رحيل شعبان ورحيل الإنسان.. وإدراك الأمر بالتوبة
كتبه/ أحمد كمال
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن رحيل شهر شعبان يذكرنا برحيل الإنسان عن هذه الحياة؛ فلقد جاء في وقت الغفلة ومر مسرعًا، وما زال الكثير من الناس في هذه الغفلة مع أن المفترض أن يكون هذا الشهر شهر اليقظة والانتباه؛ لخطورة هذا الشهر، وعظمة قدره بين شهور العام.
فعن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: (لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ قَالَ ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ) (رواه النسائي، وحسنه الألباني).
وفعلاً فالناس في غفلة من هذا الشهر -إلا من رحم الله-.. منشغلون بالدنيا أعظم انشغال.. منهمكون فيها أشد انهماك، بل إن الكثير منهم لم ينتبه لخطورة الشهر لكونه شهرٌ ترفع فيه الأعمال إلى الله -تعالى-، أي: أعمال السنة الماضية كلها ترفع إلى الله -تعالى-، وبدلاً من أن يتيقظ المرء وينتبه لهذا الشهر فيدرك الأمر بالأعمال الصالحة والذكر والتوبة والاستغفار؛ ملأ ساعات أيامه بالمعاصي والسيئات!
حقاً هو شهر عظيم، لكن يغفل الناس عنه! والأعظم من ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ).
فإن من خطورة الغفلة عن هذا الشهر أنه شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله -تعالى-؛ فكيف للمرء أن ينتبه لهذا الأمر فلربما ختمت أعمال هذا العام بعمل صالح ينظر الله إليه فيعفو عما قبله، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ) (رواه البخاري)، فيحسن العمل ويكثر من الصالحات فيختم له بواحدة منها.
ولربما آخر مع غفلته عن هذا الشهر وخطورته ختم له بعمل سيء -والعياذ بالله-، والأعمال أيضًا بالخواتيم -نسأل الله حسن الخاتمة-؛ لذا فعلى المرء أن يجتهد في عمل الصالحات، وأن يبتعد عن فعل المعاصي والمنكرات.
وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) إشارة إلى محاسبة النفس، فغفلة الناس عن الحساب من أعظم أسباب هلاكهم، ومحاسبة النفس على الدوام من أعظم أسباب النجاة، فمعرفة الإنسان أن أعماله ترفع في هذا الشهر تجعله متيقظًا واعيًا لما يعمل، فيحسن العمل ويجتهد ويبذل كل ما في وسعه لإرضاء ربه، ولا سبيل لذلك إلا بمحاسبة النفس، ولو أدرك الإنسان خطورة الموقف وشدة الحساب بين يدي الله -تعالى- لهوَّن على نفسه حساب الآخرة بحساب الدنيا.
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، فاليوم عملُ ولا حساب، وغدًا حسابُ ولا عمل".
ولقد أشار الله -تعالى- إلى محاسبة الإنسان لنفسه، وأهمية ذلك في نجاة الإنسان يوم القيامة في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ . وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر:18-19)، وقوله -تعالى-: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (البقرة:281).
ومحاسبة النفس أمرٌ شاقٌ، لكنه مِن أعظم أسباب نجاة الإنسان يوم القيامة؛ لذا يجب على كل مسلم أن يحاسب نفسه على الدوام، وفي هذه الأيام.. خصوصًا أواخر شهر شعبان، وقبل قدوم رمضان؛ لعله يتدارك الأمر بتوبة.
ومحاسبة الله -تعالى- لخلقه يشيب منها الشباب؛ إذ يكفي فيها أن يقف المرء أمام الله -تعالى- ليس بينه وبين الله حجاب، فيسأله -تعالى- عن كل ذنب وخطيئة كانت في حق الله -تعالى-، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ) (متفق عليه).
فما أصعبها وأشدها من لحظات تمر على الإنسان يوم القيامة فضلاً عما سيكون من فضيحة المرء يوم القيامة على مسمع ومرأى من الخلائق؛ فضلاً عن عذاب الله -تعالى- للعصاة والمذنبين والمجرمين.
تأمل هذا الموقف من خلال هذه الآية.. قال -تعالى-: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (الكهف:49)، وقوله -تعالى-: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران:30).
فكل إنسان يجد ما في هذه الدنيا من خير وشر، من طاعة ومعصية، ثم يكون هو حسيب نفسه، وما أشد ذلك على الإنسان يوم القيامة، يقول الله -تعالى-: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) (الإسراء:13).
إن موقف الإنسان من حساب الله -تعالى- موقف عظيم.. فماذا ستقول عند محاسبتك في قبرك؟ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ : عَنْ عُمْرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَا فَعَلَ فِيهِ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ ؟) (رواه الترمذي والبيهقي والطبراني، وصححه الألباني).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أوَّلُ ما يحاسَبُ بهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيامَةِ الصلاةُ فإنْ صَلَحَتْ صَلَحَ له سائِرُ عَمَلِهِ وإنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سائِرُ عَمَلِهِ) (رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني).
فيا ترى.. بم ستجيب على هذه الأسئلة؟!
وماذا ستقول لله -تعالى- حينما يسألك: عبدي أنتَ فعلت ذنب كذا.. ساعة كذا.. ؟ أنت فعلت ذنب كذا.. ساعة كذا.. ؟
أيها الغافل غفلت عن مراقبة مولاك.. قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء:1)، وقال -تعالى-: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) (الزخرف:80).
غفلت عن مراقبة ملائكته.. قال -تعالى-: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ . كِرَامًا كَاتِبِينَ . يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (الانفطار:10-12).
أيها الغافل غفلت عن مراقبة أعضائك لك.. قال -تعالى-: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يس:65)، وقال -تعالى-: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ . وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (فصلت:21-23).
أيها الغافل.. أدرك الأمر بالتوبة؛ فإن رحيل شعبان ينذر برحيل العمر. نعم مرَّ مُسرعًا شهر شعبان، وسيمر العمر كذلك.. وسترحل عن هذه الحياة: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المنافقون:11)، وقال -تعالى-: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجمعة:8)، وقال -تعالى-: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (ق:19)، وقال -تعالى-: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (السجدة:11).
نعم حتمًا ستموت.. وربما لم تدرك شهر رمضان.. لتدرك التوبة، وربما طلبت العودة إلى الحياة؛ لتدرك ما فاتك، ولكن لا تنال ذلك. قال -تعالى-: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ . وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المنافقون:10-11).
وانظر لأحوال أهل النار.. وكيف يصف القرآن حالهم في قوله -تعالى-: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (فاطر:37)؛ فأدرك الأمر بالتوبة لعله يختم لك بها، والأعمال بالخواتيم، والتوبة تجب ما قبلها؛ قال -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر:53)، وقال -تعالى-: (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الفرقان:70)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا) (رواه مسلم).
يـا رب إن عظمت ذنوبي كـثـرة فلقد علمت بأن عـفـوك أعـظـمُ
إن كـان لا يـرجـوك إلا محـسـنٌ فـبـمـن يـلوذ ويستجير المذنبُ
ربي دعـوت كما أمرت تضرعـًا فمن ذا الذي يستجـيب ويرحـمُ
فاللهم أحسن خاتمتنا، وارزقنا توبة صادقة، وتقبل منا صالح أعمالنا، إنك ولي ذلك والقادر عليه. وصلِّ اللهم على محمد وآله وصحبه وسلم.