السلام عليكم،
انتقاد أئمّة المساجد.. هل أصبح موضة وحرفة؟! *
كتبه : سلطان بركاني
16 مارس 2022م
أئمّة المساجد بشر، وهم -مع بشريتهم- ليسوا على مستوى واحد من العلم والوعي ومعايشة الواقع، لذلك ونظرا لأهمية وخطورة الأمانة التي تحمّلوها، فهم من أكثر النّاس حاجة لأن تُبذل لهم النّصيحة بمعناها الواسع، عملا بحديث النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: “الدِّين النصيحة؛ لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم”، ولفظ “الأئمّة” في الحديث وإن كان المقصود به ابتداءً الحكّام، إلاّ أنّه -كما قال العلماء- يشمل أئمّة الدّين، ومنهم أئمّة المساجد الذين أصبحوا -مع إخوانهم العلماء والدّعاة- أحرص النّاس على إنفاذ شرع الله والعمل به في واقع الأفراد والمجتمعات والدّول، بل لعلّهم أولى النّاس بلفظ “الأئمّة” وحتّى “ولاة الأمر” في هذا الزّمان الذي تخلّى فيه كثير من الحكّام عن واجبهم في حراسة الدّين وسياسة الدّنيا بالدّين.
هناك أساتذة أفاضل، يحملون شهادات عليا، يدرّسون في الجامعات الإسلاميّة، وهناك دعاة لهم خبرة كبيرة في الدّعوة والتّوجيه، يُعهد إلى بعضهم الإشراف على الدورات التكوينية التي تنظّم للأئمّة، كما هناك أئمّة على قدر معتبر من العلم والوعي والاطّلاع؛ فهؤلاء يحقّ لهم أن يوجّهوا النصح لأبنائهم وإخوانهم الأئمّة، ويقوّموا خطاب الأئمّة ويصوّبوا أخطاءهم، بالعلم والحكمة والدّليل والبرهان والكلمة الطيّبة التي يُرجى بها الإصلاح وسدّ الخلل، في رسائل توجّه إلى الأئمّة عبر مجموعاتهم أو إلى أئمّة بعينهم مباشرة، وإن استدعى الأمر أن تنشر النّصائح في منابر عامّة لتعمّ الفائدة، فلا بأس، بالشّرط المذكور.. ومن واجب الأئمّة أن يقبلوا النّصيحة، ولا يظنّوا في أنفسهم الاستغناء عنها، مهما كانت خبرتهم وطول عهدهم بالمنابر وكراسي التّدريس.
استباحة ساحة الأئمّة.. لن تكون عواقبها محمودة
ذاك هو الواجب وهذه هي الطّريق الصّحيحة لنصح أئمّة المساجد، أمّا أن تباح ساحة الأئمّة لكلّ النّاس على اختلاف مستوياتهم وأغراضهم ومآربهم، فهذا لا يستقيم ولا يقبل، بل هو باب شرّ مستطير يؤدّي إلى خلخلة مكانة الأئمّة في المجتمع وإسقاط هيبتهم، ونزع ثقة النّاس ممّن يعتلون المنابر، في زمن تداعى فيه الإعلام العلمانيّ لحرب قدوات الأمّة من العلماء والدّعاة والأئمّة والمصلحين، وإذا امتدّ شرر هذه الحرب إلى الإعلام البديل وإلى وسائل التواصل على الصفحات والمجموعات والقنوات الخاصّة، فإنّ العاقبة لن تكون خيرا للأمّة.. الأئمّة -رغم نقائصهم- هم خطّ الدّفاع الأهمّ والأخير عن الدّين والشّرع والخير والفضيلة، ومنابرهم هي الصّوت الأخير في وجه المنكرات بعد أن خمدت كلّ الأصوات إلا قليلا.
مآرب طّائفية في انتقاد الأئمّة!
