ماذا ينجي العبد من النار؟
محمد عطية
تتنوع اهتمامات البشر بين سياسية ورياضية ثقافية ومالية يستيقظ أحدهم ليطالع آخر الأخبار ويطلع على آخر التقارير، وقد كان للصحابة رضوان الله عليهم اهتمامات أيضا لكنها أعمق وأوسع وأشمل، كانت عنايتهم رضوان الله عليهم منصبة على النجاة والفوز والسعادة في الدنيا والآخرة، فيسألون النبي صلى الله عليه وسلم ما النجاة، ويسألونه ماذا ينجي العبد من النار؟ وذلك لأن النار حقيقة واقعة، وهي دار الجزاء التي أعدها الله تعالى للمخطئين الذين انحرفوا عن صراط الله المستقيم كليا أو جزئيا، وفيها من ألوان العذاب المادي والمعنوي ما يرعب القلوب ويزلزل النفوس، لكن الصحابة يعلمون علم اليقين أن هناك وسائل للنجاة من هذا العذاب، لذلك سأل عنها أبو ذر رضي الله عنه.
هذه الوسائل نقوم بها في الدنيا، ومعنى ذلك أن الإنسان لكي يعمر آخرته لابد أن يعمر دنياه أولا، وأن انشغال الإنسان بمستقبله الأخروي لا يعني أن يهمل دنياه، فلا يمكن للإنسان أن يكون له مكان في الجنة إلا إذا كان له مكان بين الصالحين وبين العاملين وبين من يعمرون الأرض وينفعون الناس.
وأحد الأحاديث التي ترشدنا إلى مراكب النجاة من غضب الله تعالى وعذابه حديث أبي ذر حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم مَاذَا يُنَجِّي الْعَبْدَ مِنَ النَّارِ؟
لم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم أن يحذرهم من النار، وأن يدخل الرعب إلى قلوبهم بما فيها من عذاب ونكال وألم وبأس وشدة، بل دلهم على ما ينجيهم من هذه الأهوال.
ولنا في هذا الهدي النبوي درس بل دروس فكثيرا ما نتحدث عن الخطر، لكننا لا نجهد أنفسنا كيف ندفعه، وكيف نخرج من المأزق؟
هذه التربية النبوية الكاملة التي تعلمنا ونحن نتحدث عن المشاكل أن نتسائل كيف نتغلب عليها، إن علينا ونحن نحذر ابنائنا من المخاطر أن نعلمهم وندربهم كيف يتعاملون معها ما هي السفن التي يستقلونها لكي يعبروا إلى بر الأمان.
السفينة الأولى: الإيمان الذي ينجي العبد من نار الآخرة هو الإيمان بالله والذي ينجي العبد من نيران الدنيا من نار القلق واليأس والشك والخوف من المستقبل والخوف من المرض كل هذه نيران يمكن أن تلتهم الإنسان وتفسد عليه حياته ينجيه منها الإيمان بالله واليقين بحكمته ورحمته ولطفه بخلقه الإيمان الراسخ بقوله تعالى {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 82، 83]
مفهوم الإيمان هل يقتصر على ما جاء في حديث جبريل عليه السلام لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»[1]
هل هذا هو الإيمان فقط؟ لقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بتعريفات كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ – أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ – شُعْبَةً»[2]، هذا الحديث يرشدنا إلى أن الإيمان مثل الشجرة التي لها أغصان، وشعب الإيمان هي أغصان الشجرة كلما اكتملت أغصان الشجرة كلما كانت ظليلة تحمل الكثير من الأوراق والثمار، وتفيد البشر والبيئة من حولها، وكلما قلت أغصانها قلت المنفعة منها، وكذلك الإيمان كلما استوفى الإنسان شعبه كلما استكمل الإيمان، ومع أن الجميع من شعب الإيمان إلا أن بينها تفاوت وتفاضل فَأَفْضَلُهَا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم « قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ»[3].
فهم أبو ذر أن الإيمان الصحيح لا يتوقف عند حقائق مستقرة في القلوب أو مشاعر فياضة فحسب، بل هذا الإيمان يحرك الأجساد والأرواح للعمل الصالح الذي فيه رضا الحق، ونفع الخلق، وعمارة الأرض. أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر رضي الله عنه لعدة سفن يمكن له ولكل مسلم أن يستقل إحداها لينجو من عذاب النار وليعبر إلى ضفاف الجنة
أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى مجموعة من الأعمال الصالحة فكلما زاد نصيب الفرد من الإيمان كلما كان له نصيب من هذه الأعمال
السفينة الثانية: الإنفاق
نظرة المسلم للمال أنه مال الله {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } [النور: 33]، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل من الإنفاق سببا للنجاة من النار، فإن العفة والعزة وعدم سؤال الناس إلا في الظروف الصعبة من علامات المؤمن، وهذا الإنفاق مهما كان قليلا له عند الله مكانة {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 40]، وخير الصدقة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى)[4]، فهذا حث على العمل الذي يستعف به الإنسان عن سؤال الناس وينتقل إلى صفوف المتصدقين الباحثين عن سفن النجاة من النار.
