السرور بالحسنة


محمد بن عبد الله السحيم

الإيمانُ أجزلُ منحةٍ ربانيةٍ يُؤتاها عبدٌ؛ بها مَعْقَدُ الفلاحِ والنجاةِ، وأزمّةُ السرورِ مُوثَقَةٌ بشُعَبِها، وبنورِها تُكشفُ حنادسُ الظلماتِ ويُبْصَرُ دربُ الهدايةِ؛ فلا حياةَ إلا بها، ولا ضياءَ إلا بنورِها، يقولُ اللهُ -تعالى-: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. ولمّا كان الإيمانُ أجلَّ المننِ؛ كان طلبُه، واستزادتُه، ورَقْبُ حالِه، وصونُه عمّا يُنْقِصُ تمامَه أو يُذْهِبُ أصلَه، وتعويضُ ما ذهبَ منه؛ ألزمَ ما أولاه المؤمنُ عنايتَه؛ فِقهًا وعملًا.
ومن مجالي ذلك الفقهِ العمليِّ الشريفِ معرفةُ العلاماتِ الدالةِ على بقاءِ الإيمانِ وترحَّلِه، وقوّتِه وضعفِه، وخَلْقِه وتجدُّدِه، واستطعامِ حلاوتِه مما وردَ بتحديدِه نصُّ الكتابِ والسنةِ، والتي من خلالها يَتبصَّرُ المرءُ حقيقةَ إيمانِه؛ ليُحْسِنَ رعْيَ حالِه؛ شُكرًا وصونًا عند وفورِه؛ خوفًا من استلابِه وخَلْقِه، وتقويةً واستدراكًا عند ضعفِه ونقصانِه. هذا وإنَّ من علاماتِ صحةِ القلبِ بالإيمانِ وقرارِه فيه واستقامتِه عليه أنْ يفرحَ المرءُ بما يُوَفَّقُ إليه من عملِ الطاعةِ وإنْ كان من زهرةِ الدنيا مُعْدمًا، ويُسَرُّ بذلك، ويراه من عظيمِ إنعامِ الله عليه دون إعجابٍ بعملٍ؛ لتيَقُّنِه أنه محضُ منَّةٍ ربانيةٍ، واستشعارِه القصورَ في توفيةِ العبادةِ حقَّها، وأنْ يحزنَ على ما اقترفتْ يداه من عملِ السيئاتِ، ويسوءه بقاؤها في صحيفتِه، وعَرْضُها عليه بين يدي اللهِ؛ فذاك -لَعَمْرُ اللهِ- مَعْلَمٌ للإيمانِ عظيمٌ. كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ *سَرَّتْهُ *حَسَنَتُهُ، وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ؛ فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ» (رواه الترمذيُّ وصحّحَه الألبانيُّ).
بغلبةِ حالِ السرورِ بالطاعةِ والحُزنِ بالسيئةِ يَبينُ للإيمانِ كمالٌ، ولأصلِ شجرتِه تجذُّرٌ ورسوخٌ؛ يدلُّ عليه استغراقُ اللفظِ في سياقِ الشرْطِ والإشارةُ إليه بالاسمِ البعيدِ: «فذلك المؤمنُ». وذاك ما جعلَ أمَّ المؤمنينَ عائشةَ -رضيَ اللهُ عنها- تكتفي به في وصْفِها جُمَلَ الإيمانِ حين سألَها رجلٌ: مَا الْإِيمَانُ؟ فَقَالَتْ: أُفَسِّرُ أَوْ أُجْمِلُ؟ قَالَ: أَجْمِلِي، فَقَالَتْ: ***مَنْ *سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ، وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ؛ فَهُوَ مُؤْمِنٌ. (رواه ابنُ أبي شيبةَ).

أيها المسلمون!