إنّه ليس يصحّ ولا يقبل أن يتولّى انتقادَ الأئمّة أتباعُ الطّوائف الذين ينتصرون لطوائفهم ضدّ الأئمّة الذين لا يتبعون لتلك الطّوائف، وتكون الاختيارات الطائفية ميزانا يوزن به خطباء المنابر؛ فدين الله أوسع وأرحب من الأصول التي تقوم عليها الطّوائف، والإمام من واجبه أن ينأى بنفسه وخطابه عن خدمة الطّوائف، ليكون ناطقا باسم دين الله الحقّ، وأتباع الطّوائف -شأنهم شأنَ عامّة المسلمين الذين لا ينتسبون إلى الطّوائف- ينبغي لهم أن يعرفوا للمنبر قدره ومكانته ويحفظوا له هيبته، مهما وجدوا من اختلاف بين خطاب المنبر وما يسمعونه من شيوخ الطّائفة؛ فليس من واجب الإمام أن يرضي طائفة من الطّوائف أو أن يكون دليله الذي يستند إليه هو الدّليل الذي اختاره شيوخ هذه الطّائفة أو تلك، أو يكون مستنده هو ما ترجّح عند شيوخ طائفة أو جماعة معيّنة. ثمّ إنّ الطّوائف المختلفة هي أمام صوت المنبر جزء من الأمّة، يتناولها خطاب الإمام بالانتقاد والتّوجيه والنّصح، وليس هناك من هو فوق الانتقاد ولا من هو فوق النّصح.. الإمام نفسه ليس فوق الانتقاد والنّصح، لكنّ نصحه وانتقاده يكون عبر قنوات تحفظ للمنبر والخطيب هيبتهما ومكانتهما.
مفارقة عجيبة في التفريق بين انتقاد الحكّام وانتقاد الأئمّة!
إنّه لمن العجيب أن تجد بين أتباع بعض الطّوائف من يرى في انتقاد الحكّام والمسؤولين علانية على المنابر المسجدية والإعلامية وعلى منصّات وسائل التواصل الاجتماعيّ، بدعة منكرة ومادّة لشرّ مستطير، في الوقت الذي يرى فيه انتقادَ أئمّة المساجد وحتّى العلماء والدّعاة دعوة وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر! ولسنا ندري هل كون الأئمّة لا يملكون في أيديهم سياطا يجلدون بها الظّهور، يبيح ساحتهم ويسوّغ اتّخاذهم غرضا؟! أ ليس انتقاد الأئمّة بحدّة وتتبّع عثراتهم وأخطائهم ونشرها في العالمين قد يفتح بابا من الشرّ يجعل النّاس يستهينون بالأئمّة والمنابر وحتّى بالمساجد، لحساب المسلسلات والأفلام والبرامج التي تشوّه الوعي وتنشر الخنا وقيم العلمانية المنحرفة؟!
ولاة الأمر الذين تجب طاعتهم وتراعى المصلحة في نصحهم وانتقادهم، هم أولئك الذين يقيمون الدّين ويحرسونه ويسوسون الدّنيا بالدّين، وهذا الوصف كان في قرون خلت ينطبق على الحكّام رغم أخطاء بعضهم ووجود أثرة عند كثير منهم، لكن هل ينطبق هذا الوصف في زماننا هذا على الحكّام الذين ما عاد يهمّهم أن تقوم للدّين قائمة؟ أ ليس العلماء والدّعاة وأئمّة المساجد هم أولى النّاس في زماننا بوصف “أولي الأمر” في قول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)) (النّساء: 59)؟ أ لم يذهب الإمام مالك والإمام أحمد -في رواية- وغيرهما إلى أنّ المراد ﺑأولي الأمر هم “أهل العلم والقرآن مِنْ فقهاء الإسلام، ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خُصُّوا باستنباط الأحكام، وعُنُوا بضبط قواعد الحلال والحرام”؟ في القرون الأولى اختلف العلماء في تحديد المقصود بولاة الأمر، فكيف يصحّ أن يقصر اللفظ على معنى واحد في زماننا هذا ويقال إنّ أولي الأمر هم فقط الحكام، وبالتالي هم وحدهم من تراعى المصلحة والمفسدة في طريقة نصحهم وانتقادهم؟!