وفي الأزمات الاقتصادية لا يملك الكثير من الناس السعة التي يتصدقون من خلالها، بل حتى في الأحوال العادية فالدنيا فيها الغني والمحروم وحتى المحروم من المال إن فاته أن يركب سفينة الإنفاق فلن يفوته أن يركب سفينة أخرى.
السفينة الثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو صمام أمان المجتمعات عندما يتناصح أفراد المجتمع، ويقبلون النصيحة من بعضهم البعض، يدركون الأخطاء ويسعون لإصلاحها، وعندما يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمرا جالبا للعناء والعداء تتراكم الأخطاء وتتحول الانحرافات إلى أصول يبنى عليها، وما أسرع الهلاك إلى مجتمع ينقلب فيه الباطل إلى حق والحق إلى باطل.
ومع فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكونه ميزة هذه الأمة إلا أن الخطوة الأولى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي العلم بالمعروف والمنكر، والعلم بكيفية إيصال الرسالة إلى من نأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر، وإلا قام البعض بالأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، أو قد يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بطريقة تدفع من يأمرونه وينهونه إلى العناد، أو يتحول المنكر من فعل صغيرة إلى كبيرة، أو تتعدى دائرته، ولهؤلاء الذين يغيب عنهم فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهم سفينة أخرى يمكن أن يستقلوها للنجاة من النار.
السفينة الرابعة: مساعدة من لا يستطيعون أن يساعدوا أنفسهم، قسم الله تعالى العقول ومنح بعض خلقه الحكمة وحرم البعض، هذا الفضل العظيم، وجعل نبينا صلى الله عليه وسلم مساعدة من لا يحسنون تدبير أمورهم أحد السفن التي ينجوا عليها المؤمن من نار جهنم فإن عجز عن مساعدة الآخرين فله مكان في السفينة الخامسة.
السفينة الخامسة: نصرة المظلوم، فكما أن الظلم ظلمات يوم القيامة فكذلك في الدنيا يشعر المظلوم بأن الظلمات تحيط به ظلمة القهر وظلمة العجز، فإذا جاء من يمد يده بالمساعدة لكي ينقذ المظلوم ويكف يد الظالم فقد اشترى لنفسه مكانا في أحد سفن النجاة.
السفينة السادسة: كف الأذى، ومن عجز عن كل أنواع المعروف السابقة يفتح له النبي صلى الله عليه وسلم بابا إلى الجنة، وهو كف الأذى الذي يمكن أن يسببه للآخرين،ـ سواء كان الأذى بالحسد أو باللسان أو باليد أو بالقلب أو بالمكر، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
ونلحظ في كل هذه الوسائل التي تنجي العبد من النار أنها عبادات اجتماعية يقوم به الفرد لصالح من حوله، فالإسلام يكره الأنانية ويذم أصحابها، ويفتح النبي صلى الله عليه وسلم أبواب الإيجابية على مصراعيها، فإذا لم تستطع ان تدخل من باب فهناك أبواب أخرى يمكن أن تعبر من خلالها إلى مساعدة الناس ورضوان الله وجنته.
روى الإمام البيهقي في شعب الإيمان عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاذَا يُنَجِّي الْعَبْدَ مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: ” الْإِيمَانُ بِاللهِ ” فقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ مَعَ الْإِيمَانِ عَمَلٌ، قَالَ: ” أَنْ تَرْضَخَ مِمَّا خَوَّلَكَ اللهُ أَوْ تَرْضَخَ مِمَا رَزَقَكَ اللهُ ” قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَا يَجِدُ مَا يَرْضَخُ؟ قَالَ: ” يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ ” قُلْتُ: إِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: ” فَلْيُعِنِ الْأَخْرَقَ ” قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ أَنْ يَصْنَعَ؟ قَالَ: ” فَلْيُعِنْ مَظْلُومًا ” قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُعِينَ مَظْلُومًا؟ قَالَ: ” مَا تُرِيدُ أَنْ تَتْرُكَ لِصَاحِبِكَ مِنْ خَيْرٍ لِيُمْسِكْ أَذَاهُ عَنِ النَّاسِ ” قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ فَعَلَ هَذَا يَدْخُلِ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: ” مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُصِيبُ خَصْلَةً مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ إِلَّا أَخَذَتْ بِيَدِهِ حَتَّى تُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ [5].
[1] صحيح مسلم
[2] صحيح مسلم
[3] صحيح مسلم
[4] الصحيحين
[5] شعب الإيمان (3/205). وسححه الهيثمي والألباني في الصحيحة.