أنواع الزجل الشعبي في العصر المملوكي
نجية فايز الحمود
الزجل من الفنون الشعبية الشعرية المستحدثة في العصر المملوكي. كان أول ظهوره في المغرب، ومنه انتقل إلى المشرق؛ لينظم فيه طبقة محترفة من الزجالين الشعبيين، حتى صاروا يتحدّون فيه الشعر العربي. ويُرجّح أن يكون ظهور هذا الفن في أواخر القرن الرابع الهجري، بعد الموشح الأندلسي. وفي القرن الخامس الهجري استطاع أخطل بن نمارة أن يُخلّص الزجل من الموشح، وازدهر الزجل في القرن السادس الهجري على يد ابن قزمان" شيخ الصناعة"[2].
وقد أشار إلى ذلك ابن خلدون بقوله:" ولما شاع فن التوشيح في الأندلس، وأخذ به الجمهور لسلاسته، وتنميق كلامه، وترصيع أجزائه، نسجت العامة على منواله، ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية، من غير أن يلتزموا فيه إعرابا، واستحدثوه فنّاً سموه الزجل، والتزموا النظم فيه على مناحيهم إلى هذا العهد، فجاءوا فيه بالغرائب، واتسع للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة، وأول من أبدع هذه الطريقة الزجلية ابن قزمان، وإن كانت قيلت بالأندلس لكن لم يظهر حلاها، ولا انسكبت معانيها واشتهرت رشاقتها إلا في زمانه... وهو إمام الزجالين على الإطلاق"[3].
وقد ازدهر هذا الفن ازدهاراً عظيماً في المشرق وبخاصة في مصر والشام، ولاقى قبولاً واستحساناً عند عامة الناس بمختلف فئاتهم؛ لسهولته، وتحرره من قيود الإعراب، وجودة التعبير فيه عن نفسياتهم[4].وقد ذكر صفي الدين الحلي أن هذه الفنون التي شاعت في المشرق والمغرب جاءت على سبعة أنواع، فهو يقول: " فقد تقرّر وعُلم أن الفنون سبعة لا اختلاف في عددها بين أهل البلاد، وهي: الشعر، والموشح، والدوبيت، والزجل، والمواليا، والكان كان، والقوما، فهذه الفنون الأربعة التي جاءت بعد المقدّم من الشعر والموشّح والدوبيت، الإعراب فيها جائز وهو التزنيم بعينه... ولكن الزجل أعلاها رتبة وأشرفها محلاًّ؛ لكثرة أوزانه، وعذوبة ألفاظه، ورشاقتها..."[5]
ويذهب صفي الدين الحلي إلى أن التفريق بين هذه الموضوعات كان على أساس مضمونها لا أوزانها فهو يقول: "وقد قسّموه - الزجل - إلى أربعة أقسام، يفرّق بينهما بمضمونها المفهوم لا بالأوزان واللزوم، فلقّبوا ما تضمّن الغزل والنسيب والخمري والزهري زجلاً. وما تضمّن الهزل والخلاعة والأحماض بُلَيِّقاً، وما تضمن الهجاء والثلب قرقيّاً، وما تضمن المواعظ والحكمة مُكَفَّراً، وأطلقوا على كل ما أُعرب بعض ألفاظه من هذه الأربعة لقب المُزَنَّم"[6]
ويرى ابن حجة الحموي أن مصطلح الفنون الأربعة يطلق على الزجل والمواليا، والكان كان، والقوما بالزجل، وهي الفنون التي يلزم حذف الإعراب منها، والتي" لا تُنظم إلا باللفظ الرقيق العامي لتخفّ على الأسماع "[7].
وقد اختلطت هذه النظم على الباحثين ؛ لكثرتها وتشابك أسمائها، لذلك كان من الصعب وضع حدود قاطعة لهذه الأسماء، من حيث الوزن والشكل والمضمون[8]. هذا وإن كان صفي الدين الحلي قد فرّق بين هذه النُّظم حسب موضوعاتها، إلا أن إحسان عباس يذهب إلى أن هذه التقسيمات لم تكن معروفة في الزجل الأندلسي حسب موضوعاتها، ويمكن أن يشمل الزجل هذه الموضوعات جميعها[9].
وما يهمنا في هذا الأمر هو أن هذه الفنون الشعبية انتشرت في المشرق، واشتهر بها المصريون، وطوّروها، ونظموا فيها بمختلف الأغراض الشعرية[10]؛ لموافقته ميولهم وطباعهم، فنظموه بشيءٍ من السخرية والتهكّم، وضمّنوه الحكم والأمثال، مواكبين في ذلك أحداث العصر ومتطلباته. واتخذ الشعراء من الزجل الشعبي وسيلة لاستمالة الحكام الأعاجم من المغول والمماليك، والتقرّب إليهم؛ لغلبتهم على الحكم في الدولة، وكانوا لا يتقنون العربية.
