أخلاق خاتم الأنبياء وإعجازها
أمل حميد محمد العوفي
شكر وتقدير
الحمد لله تبارك وتعالى حمداً كما يحب ويرضى، وأشكره شكراً كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، فهو سبحانه ولي كل نعمة، وبتوفيقه تتم الصالحات، وأصلي وأسلم على نبيه سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه والسائرين على سنته إلى يوم الدين.
ثم امتثالاً لتوجيه النبي الكريم عليه أزكى التحية والتسليم كما جاء في الحديث النبوي الشريف " من لا يشكر الناس، لا يشكر الله "[1]، أرى من الواجب أن أسجل جزيل شكري وفائق تقديري لكل من أولاني معروفاً بتوجيه أو تشجيع خلال إنجازي لهذا البحث، ولاسيما لأستاذي المشرف على البحث سعادة الدكتور توفيق علوان، الذي كان لتوجيهه ونصائحه الأثر الكبير في تصحيح مسار هذا البحث.
هذا ولا يفوتني في الختام أن أشكر لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية متمثلة في القائمين عليها - لتهيئة الفرص الثمينة للدراسة، وتوفير التسهيلات التي ساعدتني على إنجاز العمل على الوجه المنشود.
لأولئك جميعاً، ولسائر أهل الفضل علي، أقدم شكري ودعائي لهم بمزيد من فضل الله تعالى وحسن الختام، إنه سميع مجيب.
تمهيد:
الحمد لله رب العالمين، الهادي إلى صراطه المستقيم، والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد النبي الأمي الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، الذي أرسى قواعد الدين ورسم معالم التشريع الحكيم، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
والحمد للّه الذي شهدت له بالربوبية جميعُ مخلوقاته، وأقرَّت له بالإِلهية جميع مصنوعاته، وشهدت بأنّه اللّه الذي لا إلهَ إلا هو بما أودعها من عجائب صنعته، وبدائع آياته، وسبحان اللَّهِ وبحمده، عدد خلقه، ورِضَى نفسه، وَزِنَةَ عرشه، ومِدَاد كلماته. ولا إِلهَ إلا اللّه وحده، لا شريك له في إِلاهيته،كما لا شريك له في ربوبيته، ولا شبيه له في ذاته ولا في أفعاله ولا في صفاته، واللّه أكبر كبيراً، والحمد للّه كثيراً، وسبحان اللّه بكرة وأصيلا، وسبحان من سبَّحت له ا لسماواتُ وأملاكُها، والنجومُ وأفلاكها، والأرضُ وسكانها، والبحارُ وحِيتانها، والنجومُ والجبال، والشجر والدواب، والآكامُ والرّمال، وكلُّ رطب ويابس، وكل حي وميت ﴿ تُسَبّحُ لَهُ السّمَاوَاتُ السّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنّ وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـَكِن لاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾ [2].
وأشهد أن لا إِله إلا اللّه وحدَه لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله، كلمةٌ قامت بها الأرضُ والسماوات، وخُلِقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل اللّه تعالى رسلَهُ، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه، ولأجلها نُصِبَتِ الموازينُ، ووضِعَتِ الدواوين، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار، والأبرارِ والفجار، فهي منشأُ الخلق والأمر، والثوابِ والعقاب، وهي الحقُّ الذي خلقت له الخليقة، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب، وعليها يقع الثوابُ والعقابُ، وعليها أُسِّستِ المِلة، ولأجلها جُرِّدَتْ سيوفُ الجهاد، وهي حقُّ اللَّهِ على جميع العباد، فهي كلمةُ الإِسلام، ومفتاح دار السلام، وعنها يسأل الأولون والآخرون، فلا تزول قدما العبد بين يدي اللّه حتى يسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجَبتُم المرسلين؟ فجواب الأولى بتحقيق ((لا إله إلا اللّه)) معرفةً وإقراراً وعملاً،وجواب الثّانية بتحقيق ((أن محمَّداً رسول اللّه)) معرفةً وإقراراً، وانقياداً وطاعةً.