أهواء جامحة تحرّك بعض المنتقدين
إنّه ليس يصحّ أن يفسح المجال وتُفتح الأبواب على مصاريعها لضحايا التسرّب المدرسيّ أو لمن وقفوا على ساحل بحر العلم أو من كان منتهى حظّهم من العلم كتيبات قرؤوها وفتاوى متفرّقة سمعوها، ليسلقوا الأئمّة بألسنة حداد أشحّة على الخير، بعد أن يغضّوا أبصارهم وألسنتهم عن الخير الذي ينثره الأئمّة من على منابرهم، في مقابل ضعف أو تقصير أو خطأ يقعون فيه!
من عجائب ما وقفت عليه في خضمّ موضة انتقاد الأئمّة في وسائل التواصل الاجتماعيّ مؤخّرا، أنّي قرأت مرّة منشورا في إحدى المجموعات كتبه أحد المتحمّسين، ينكر فيه على أئمّة إحدى البلديات جميعا من دون استثناء وبكلّ حدّة أنّهم لا يقولون كلمة الحقّ، وحين سألته عن السّاعة التي يحضر فيها إلى المسجد وعن المسجد الذي يصلّي فيه، لأعرف إن كان حكمه مبنيا على واقع تألّم له، أم إنّ الأمر يتعلّق بفرقعات فيسبوكية، ذهلت حين قال لي إنّه يصلّي في البيت! ما يعني أنّه لا إحاطة له بالمواضيع التي يتحدّث فيها الأئمّة ولا بتلك التي يهجرونها أو يتحاشون الحديث فيها!
إنّها إحدى أعاجيب هذا الزّمان، أن تجد عاطلا لا هو في أمر دينه ولا في أمر دنياه، على مستوى متواضع جدا من العلم والوعي، يستغلّ المجال الذي أتاحته وسائط التواصل للتعبير عن الآراء والمكنونات، لينتقد الأئمّة والخطاب المسجديّ، ويضع للأئمّة قائمة بالمواضيع التي يتعيّن عليهم أن يتكلّموا فيها، وأخرى بالمواضيع التي ينبغي لهم أن يتوقّفوا عن الحديث فيها! ومثل هذا عادة ما يريد للأئمّة ألا يخرج حديثهم عن مشاكل الحياة التي تتعلّق بالمصالح الدنيوية المحضة، ولا يريد لخطباء المنابر أن يتكلّموا في العبادات ولا في السيرة ولا التفسير ولا الحديث! يريد للأئمّة أن يتحدّثوا عن معاناة الشّباب مع البطالة وصعوبة تكاليف الزّواج وعن البيروقراطية، ولا يريد لخطباء المنابر أن يتحدّثوا عن إضاعة الصّلوات واتّباع والشّهوات، ولا عن هجر المساجد والقرآن، ولا عن شيوع التبرّج والتخنّث والألبسة المزرية، ولا عن الخيانة الزّوجية والتّفكّك الأسريّ!
نعم، هناك أئمّة يبتعدون ويغيبون أوقاتا طويلة عن الواقع، بل ربّما هناك من إخواننا الأئمّة من يتحاشون الخوض بخطابهم في تفاصيل الواقع إيثارا للسّلامة واجتنابا لردود الأفعال المختلفة، كما أنّ هناك فئة -قليلة- من أحبابنا الأئمّة أدمنوا الخطب الجاهزة، ولا يهتمّون بالحديث عن مشاكل الشّباب ولا عن معاناة النّاس في تحصيل لقمة العيش واستخلاص حقوقهم من بين أنياب القروش الكبيرة.. وهؤلاء الأئمّة ينبغي أن يُنصحوا من طرف الأساتذة والدّعاة وحتّى من طرف إخوانهم طلبة العلم وحتى المثقفين الذين يريدون الإصلاح، عبر قنوات محترمة، بعلم وبكلمات تزيّنها الحكمة ويرصّعها العقل، تراعي مكانة الإمام وتحفظ هيبته وهيبة منبره، مثل ما يكتبه الأستاذة الأفاضل: بلخير طاهر الإدريسي، محمّد تاج الدّين، لخضر رابحي، وغيرهم، على صفحاتهم.