إنّ الدلالةَ المستوحاةَ على صدقِ الإيمانِ من فرحِ العبدِ بالحسنةِ ومَساءتِه بالسيئةِ ناشئٌ من صدقِ اليقينِ بجعلِ اللهِ -سبحانه- تلك الحسنةَ حسنةً، وجعْلِه السيئةَ سيئةً، ومجازاتِه عليها ثوابًا وعقابًا؛ وذاك صريحُ الإيمانِ. كما أنّ ذلك يَحملُ في طياتِه التصديقَ بأسماءِ اللهِ وصفاتِه؛ حين يكونُ باعثَ سرورِ الطاعةِ رجاءُ قَبولِها من لدنْ ربِّه الكريمِ الرحيمِ المحسنِ التوابِ الشكورِ الغفورِ؛ إذ هي مَحضُ مِنَّتِه وتوفيقِه -جلّ وعلا-؛ جادَ بها ابتداءً؛ فكان الرجاءُ فيه معقودًا بتقبُّلِها جزاءً. وهكذا الحُزنُ بمقارفةِ المآثمِ مُشْعِرٌ باستحضارِ اسمِ الرقيبِ والشهيدِ والحَكَمِ والعليِّ والمَلِكِ الذي لا يَعزُبُ عنه مثقالُ ذرةٍ في السماواتِ ولا في الأرضِ ولا أصغرُ من ذلك ولا أكبرُ إلا في كتابٍ مبينٍ؛ فيَعْظُمُ خوفُه وحياؤه من ربه، وذاك دليلُ إيمانٍ! والفرحُ بالطاعةِ إيمانٌ؛ إذ هو فرحٌ بفضلِ اللهِ على عبدِه ورحمتِه به حين وفَّقَه لفعلِها؛ وذاك أعظمُ الفرحِ المأمورِ به شرعًا، كما قال -تعالى-: {قُلْ *بِفَضْلِ *اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
وكيف لا يكونُ ذلك السرورُ وهو من حلاوةِ الإيمانِ التي هي مَظهرٌ من مظاهرِ حكمةِ اللهِ وكرمِه؛ إذ به يَرى العبدُ الأثرَ الحسنَ للطاعةِ؛ فينشرحُ صدرُه بها، ويُكْثِرُ الازديادَ منها، يقولُ ابنُ القيمِ: وسمعتُ شيخَ الإسلامِ ابنَ تيميَّةَ ــ قدَّسَ اللهُ روحَه ــ يقولُ: إذا لم *تجدْ *للعملِ *حلاوةً في قلبِك وانشراحًا فاتَّهمْهُ، فإنَّ الربَّ -تعالى- شكورٌ. يعني: أنَّه لا بدَّ أنْ يُثيبَ العاملَ على عملِه في الدُّنيا مِن حلاوةٍ يجدُها في قلبِه وقوَّةٍ وانشراحٍ وقرَّةِ عينٍ، فحيثُ لم يجدْ ذلك فعملُه مدخولٌ. والقصدُ: أنَّ السرورَ باللهِ وقربَه وقرةَ العين به تبعثُ على الازديادِ من طاعتِه وتحثُّ على السيرِ إليه.
قال ضَيْغَمُ بنُ مالكٍ: رَأَيْتُ الْمُجْتَهِدِين َ *إِنَّمَا *قَوُوا عَلَى الاجْتِهَادِ بِمَا يَدْخُلُ قُلُوبَهُمْ مِنَ الْحَلاوَةِ فِي الطَّاعَةِ. والسرورُ بالحسنةِ من تحقيقِ وعْدِ الله بزيادةِ الحُسْنِ فيها، واللهُ لا يُخلِفُ الميعادَ، قال -تعالى-: {وَمَنْ *يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}. وغالبًا ما يكونُ السرورُ بالطاعةِ داعيًا إلى المداومةِ عليها، بل قد يكونُ سببًا في التوفيقِ لعملِ طاعاتٍ أُخَرَ تُفضي به إلى صراطِ الثباتِ لِتُسْلِمَهُ إلى عُقبى حُسْنِ الخاتمةِ؛ وذلك من زيادةِ الحُسن في الحسنةِ.
كانَ ابْنُ السمّاكِ يَقُولُ: إِذا فعلتَ الْحَسَنَةَ؛ فافرحْ بهَا، *واستقْلِلْها؛ فَإنَّك إِذا استقللَتَها زِدْتَّ عَلَيْهَا، وَإِذا فرحتَ بهَا عدّتَ إِلَيْهَا. وذاك السرورُ من عاجلِ بشرى المؤمنِ إنْ أظهرَ اللهُ عملَه للناسِ، وأثْنَوْا عليه به خيرًا، حين كان مبدؤه للهِ خالصًا. قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ الرجلَ يعملُ العملَ من الخيرِ، ويحمدُه الناسُ عليه؟ قال: «تلك عاجلُ *بشرى *المؤمنِ» (رواه مسلمٌ).
عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَهُمْ، وَأَظْهَرَ الْجَمِيلَ مِنْ أَحْوَالِهِ؛ فَسُرَّ بِحُسْنِ صَنِيعِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَنَظَرِهِ لَهُ، وَلُطْفِهِ بِهِ حَيْثُ كَانَ يَسْتُرُ الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ ، فَأَظْهَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الطَّاعَةَ وَسَتَرَ الْمَعْصِيَةَ؛ فَيَكُونُ فَرَحُهُ بِذَلِكَ،لَا بِحَمْدِ النَّاسِ وَقِيَامِ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، أَوْ يَسْتَدِلُّ بِإِظْهَارِ اللَّهِ الْجَمِيلَ وَسَتْرِ الْقَبِيحَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُ كَذَلِكَ يَفْعَلُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ فيُسَرُّ بذلك، كما قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَذْنَبَ فِي الدُّنْيَا ذَنْبًا، فَعُوقِبَ بِهِ، فَاللهُ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عُقُوبَتَهُ عَلَى عَبْدِهِ، وَمَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فِي الدُّنْيَا، فَسَتَرَ اللهُ عَلَيْهِ، وَعَفَا عَنْهُ، *فَاللهُ *أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ فِي شَيْءٍ قَدْ عَفَا عَنْهُ» (رواه أحمدُ وصحَّحَه الحاكمُ ووافقَهُ الذهبيُّ وحسَّنَه ابنُ حجرٍ). وهكذا يَرى المؤمنُ حين تسوؤه سيئتُه وتُحزِنُه شؤمَها عليه؛ فيندمُ عليها، ويَنْكَفُّ عنها، ويأتي بالحسناتِ الماحيةِ لها؛ وذاك برهانٌ على صحةِ إيمانِه.

أيها المسلمون!
إنّ لمآثرِ أهلِ الإيمانِ أحوالًا رائقةً مع سرورِهم بالطاعاتِ حين كانتْ قرةَ عيونِهم؛ تُطْمِعُ العبدَ في محبتِهم واقتفاءِ آثارِهم؛ ليَبْلُغَ بصدقِ محبتِه ما قَصُرَ عنه عملُه في اللحاقِ بركبِ الفائزين. يقودُ أولئك الركبَ المباركَ قدوتُهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذ كان يُفْصِحُ عن سلْوتِه وينبوعِ سعادتِه بقولِه: «وجُعلتْ قرةُ عيني في الصلاةِ» (رواه أحمدُ وصحَّحَه الألبانيُّ) ، فكان يستريحُ من عناءِ الدنيا بتلك الصلاةِ التي كان بها سرورُه بمناجاتِه ربَّه -سبحانَه-؛ فكثيرًا ما كان يُخاطِبُ مؤذِّنَه بلالًا -رضيَ اللهُ عنه- قائلًا: «يَا بِلَالُ، أَقِمِ الصَّلَاةَ؛ *أَرِحْنَا *بِهَا» (رواه أبوداودَ وصحَّحَه الألبانيُّ).
قَالَ مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ: مَا *تَلَذَّذُ بِمِثْلِ الْخَلْوَةِ بِمُنَاجَاةِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-. ومنهم مَن كان تلذُّذُه في صَفِّ قدميه بين يدي ربِّه مُتهجِّدًا في جوفِ الليلِ البهيمِ، قال أبو سليمانَ الدَّارانيُّ: أهلُ الطاعةِ في ليلِهم ألذُّ من أهلِ اللهوِ بلهوِهم، وربّما استقبلني الفرحُ في جوفِ الليلِِ، وربّما رأيتُ القلبِ يضحكُ ضِحْكًا.
وقال بعضُهم: ما بقيَ من لذاتِ الدنيا إلا ثلاثٌ: قيامُ الليلِ، ولقاءُ الإخوانِ، وصلاةُ الجماعةِ.
ومنهم مَن كان سرورُه الإيمانيُّ في سماعِ القرآنِ والتأثرِ به، قال فضلُ الرقاشيُّ: مَا *تَلَذَّذَ الْعَابِدُونَ، وَلَا اسْتَطَارَتْ قُلُوبُهُمْ بِشَيْءٍ كَحُسْنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ، وَكُلُّ قَلْبٍ لَا يُجِيبُ عَلَى حُسْنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ فَهُوَ قَلْبٌ مَيِّتٌ. وَأَيُّ عَيْنٍ لَا تَهْمُلُ عَلَى حُسْنِ الصَّوْتِ إِلَّا عَيْنُ غَافِلٍ أَوْ لَاهٍ؟.
ومنهم مَن كانت لذتُه في ذِكْرِ ربِّه وحبِّه، قال أبو حازمٍ: مَا *تَلَذَّذَ الْمُتَلَذِّذُو نَ وَلَا تَنَعَّمَ الْمُتَنَعِّمُو نَ بِمِثْلِ حُبِّ اللَّهِ وَذِكْرِ اللَّهِ. بل كان استشعارُهم بحِباء اللهِ لهم نعمةَ الإسلامِ أعظمَ ما تقرُّ به عيونُهم. قال عونُ بنُ عبدِاللهِ: إنّ من أعظمِ الخيرِ أنْ ترى ما أُوتيتَ من الإسلامِ عظيمًا عند ما زُويَ عنك من الدنيا.