إنني لن أستطيع أن ألزم الحياد في بحثي هذا عن أحبّ إنسان الى قلبي: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنني لا أكتب عن زعيم سياسي قدّم لشعبه أطروحته وعرض على أتباعه فكرته، ليقيم دولة في زاوية من زوايا الأرض، بل أكتب عن رسول ربّ العالمين، المبعوث رحمة للناس أجمعين. ولن ألزم الحياد وأنا أكتب عنه؛ لأنني لا أكتب عن خليفة من الخلفاء له جنود وبنود ولديه حشود وعنده قناطير مقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسّومة والأنعام والحرث، ولكنني أكتب عن الرحمة المهداة والنعمة المسداة: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولن ألزم الحياد لأنني لا أتكلم عن سلطان من السلاطين قهر الناس بسيفه وسوطه، وأخاف الناس بسلطانه وهيمانه وصولجانه، لكنني أتكلم عن معصوم شرح الله صدره ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره.
ولن ألزم الحياد لأنني لا أتكلم عن شاعر هدّار، أو خطيب ثرثار، أو متكلم موّار، أو فيلسوف هائم، أو روائي متخيل، أو كاتب متصنّع، أو تاجر منعم، بل أتحدث عن نبي خاتم، نزل عليه الوحي، وهبط عليه جبريل، ووصل سدرة المنتهى، له شفاعة كبرى، ومنزلة عظمى، وحوض مورود، ومقام محمود، ولواء معقود، فكيف ألزم الحياد إذاً؟ إنني أكتب عن أسوة وإمام جليل، أصلي فأذكره لأنه يقول: (( صلوا كما رأيتموني أصلي))[3]، أحجّ فأذكره لأنه يقول: ((لتأخذوا عني مناسككم))[4]، في كل طرفة عين أذكره لأنه يقول: ((من رغب عن سنتي فليس مني))[5]، وفي كل لحظة أذكره لأن الله يقول: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [6]
أسباب البحث في ها الموضوع:
لم يكتب لأحدٍ من البشر من الأثر والخلود والعظمة ما كتب لصاحب الخلق الكريم - صلى الله عليه وسلم،ولقد دونت في سيرته الكتب، ودبجت في مديحه القصائد، وعمرت بذكره المجالس، وبقيت عظمته قمة سامقة لاتطالها الظنون تقلبت به صروف الحياة من قوة وضعف، وغنى وفقر، وكثرة وقلة، ونصر وهزيمة، وظعن وإقامة، وجوع وشبع، وحزن وسرور، فكان قدوة في ذلك كله، وحقق عبودية الموقف لربه كما ينبغي له. ظل في مكة ثلاث عشرة سنة، وما آمن معه إلا قليل، فما تذمّر ولا ضجر، وجاءه أصحابه يشتكون إليه ويسألونه الدعاء والاستنصار فحلف على نصر الدين وتمام الأمر، وأنكر عليهم أنهم يستعجلون، فكان الأمر كما وعد، علماً من أعلام نبوته، ونصراً لأمر الله، لا للأشخاص. وكان من نصره أن تأتيه وفود العرب من كل ناحية مبايعة على الإسلام والطاعة فما تغير ولا تكبّر، ولا انتصر لنفسه من قوم حاربوه وآذوه وعاندوا دينه.
إن البحث في هذا الموضوع مِدَادُهُ دَمُ قلبي، ورقعته مُهْجَةُ نفسي، أحرره دفاعاً عن أحبِّ حبيب، وأرقُمه ذوداً عن أزكى مخلوق وأطهر بشر: محمد بن عبدالله، رسول رب العالمين، وخاتم الأنبياء والمرسلين. ونتيجة لما اطلعت عليه ما تناقلته بعض وكالات الأنباء من اقتراف الصحيفة الدنمركية (جيلاندز بوستن/Jyllands-Posten) لخطأ شنيع وانحرافٍ فظيع بنشرها ( 12 ) رسماً ( كاريكاتيرياً ) أو ساخراً يوم الجمعة 26 شعبان 1426هـ / 30 سبتمبر 2005 تصور الرسول في أشكال مختلفة، وفي أحد الرسوم يظهر مرتدياً عمامة تشبه قنبلة ملفوفة حول رأسه! وإمعاناً في غَيِّها طلبت الجريدة من الرسَّامين التقدم بمثل تلك الرسوم لنشرها على صفحاتها.
ولما بلغني الخبر كدَّرني كثيراً وأصابني بهمٍّ كبير، وأحزنني حزناً عظيماً، وقد عمدتُ بنفسي للنظر في موقع الصحيفة المذكورة على شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت)، حتى وقفت على موقع الجريدة (Jyllands-Posten) في صفحاتها الصادرة بتاريخ 30 سبتمبر 2005م، فكان الخبر ليس كالمعاينة، حيث هالني ما رأيته، واقشعر جسمي، وبلغ بي ذلك كل مبلغ في النكير والاستهجان والامتعاض.