لكن ليس خيرا للأمّة، أن تشرع أبواب انتقاد الأئمّة للمدفوعين بطائفيّة ضيّقة أو بحماسة جامحة تحتاج إلى كبح وترشيد؛ ممّن أضحت الوقيعة في الأئمّة وانتقاد خطباء المنابر في المواقع وفي الواقع، موضة تستهويهم وتستحثّ أناملهم للكتابة وحناجرهم للانتقاد بمناسبة وبغير مناسبة؛ يفسح لهم المجال ليطالبوا الأئمّة بوقف الحديث في العبادات وقصر كلامهم على المعاملات، أو يتحدّثوا في قائمة معيّنة من المواضيع دون غيرها!
دين الله ليس معاملة فقط، والحديث المنسوب إلى النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بلفظ “الدّين المعاملة”، لا يصحّ، ولو صحّ لتعيّن حمله على بيان أهمية المعاملة في الدّين، مثله مثل حديث “الدّين النّصيحة”.. الدّين عبادة ومعاملة، موازنة بين حقّ الخالق وحقوق المخلوقين، بين ما يُصلح الدّنيا وما يصلح الدّين ويقود إلى الفوز في الآخرة.
أئمّة المساجد أبناء زمانهم
الواقع أصبح صعبا ومشاكل الحياة تكاثرت وتشعّبت، والفساد في تنامٍ على كلّ الأصعدة والمستويات، والظّلم طمّ، في العالم كلّه، حتّى غدا الخير غريبا إلا ما رحم الله.. وإصلاح الواقع يحتاج إلى تعاون وتكاتف وتظافر للجهود.. في أزمنة مضت كان عامّة المسلمين يلتفّون حول علمائهم وأئمّة مساجدهم يلتزمون أقوالهم ويصدرون عن فتاويهم، وقد تغيّر الواقع وتبدّلت الحال في زماننا هذا، وما عاد عامّة المسلمين يلتفّون حول أئمّتهم وعلمائهم، بل أضحوا يطالبون العلماء والأئمّة بقول كلمة الحقّ، ثمّ إذا قالها العلماء والأئمّة انتشر العامّة في الأرض يبتغون حظوظهم من الدّنيا من دون أن يلتفتوا إلى ما يصيب العلماء.. كثير من عامّة المسلمين لا يطيعون كلام الأئمّة في نهيهم عن المحرّمات المجمع عليها، بل يصرّون على الحرام، وبعضهم غارقون في الكبائر والصّغائر التي تُعلم حرمتها بالضّرورة من دين الله، ومع ذلك تجد ألسنتهم لا تتوقّف عن الكلام في أئمّة المساجد والدّعاة والعلماء!
صحيح أنّ العالم والإمام يفترض فيهما أن يعتصما بالله أولا، ويقولا كلمة الحقّ لا يخشيان في الله لومة لائم في حقّ القويّ كما يقولونها في حقّ الضّعيف، لكنّنا ينبغي ألا ننسى أنّ كلمة الحقّ تحتاج إلى من يتبنّاها وينافح عنها، ليس بإثارة الفتن والقلاقل، إنّما بالثّبات والنّصرة وتحمّل شيء من التّبعات.
قسوة القلوب وأثرها في النّقمة على الأئمّة والخطباء
بعض النّاقمين على الأئمّة ومن يتكلّمون عن خطباء المنابر تعميما وبألسنة حداد ويقولون بلسان حالهم: “هلك الأئمّة جميعا” تحرّكهم قلوب بلغت بها القسوة مبلغا عظيما، حتّى ما عاد الواحد منهم يطيق مكثا في المسجد ولا سماعا لدرس أو خطبة، حتّى الساعة الوحيدة التي يجّرون فيها أقدامهم إلى المساجد ليصلّوا الجمعة، يستكثرونها ويستثقلونها ويبحثون لأنفسهم عن مبرّرات للتخلّف عنها (ساعة الجمعة)؛ فتارة يتعلّلون بضعف وتدنّي الخطاب المسجدي، وتارة ببعد الأئمّة عن الواقع، وأخرى بسكوت الخطباء عن قول كلمة الحقّ.. وهؤلاء لو بُعث سلطان العلماء العزّ بن عبد السّلام، أو الإمام ابن الجوزي، ليخطبا فيهم، لألفيتهم يجدون لأنفسهم المبرّرات للتخلف عن دروس وخطب هذين الإمامين!. اهـ.
-------------------------------------------
*المصدر موقع جريدة الشروق اليومي الإلكتروني - الجزائر.