّ أمامك؟!)
المغرد: (كيف؟!)
الحكيم: (أليس للمنزل باحة خاصة به؟)
المغرد: (بلى!)
الحكيم: (وتَعِجُّ بشتى الكائنات، أليس كذلك؟)
المغرد: (بلى!)
الحكيم: (هم مبتغاك أيها المغرد...
ابحث داخل باحة منزلكم، وجِّه ناظريك إليها
فمبتغاك فيهم وليس في الباحات المجاورة).