وهكذا كان الشأن عند عامة أهل الإسلام ممن بلغهم الخبر، حيث كان هذا العمل محل انتقاد واستهجان لديهم، ولدى غيرهم من العقلاء في أرجاء الأرض. وقد عمد إخواننا المسلمون في الدنمرك، ومعهم غيرهم من المواطنين الدنمركيين، وكذلك غيرهم من المقيمين في الدنمرك إلى إنكار هذه السخرية التي نالت أشرف إنسان في التاريخ.
فكُتبت المقالات ووُجهت الرسائل إلى الحكومة الدنمركية وإلى الصحيفة المعنية، مطالبين بالاعتذار عن هذا العمل والكَفِّ عن مثله مستقبلاً. وقد تظاهر في شهر أكتوبر الماضي أكثر من (5000 ) مسلم وغيرهم من المتعاطفين معهم في العاصمة كوبنهاجن ضد الصحيفة، وما يفوق المليون شخص في دول العالم الإسلامي وطالبوها بالاعتذار. غير أن السلطات الدنمركية ومسئولي الصحيفة رفضوا ذلك بمبررات حرية الإعلام والتعبير، وأنه لا شيء يستثنى من شموليته وحريته!!.
ولا زال مسئولو صحيفة ( جيلاندز بوستن / Jyllands-Posten ) والحزب الحاكم الذي تنتمي إليه يرفضون الاعتذار، وينوون الاستمرار في منهجهم المتهجم على الرسول الكريم الذي قال الله له: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [7]، متجاهلين بذلك المواثيق والأعراف الدولية، غير مبالين بالاعتراضات المقدمة إليهم. فلذلك فإنه من الواجب الدفاع عن حبيبنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. إننا إذا تأملنا في خلفيات هذه التهجمات فلنا أن نقول أن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أزكى البشرية. وأذكِّر الشعب الدنمركي وغيره من الشعوب النصرانية وغيرهم من أمم الأرض أن هذه السخريات ما هي إلا محض افتراء وكذب. فمحمدٌ رسول الله هو أطهر البشرية جمعاء وأزكاها، ولن تضيره هذه السخرية مهما عظمت أو تكاثرت، كما أخبرنا بذلك ربُّنا في القرآن العظيم. ونحن نعتقد أن الله سبحانه سيحمي سُمعة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام ويصرف عنه أذى الناس وشتمهم بكل طريق، حتى في اللفظ. ففي " الصحيحين" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: " ألا ترونَ كيف يَصْرِفُ الله عنِّي شَتْمَ قريشٍ ولعنَهم، يشتمون مُذَمَّمَاً، ويلعنون مُذَمَّمَاً، وأنا مُحَمَّدٌ ". فنَزَّه الله اسمَه ونَعْتَه عن الأذى، وصرف ذلك إلى من هو مُذَمَّم، وإن كان المؤذِي إنما قصد عينه".
إن تلك الرسوم التي دعت الجريدة الرسامين لرسمها ونشرتها على صفحاتها، إنها قطعاً لا تمثل رسول الله محمداً، لا في رسمها، ولا في رمزها. لا في رسمها: أي ملامح الوجه، فوجه محمد هو الضياء والطهر والقداسة والبهاء، وجهه أعظم استنارةً وضياءً من القمر المسفر ليلة البدر، وجه محمد يفيض سماحةً وبِشْراً وسروراً، وجه محمد له طلعةٌ آسِرَةٌ، تأخذ بلب كل من رآه إجلالاً وإعجاباً وتقديراً. ولا في رمزها: فمحمد ما كان عابساً، ولا مكشراً، وما ضرب أحداً في حياته، لا امرأة ولا غيرها[8].
تقول عائشة زوج رسول الله، ورضي الله عنها: ما خُيِّرَ رسول الله بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله لنفسه، إلا أن تُنْتَهَكَ حُرمة الله فينتقم لله بها " رواه البخاري ومسلم.
وإنه لمن الحسرة والبؤس على الصحيفة الدنمركية وعلى حكومة الدنمرك أن يكون مجرد علمهم عن محمد رسول الله هو ما استهزؤوا به، مما أوحت به إليهم الأنفس الشريرة، وصدق الله: ﴿ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ﴾[9].