قال ابنُ القيمِ: وَلَوْلَا جهلُ الأكثرين بحلاوةِ هَذِه اللَّذَّةِ وَعِظَمِ قدْرِهَا؛ لتجالدوا *عَلَيْهَا *بِالسُّيُوفِ، وَلَكِن حُفَّتْ بحجابٍ من المكارهِ، وحُجِبوا عَنْهَا بحجابٍ من الْجَهْلِ؛ لِيختصَّ اللهُ لَهَا من يَشَاءُ من عبادِه، وَاللهُ ذُو الْفضلِ الْعَظِيمِ.
أيها المؤمنون!
وثمَّةَ فرحٌ دالٌّ على وَهاءِ الإيمانِ في القلبِ، وتعرُّضِه لخطرٍ قد يَجتاحُ أصلَه؛ ذلكم الفرحُ بتيسُّرِ الذنبِ ومقارفتِه، وما يدلُّ عليه من الاستبشارِ به، والمجاهرةِ والتحدثِ به، وتزيينِه للناسِ، وذلك من أشدِّ الأمورِ خطرًا على صحةِ الإيمانِ؛ إذ كيف يَجتمعُ صدقُ إيمانٍ باللهِ مع محبةِ ما يبغضُه ويَنهى عنه؟! وذلك لا يعني العصمةَ من مقارفةِ الذنبِ؛ إذ ذاك لازمٌ كلَّ بشرٍ، ولكنَّ الشأنَ بالفرحِ بذلك الأمرِ المذمومِ. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى *إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ ستره الله، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ الله عنه» (رواه البخاريُّ ومسلمٌ).
قال العلماءُ: وفي المجاهرةِ بالمعاصي استخفافٌ بحقِّ اللهِ وحقِّ رسولِه، وضربٌ من العنادِ لهما؛ فلذلك قال -عليه السلامُ-: «كلُّ أمتي معافى إلا المجاهرين» .
قال يونسُ بنُ العوامِ: كان يُقال: *الابتهاجُ *بالذنبِ أشدُّ من ركوبِه.
وقال ابنُ القيمِ: *الْفَرَحُ بِالْمَعْصِيَةِ دَلِيلٌ عَلَى شِدَّةِ الرَّغْبَةِ فِيهَا، وَالْجَهْلِ بِقَدْرِ مَنْ عَصَاهُ، وَالْجَهْلِ بِسُوءِ عَاقِبَتِهَا وَعِظَمِ خَطَرِهَا، فَفَرَحُهُ بِهَا غَطَّى عَلَيْهِ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَفَرَحُهُ بِهَا أَشَدُّ ضَرَرًا عَلَيْهِ مِنْ مُوَاقَعَتِهَا. وَالْمُؤْمِنُ لَا تَتِمُّ لَهُ لَذَّةٌ بِمَعْصِيَةٍ أَبَدًا، وَلَا يَكْمُلُ بِهَا فَرَحُهُ، بَلْ لَا يُبَاشِرُهَا إِلَّا وَالْحُزْنُ مُخَالِطٌ لِقَلْبِهِ، وَلَكِنَّ سُكْرَ الشَّهْوَةِ يَحْجُبُهُ عَنِ الشُّعُورِ بِهِ، وَمَتَى خَلا قَلْبُهُ مِنْ هَذَا الْحُزْنِ، وَاشْتَدَّتْ غِبْطَتُهُ وَسُرُورُهُ فَلْيَتَّهِمْ إِيمَانَهُ، وَلْيَبْكِ عَلَى مَوْتِ قَلْبِهِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَأَحْزَنَهُ ارْتِكَابُهُ لِلذَّنْبِ، وَغَاظَهُ وَصَعُبَ عَلَيْهِ، وَلَا يُحِسُّ الْقَلْبُ بِذَلِكَ، فَحَيْثُ لَمْ يُحِسَّ بِهِ فَمَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامٌ. وَهَذِهِ النُّكْتَةُ فِي الذَّنْبِ قَلَّ مَنْ يَهْتَدِي إِلَيْهَا أَوْ يَنْتَبِهُ لَهَا، وَهِيَ مَوْضِعٌ مَخُوفٌ جِدًّا، مُتَرَامٍ إِلَى هَلَاكٍ إِنْ لَمْ يُتَدَارَكْ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: خَوْفٍ مِنَ الْمُوَافَاةِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَنَدَمٍ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ اللَّهِ بِمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، وَتَشْمِيرٍ لِلْجِدِّ فِي اسْتِدْرَاكِهِ.


ذاكم -يا عبادَ اللهِ- قَبَسٌ مِن سَنا سرورِ الحسنةِ ولذُّةِ إيمانِها؛ فارقبوه في طاعاتِكم!
قسمًا بربِّك إنَّ لذةَ طاعةٍ... لَتَفُوقُ لذاتِ الحُطامِ الفاني