ولم أتطرق في هذا المقال للحديث عن الزجل والمواليا؛ لأنني كنت قد تناولت كلاًّ منهما في بحث مستقل، وتحدثت عن أنواع الزجل وما يندرج تحته من فنون شعبية وأهم هذه الفنون:
الكان وكان:
يجمع المؤرخون على أن نشأة هذا الفن كانت في بغداد في منتصف القرن الخامس الهجري، ومنه انتقل إلى مصر[11]. ويقول ابن سعيد عن (الكان وكان) يعرفونه أيضاً: البطائحي؛ لتولع أهل البطائح به وأكثر ما حققته من الملاحين في دجله. ويقول صفي الدين الحلي: "ومخترعوه البغداديون، ثم تداوله الناس في البلاد، فلم يجارهم فيه مجارٍ،ولم يدخل مبارٍ في غبار، والواضح أن هذا الفن قد ظهر مبكراً في العراق منذ القرن الثالث أو بعده بقليل. وكان في بداية أمره فناً شعبياً، يقول صفي الدين الحلي عن ناظميه: لم ينظموا فيه سوى الحكايات والخرافات والمنصوبات والمراجعات، فكان قائله يحكي ما كان وكان، ولفظه قابل لذلك، وقابل له، إلى أن كثر، واتسع طريق النظم فيه، وظهر لهم مثل الشيخ العلامة قدوة الأفاضل جمال الدين بن الجوزي، من علماء القرن السادس الهجري (ت 597هـ)، فنشأة هذا الفن هي شعبية، ثم تحوَّل إلى فن ينظم فيه الشعراء في موضوعات أخرى مثل الزهديات والحكم كما فعل ابن الجوزي"[12]. ويطلق هذا اللفظ الكان كان على معنى عبارة (كان يا ما كان في سالف العصر والأوان) وهي العبارة الشائعة التي يتم البدء بها في حكايات القصص الشعبي[13]. ووجد الزهاد والوعاظ في هذا الفن وعاءً جيداً لحمل منظوماتهم؟
وقد كثر نظم هذا الفن في الغزل، وحمل كثيراً من التقاليد والعادات القديمة، خصوصاً التي كان الشعب المصري يزاولها قديماً من حيث الملابس و تطريزها ...والفطام وحمام الأربعين[14].
والكان كان "نظم تحلل فيه ناظمه من قواعد الإعراب، ومن قيود القافية له وزن واحد، إنما لا يراعى فيه رويٌّ خاص، بل لكل شطر فيه رويٌّ بعينه، وغالباً ما يكون الشطر الأول من البيت الأول أطول من الشطر الثاني"[15].
ومن أمثلته قول أحدهم:
قم يا مقصر تضرَّع
قبل أن يقولوا كان وكانْ
للبر تجري الجواري
في البحر كالأعلام[16]
ويتناص الناظم فٍي البيت الثاني مع قوله تعالى : "وله الجوار المنشات في البحر كالأعلام[17]."
ومن الكان وكان أيضاً في الغناء قول أحدهم:
السُّود مسك و عنبْر
والسُّمر قضبان الذَّهبْ
والبيض ثوب دبيقْ
ما يحتمل تمعيكْ[18]
وقد أشار صفي الدين الحلي في كتابه (العاطل الحالي) إلى خلوّ هذا النظم من الأعراب، وينقل ذلك عنه ابن سعيد المغربي قوله :" فإني كنت أضفت إلى ديوان أشعاري فني الموشح والدوبيت؛ لتحليتهما بالأعراب، وأعريته من الفنون الأربعة التي لحن إعرابها، وخطأ نحوها وصرفها ... ويقصد بالفنون الأربعة : (الكان وكان) و(المواليا) و(القوما) و(الزجل)[19].
ونلحظ أن (الكان و كان) يستعمل الفصحى المبسطة، بتراكيبها الصحيحة دون العناية البالغة في الإعراب ومن أمثلته في الوعظيات[20]، قول أحدهم يصف فيه الشاعر قاسي القلب، الذي يصدّ عن سماع النصيحة، مفنيا عمره فيما لا ينفعه، متمنيا منه الشاعر أن يقلع عن إصراره، ويستمع لنصح غيره:
يا قاسي القلب مالك
تسمع وما عندك خبر
ليتك على ذي الحالة
تقلع عن الإصرار
تحضر ولكن قلبك غائب
وذهنك مشتغل
فكيف يا متخلف
تحسب من الحضار[21]
ويضيف قائلا:
ويحك تنبّه يا فتى وافهم مقالي و استمع
ففي المجالس محاسن تحجب عن الأبصار
يحصى دقائق فعلك و غمز لحظك يعلمه
وكيف تعزب عنه غوامض الأسرار
تلوت قولي ونصحي لمن تدبر واستمع
ما في النصيحة فضيحة كلا ولا إنكار[22]
وأورد الإبشيهي من (الكان وكان) في الفراقيَّات قول أحدهم يصف أحبابه وقد أظلمت عيناه ببعدهم، وأناروا قلبه بذكرهم، وقد نفد صبره، ولم يعد لحياته طعم من غيرهم:
يا ساده هجروني
وهم نزول بخاطري
لا أوحش الله منكم
يتبع