وأدعو هؤلاء المستهزئين برسول الله محمد عليه الصلاة والسلام، وأدعو غير المسلمين لأن يشرفوا أنفسهم بالاطلاع على سيرته عليه الصلاة والسلام، ليطلعوا على كمال الإنسانية في شخصه عليه الصلاة والسلام. وقد شهد لمحمد عقلاءُ البشر ومثقفوهم، حتى من أهل الملل الأخرى، شهدوا له بالنُّبل والطهر والفضائل الجمَّة، وسأورد طرفاً من تلك الشهادات في آخر هذا البيان.
الغاية من البحث:
إن البحث في موضوع أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم واجب على كل مسلم في معرفة أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وبيان أخلاقه السامية. كما أن ما حدث أخيرا، أحيا كثيرا من القضايا المتعلقة بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم، كادت أن تغيب، فتموت بين الحوادث المتداخلة من حروب، واحتلال، وكوارث، وأموال وتجارات ملهية، وفتن وشهوات مفسدة، وغفلة عن الله تعالى والدار الآخرة! لقد تسبب المسيئون الى شخص الرسول الكريم في يقظة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيامها بدينها، واعتزازها بنبيها، وتعاليمه. فهمت حقيقة الصراع بين الإيمان والكفر، والولاء والبراء، وأدركت معاني الآيات: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آل عمران: 118 - 120] ﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم ْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ﴾ [البقرة: 217]. إن البحث في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وبيان إعجاز أخلاقه الكريمة غايته الإنتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم. إن البحث في أخلاق النبي غايته محاربة ما يشاع من مثل تلك الأقوال السخيفة المخجلة؛ فإن الرسالة التي أدَّاها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً لنحو مائتي مليون من الناس. أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائقة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة،ونحن إذ ندافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحمي بذلك ديننا وعقيدتنا، ونؤكد شيئاً من حبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وبالإضافة الي ذلك كله فإن البحث في هذا الموضوع يهدف الي التأكيد على أربعة نقاط هامة هي كالتالي:
أولاً: دعوى حرية التعبير لا تجيز الإساءة لأحد.
إن ادعاء صحيفة ( Jyllands-Posten ) حرية التعبير في نشرها لتلك الرسوم الساخرة من محمد رسول الله، ادعاءٌ غير مسلَّم ولا مقنع، لأن جميع دساتير العالم ومنظماته تؤكد على احترام الرسل، وعلى احترام الشرائع السماوية، واحترام الآخرين وعدم الطعن فيهم بلا بينة.
وعلى الصحافيين الجديرين بصفتهم هذه أن يؤمنوا أن من واجبهم المراعاة الأمينة للمبادئ التي تم ذكرها. ومن خلال الإطار العام للقانون في كل دولة). ولذلك حين نطالب الصحيفة والحكومة الدنماركية بالاعتذار وبمنع تلك الإساءات لاحقاً فإننا نعتمد أيضاً على ميثاق صحفي شريف، جاء فيه: (سيقوم الصحافي ببذل أقصى طاقته لتصحيح وتعديل معلومات نشرت ووجد بأنها غير دقيقة على نحو مسيء).
ولا شك أن ما نشرته صحيفة (Jyllands-Posten) الدنماركية مسيءٌ لأكثر من مائتي ألف من مواطني الدنمارك، ومسيءٌ لأكثر من مليار وثلاثمائة مليون شخص، ومعهم غيرهم من المنصفين من أصحاب الملل الأخرى، كلهم يعظمون رسول الله محمد.وسيبقى ذلك العمل مُسيئاً لكل المسلمين ما بقيت هذه الحياة على وجه الأرض، وستبقى الدنمارك - إذا لم تعالج هذه الإساءة - مصدر قرف واشمئزاز، بسبب بعض العقليات التي تقطن فيها،وتعادي الرُّسَلَ والشرائع السماوية وتسخر بها.
ثانياً: السخرية بالأنبياء لن تزيد العالم إلا شقاءً.
إنه لا يخفى أن العالم اليوم يشهد اضطرابات عديدة، أريقت فيها الدماء وأزهقت الأرواح، بغياً وعدواناً، بما يجعلنا أحوج ما نكون لنشر أسباب السلم والعدل، وخاصةً احترام الشرائع السماوية واحترام الأنبياء والمرسلين. فهذا المسلك يتحقق به حفظ ضرورات البشر في أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وغير ذلك من حقوقهم ومقومات عيشهم الكريم. وإن مثل هذه الأطروحات العدائية والاستفزازية لن تزيد العالم إلا شقاءً وبؤساً، ذلك أننا جميعاً بحاجة لمصادر الرحمة والهدى، والتي يسَّرها رب العالمين على يدي رسوله محمد، فكان المستهزئون به عليه الصلاة والسلام، المشوهون لحقيقة حياته ورسالته ممن يَصُدُّ الناس عن الخير ويمنع من استقرار العالم وطمأنينته. وهذا الصنف من الناس توعده الله في كتابه ونَدَّدَ بسوء فعالهم: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ﴾[10].
وإنَّه لمن المؤسف لحال البشرية اليوم، مع ما وصلت إليه من التقدم في مجالات عديدة من علوم الدنيا، بما تتضمنه من الاكتشافات المبهرة، ثم يأتي في هذا الخضم من العواصم التي تدَّعي التحضر أصواتٌ مبحوحة وكتابات ساقطة تتردى معها تلك المجتمعات بسبب إسقاطات أخلاقية نحو المقدسات.
ثالثاً: الاستهزاء بالأنبياء مسلك الأشرار.
إن تلك الإساءة التي نشرتها صحيفة (جيلاندز بوستن) لم تخرج عن طريقة أصحاب المناهج الشريرة، الذين الذي حاربوا الأنبياء والمصلحين. وهذا ما أخبرنا الله به عنهم في القرآن الكريم: فقال تعالى: ﴿ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴾ [11]، وقال سبحانه عن اليهود: ﴿ كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ ﴾ [12]، وقال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [13].
رابعاً: الله يهدي من يشاء.
إن الصفات الحميدة، والخلق القويم، والسمات المعجزة هي التي مهدت الطريق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتخطت المصاعب.إن كثير من العالم الغربي قد شهد بإعجاز خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتميز شخصيته، وعلو شأنه، ونذكر هنا القليل من الكثير الذي ذكر:
1- يقول البروفيسور ( راما كريشنا راو ) في كتابه " محمد النبيّ ": " لا يمكن معرفة شخصية محمد بكل جوانبها. ولكن كل ما في استطاعتي أن أقدمه هو نبذة عن حياته من صور متتابعة جميلة، فهناك محمد النبيّ، ومحمد المحارب، ومحمد رجل الأعمال، ومحمد رجل السياسة، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملاذ اليتامى، وحامي العبيد، ومحمد محرر النساء، ومحمد القاضي، كل هذه الأدوار الرائعة في كل دروب الحياة الإنسانية تؤهله لأن يكون بطلا ".
2- يقول المستشرق الكندي الدكتور ( زويمر ) في كتابه " الشرق وعاداته ": إن محمداً كان ولا شك من أعظم القواد المسلمين الدينيين، ويصدق عليه القول أيضاً بأنه كان مصلحاً قديراً وبليغاً فصيحاً وجريئاً مغواراً، ومفكراً عظيماً، ولا يجوز أن ننسب إليه ما ينافي هذه الصفات، وهذا قرآنه الذي جاء به وتاريخه يشهدان بصحة هذا الادعاء.
3- يقول المستشرق الألماني (برتلي سانت هيلر) في كتابه "الشرقيون وعقائدهم": كان محمد رئيساً للدولة وساهراً على حياة الشعب وحريته، وكان يعاقب الأشخاص الذين يجترحون الجنايات حسب أحوال زمانه وأحوال تلك الجماعات الوحشية التي كان يعيش النبيُّ بين ظهرانيها، فكان النبيُّ داعياً إلى ديانة الإله الواحد، وكان في دعوته هذه لطيفاً ورحيماً، حتى مع أعدائه. وإن في شخصيته صفتين هما من أجلّ الصفات التي تحملها النفس البشرية، وهما: العدالة والرحمة.
4- ويقول الانجليزي ( برناردشو ) في كتابه "محمد"، والذي أحرقته السلطة البريطانية: إن العالم أحوج ما يكون إلى رجلٍ في تفكير محمد. هذا النبيُّ الذي وضع دينه دائماً موضع الاحترام والإجلال، فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات، خالداً خلود الأبد. وإني أرى كثيراً من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بينة، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة (يعني أوروبا). لكنّني اطّلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبةً خارقةً، وتوصلت إلى أنّه لم يكن عدوًّا للمسيحية، بل يجب أنْ يسمَّى منقذ البشرية. وفي رأيي أنّه لو تولّى أمر العالم اليوم، لَوُفِّقَ في حلّ مشكلاتنا، بما يُؤَمِّنُ السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها.
5- ويقول ( سنرستن الآسوجي ) أستاذ اللغات السامية، في كتابه "تاريخ حياة محمد": إننا لم ننصف محمداً إذا أنكرنا ما هو عليه من عظيم الصفات وحميد المزايا. فلقد خاض محمدٌ معركة الحياة الصحيحة في وجه الجهل والهمجية، مُصِرَّاً على مبدئه، وما زال يحارب الطغاة حتى انتهى به المطاف إلى النصر المبين، فأصبحت شريعته أكمل الشرائع، وهو فوق عظماء التاريخ.
6- ويقول المستشرق الأمريكي ( سنكس ) في كتابه "ديانة العرب": ظهر محمد بعد المسيح بخمسمائة وسبعين سنة، وكانت وظيفته ترقية عقول البشر، بإشرابها الأصول الأولية للأخلاق الفاضلة، وبإرجاعها إلى الاعتقاد بإله واحد، وبحياة بعد هذه الحياة.
7- ويقول (مايكل هارت) في كتابه "مائة رجل في التاريخ": إن اختياري محمداً، ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ، قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين: الديني والدنيوي.
8- ويقول الأديب العالمي (ليف تولستوي) الذي يعد أدبه من أمتع ما كتب في التراث الإنساني قاطبة عن النفس البشرية: يكفي محمداً فخراً أنّه خلّص أمةً ذليلةً دمويةً من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريقَ الرُّقي والتقدم، وأنّ شريعةَ محمدٍ، ستسودُ العالم لانسجامها مع العقل والحكمة.
9- ويقول الدكتور (شبرك) النمساوي: إنّ البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ إنّه رغم أُمّيته، استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أنْ يأتي بتشريع، سنكونُ نحنُ الأوروبيين أسعد ما نكون، إذا توصلنا إلى قمّته.
10- ويقول الفيلسوف الإنجليزي ( توماس كارليل) الحائز على جائزة نوبل يقول في كتابه الأبطال: " لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متحدث هذا العصر أن يصغي إلى ما يقال من أن دين الإسلام كذب،وأن محمداً خدّاع مزوِّر.
تلكم بعض أقوال مشاهير العالم، في محمد نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام، فلماذا المزايدات التي تضر ولا تنفع، وتهدم ولا تبني.
إن فضائل النبي صلى الله عليه وسلم لا تكاد تحصى كثرةً فهو منّة الله على هذه الأمة ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [آل عمران: 164] امتدحه ربه ورفع منزلته فهو أول من تنشق عنه الأرض،وأول من يدخل الجنة، وله المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون والآخرون، والحوض المورود، إلى غير ذلك من الفضائل والخصائص التي اختص بها عن غيره، وهي مدونة في كتب الدلائل والشمائل والخصائص والفضائل، لقد شهد بفضل نبين صلى الله عليه وسلم القاصي والداني والصديق والعدو، وأنَّا لأحد أن يكتم فضائله صلى الله عليه وسلم وهي كالقمر في ضيائها، وكالشمس في إشراقها، ولعي أورد شيئاًً مما نطق به عقلاء القوم في مكانة النبي صلى الله عليه وسلم وعلو منزلته وسطرته أيديهم راغبين غير راهبين، مختارين غير مكرهين -ونحن إذ نورد شيئاً من كلامهم لا نورده حاجةً منا إليهم لتزكية المقام المحمدي فقد زكاه ربه وطهره ونقَّاه، وإنما نورد ذلك من باب ﴿ وشهد شاهد من أهلها ﴾، ونورده - تنزلاً - مع مفتونٍ لا يقرأ إلا بالعجمية ولا يفهم إلا لغة أهلها؟! نخاطبه بلغته التي أعجب بها وهام في حبها.
المبحث الأول: الإعجاز في أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم:
أولاً: طيب أصله المنيف صلى الله عليه وسلم..
هو سيد ولد آدم: أبو القاسم محمد، و أحمد، و الماحي الذي يمحى به الكفر، و الحاشر الذي يحشر الناس على عقبه، و والعاقب الذي ليس بعده نبي، و المقفي، و نبي الرحمة، و نبي التوبة، و نبي الملحمة. ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف بن بن كلاب بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن معد بن عدنان... من ولد أسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام [14].
قال الله تعالى: ﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾ [15]، ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان تلك الأسئلة عن صفاته عليه الصلاة والسلام قال: كيف نسبه فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسب. قال: كذلك الرسل تبعث في أنساب قومها. يعني: في أكرمها أحساباً، وأكثرها قبيلة، صلوات الله عليهم أجمعين. فهو سيد ولد آدم وفخرهم في الدنيا والآخرة. أبو القاسم، وأبو إبراهيم، محمد، وأحمد، والماحي الذي يُمحَى به الكفر، والعاقب الذي ما بعده نبي، والحاشر الذي يحشر الناس على قدميه، والمقفّي، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملحمة، وخاتم النبيين، وعبد الله[16].
قال البيهقي: وزاد بعض العلماء فقال: سماه الله في القرآن رسولاً، نبياً، أميّاً، شاهداً، مبشراً، نذيراً، وعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً، ورؤوفاً رحيماً، ومذكراً، وجعله رحمة ونعمة وهادياً. وهو ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ابن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهو من ولد إسماعيل لا محالة؛ على اختلاف كم أب بينهما.
وهذا النسب بهذه الصفة لا خلف فيه بين العلماء، فجميع قبائل عرب الحجاز ينتمون إلى هذا النسب، ولهذا قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ [17]: لم يكن بطن من بطون قريش إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نسب يتصل بهم. وقد روي من طرق مرسلاً وموصولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح؛ من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء)). وهذا رواه ابن عدي عن علي بن أبي طالب، وسند المرسل جيد. وثبت في ((صحيح البخاري)) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( بعثت من خير قرون بني آدم؛ قرناً فقرناً؛ حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه)) [18]، وفي ((صحيح مسلم)) من حديث واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مخرج في ((الأحاديث الصحيحة)) (302). ((إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم))[19]، ((أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعله فرقتين فجلعني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً))[20]. صلوات الله وسلامه عليه دائماً أبداً إلى يوم الدين.
ثانياً: الإعجاز في خلقه صلى الله عليه وسلم.
ولدت همته عليه الصلاة والسلام معه يوم ولد، فمنذ طفولته زنفسه مهاجرة الى معالي الأمور ومكارم الخلق، لا يرضى بالدون ولا يهوى السفاسف، بل هو الطموح والسبّاق المتفرّد والمبرز المحظوظ، ولقد ذكر أهل السير أنه عليه الصلاة والسلام وهو طفل كان لجده عبدالمطلب فراش في ظل الكعبة لا يجلس عليه إلا هو لمنزلته، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم فنازع الخدم حتى جلس عليه، وأبى أن يجلس دونه. وكان فيه قبل النبوة من سمات الريادة والزعامة والقيادة ما جعل قريش يسمونه الصادق الأمين، ويرضون حكمه ويعودون اليه في أمورهم. فلما منّ الله عليه بالبعثة تاقت نفسه إلى الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة، فسأل الله إياها، وعلّمنا ان نسألها له من ربه، بلغ سدرة المنتهى، وحاز الكمال البشري المطلق، والفضيلة الإنسانية. ومن علوّ همّته رفضه للدنيا وعدم الوقوف مع مطالبها الزهيدة لولاياتها ومناصبها وقصورها ودورها.
لقد كان رسول الله أشد الناس تواضعاً، وأبعدهم عن الكبر، يمنع عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس في أصحابه كأحدهم، قالت عائشة: كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشراً من البشر يَفْلِي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه.
كما روى البيهقي في دلائل النبوة،قال أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي حدثنا أبو بكر محمد بن جعفر الأنباري حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر حدثنا حسين بن محمد حدثنا جرير بن حازم عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك قال: فزع الناس فركب النبي فرسا لأبي طلحة بطيئا ثم خرج يركض وحده فركب الناس يركضون خلفه فقال: لن تراعوا إنه لبحر... قال فوالله ما سبق بعد ذلك اليوم...
لقد كان رسول الله أصدق من تكلم، كلامه حق وصدق وعدل، لم يعرف الكذب في حياته جادّا أو مازحا، بل حرّم الكذب وذمّ أهله ونهى عنه [21]، وقال:" إنّ الصدق يهدي الى البر، وإن البرّ يهدي الى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا.."[22]
وأخبر ان المؤمن قد يبخل وقد يجبن، لكنه لا يكذب أبدا، وحذر من الكذب في المزاح لإضحاك القوم، فعاش عليه الصلاة والسلام والصدق حبيبه وصاحبه، ويكفيه صدقا صلى الله عليه وسلم أنه أخبر عن الله بعلم الغيب، وائتمنه الله على الرسالة، فأداها للأمة كاملة تامة، لم ينقص حرفا ولم يزد حرفا، وبلّغ الأمانة عن ربه بأتمّ البلاغ، فكل قوله وعمله وحاله مبني على الصدق، فهو صادق في سلمه وحربه، ورضاه وغضبه، وجدّ وهزله، وبيانه وحكمه، صادق مع القريب والبعيد، والصديق والعدو، والرجل والمرأة، صادق في نفسه ومع الناس، في حضره وسفره، وحلّه وإقامته، ومحاربته ومصالحته، وبيعه وشرائه، وعقوده وعهوده ومواثيقه، وخطبه ورسائله، وفتاويه وقصصه، وقوله ونقله، وروايته ودرايته، بل معصوم من أن يكذب، فالله مانعه وحاميه من هذا الخلق المشين، قد أقام لسانه وسدّد لفظه، وأصلح نطقه وقوّم حديثه، فهو الصادق المصدوق، الذي لم يحفظ له حرف واحد غير صادق فيه، ولا كلمة واحدة خلاف الحق، ولم يخالف ظاهره باطنه، بل حتى كان صادقا في لحظاته ولفظاته وإشارات عينيه، وهو الذي يقول:" ما كان لنبي أن تكون له خائنة أعين"[23]، وذلك لما قال له أصحابه: ألا أشرت لنا بعينك في قتل الأسير؟!
بل هو الذي جاء بالصدق من عند ربه، فكلامه صدق وسنّته صدق، ورضاه صدق وغضبه صدق، ومدخله صدق ومخرجه صدق، وضحكه صدق وبكاؤه صدق، ويقظته صدق ومنامه صدق ﴿ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ ﴾[24]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾[25]، ﴿ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾[26].
ثالثاً: خلقه صلى الله عليه وسلم في القرآن.
وصف الله سبحانه وتعالى خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في أيات عديدة في القرآن الكريم منها:
1- ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ يحبّك الملك والمملوك، والصغير والكبير، والرجل والمرأة، والغني والفقير، والقريب والبعيد، لأنك ملكت القلوب بعطفك، وأسرت الأرواح بفضلك، وطوّقت الأعناق بكرمك، وعلمك جبريل، وهداك ربك، وصاحبتك العناية، ورافقتك الرعاية، وحالفك التوفيق، البسمة على محياك، البِِشر على طلعتك، النور على جبينك، الحب في قلبك، الجود في يدك، البركة فيك، الفوز معك.
2- ﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾، لست مجنونا كما قال أعداؤك لكن عندك دواء المجانين، فلمجنون الطائش والسفيه التافه من خالفك وعصاك وحاربك وجفاك. وكيف يكون ذلك وأنت أكملهم عقلا، وأتمّهم رشدا، وأسدهم رأيا، وأعظمهم حكمة، واجلذهم بصيرة! وكيف تكون مجنونا وأنت أتيت بوحي يكشف الزيغ، ويزيل الضلال، وينسف الباطل، ويمحو الجهل، ويهدي العقل، وينير الطريق. لست مجنونا أنك على هدى من الله، وعلى نور من ربك، وعلى ثقة من منهجك، وعلى بيّنة من دينك، وعلى رشد من دعوتك، صانك الله من الجنون، بل عندك كل العقل وأكمل الرشد وأتم الرأي وأحسن البصيرة، فأنت الذي يهتدي بك العقلاء، ويستضيء بحكمتك الحكماء، ويقتدي بك الراشدون المهديّون. إنه كذب وافترى من وصفك بالجنون وقد ملأت الأرض حكمة والدنيا رشدا والعالم عدلا، فأين يوجد الرشد إلا عندك؟ وأين تكون الحكمة إلا لديم؟ وأين تحلّ البركة إلا معك؟ أنت أعقل العقلاء، وأفضل النبلاء، وأجلّ الحكماء. كيف يكون محمد مجنونا وقد قدّم للبشرية أحسن تراث على وجه الأرض، وأهدى للعالم أجلّ تركة عرفها الناس، وأعطى الكون أبرك رسالة عرفها العقلاء:
أخوك عيسى دعا ميتا فقام له ♦♦♦ وأنت أحييت أجيالا من الرمم
يتبع