الدولة العميقة الأمريكية!


. حسن الرشيدي





في عام 2014 اتخذت الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما قرارها بالتدخل العسكري في سوريا، وأصرت على إشراك بعض الدول في عملياتها في سوريا سواء من داخل المنطقة أو خارجها.
وبعد ذلك وفي مرحلة لاحقة حين وصلت إدارة ترامب في عام 2017 إلى الرئاسة الأمريكية، كان لها رأيًا مخالفًا متذبذبًا.
ففي البداية وفي شهر ديسمبر ٢٠١٨م أعلن ترامب الانسحاب من سوريا، ثم في يناير من عام 2019 عاد ليغير رأيه ليؤكد على البقاء العسكري الأمريكي في سوريا، وهذا ما جرى على لسان الناطقة باسم وزارة الخارجية الأمريكية حينها هيذر نويرت حينما قالت: نحن مستعدون للبقاء في سوريا حتى الهزيمة النهائية لتنظيم (الدولة الإسلامية)، وسنبقى مركِّزين على ضمان انسحاب القوات الإيرانية وحلفائها.
ثم يعود ترامب مرة أخرى ليؤكد نيته في الانسحاب في أكتوبر ٢٠١٩م؛ ففي خطاب ألقاه في البيت الأبيض، وقال متحدثاً عن سوريا: دع شخصاً آخر يقاتل على هذه الرمال الملطخة بالدماء، متعهداً بسحب جميع القوات الأمريكية من سوريا، قائلاً: إن الوضع لم يعد مشكلة أمريكا بعد الآن.
وبعد بضعة أيام فقط، يعود ترامب ليغير رأيه للمرة الثالثة إذ قال: إن القتال في الشرق الأوسط يستحق العناء طالما أنك تحصل على بعض عائدات النفط من الصفقة. ولكي يحوّل كلامه إلى أفعال قام بتوسيع مهمة الجيش الأمريكي في سوريا، فسمح لمئات الجنود بالعمل في منطقة تبلغ مساحتها 144 كيلو متراً تقريباً في شرق سوريا.

بدأ مصطلح الدولة العميقة يدخل في مجال اهتمام الباحثين في العلوم السياسية منذ تسعينات القرن الماضي، حيث جرى استخدامه في ذلك الوقت لوصف شبكات من المجموعات وضباط القوات المسلحة، والذين أخذوا على عاتقهم حماية علمانية الدولة التركية
وتجيء إدارة بايدن عام 2020، وفي البداية بدا أن هذه الإدارة لا تولي الوجود الأمريكي في سوريا الاهتمام المطلوب، كما جرت داخل الإدارة الكثير من المناقشات العديدة حول الانسحاب الأمريكي من سوريا، على غرار الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، ثم انشغلت الإدارة الأمريكية بقيادة بايدن في الغزو الروسي لأوكرانيا وتحجيم الدور الروسي العالمي.
ولكن ما لبث أن تغيرت مواقف تلك الإدارة، فقد تحدثت وكالات الأنباء عن وصول تعزيزات أمريكية كبيرة إلى شمال شرق سوريا، وعن رغبة البنتاغون في إعادة تجميع تشكيلات المعارضة الخاضعة لأمريكا في قاعدة التنف الواقعة بالقرب من الحدود مع العراق والأردن، وزيادة عدد أفراد الحامية المحلية هناك.
كل هذه المواقف المتناقضة تدفع إلى التفكير في أن هناك لغز يتعلق بسبب الإصرار الأمريكي على التواجد في الأراضي السورية.
هل هو كما يردد بعض الباحثين الأمريكان، أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة تفتقد للهدف الاستراتيجي من البقاء؟
بينما يقول آخرون الأهداف الاستراتيجية واضحة، ولكن التخبط يكمن في الاستراتيجيات التي يجري تطبيقها في الواقع السوري.
لكن محللين آخرين خاصة سواء في منطقتنا أو في المعسكر الروسي، يرون أن ثمة أهداف سرية خفية أمريكية تكمن في الإصرار الأمريكي على البقاء في سوريا، وأن الدولة العميقة في أمريكا من أجهزة استخبارات ووزارة الدفاع هي التي لديها تلك الأهداف، والدليل هو تراجع الإدارات الأمريكية المتعاقبة عن أي موقف تتخذه هذه الإدارة أو تلك، لتعود الى المسار الذي رسمته الدولة العميقة الأمريكية كما يفترضون، وهو البقاء العسكري في سوريا.
فإلى أي مدى تكمن صحة هذه الفرضيات؟
وأين تتواجد الحقيقة في ذلك؟
الدولة العميقة في أمريكا حقيقة أم خرافة؟
بدأ مصطلح الدولة العميقة يدخل في مجال اهتمام الباحثين في العلوم السياسية منذ تسعينات القرن الماضي، حيث جرى استخدامه في ذلك الوقت لوصف شبكات من المجموعات وضباط القوات المسلحة، والذين أخذوا على عاتقهم حماية علمانية الدولة التركية بعد قيامها على يد مصطفى كمال أتاتورك ومحاربة أي حركة أو فكر أو حزب أو حكومة تهدد مبادئ الدولة التركية العلمانية، وكان ذلك أول تعريف وظهور لمفهوم الدولة العميقة.
مع العلم أنه كانت هناك مصطلحات مستخدمة في تحليل النظم السياسية قريبة منه مثل دولة داخل الدولة، وحكومة الظل، والحرس القديم، ومراكز القوى، والدولة المزدوجة، والدولة الموازية.
وعلى العموم فقد جرى استخدام مصطلح الدولة العميقة على معنيين:
الأول استخدام علمي أكاديمي في الأبحاث التي تحاول سبر غور النظم السياسية، ومحاولة إيجاد تفسيرات لما يدور في أروقة ودهاليز تلك النظم، وتتبع الشخصيات المسئولة والمؤسسات والتي تلعب أدوارا مؤثرة وغير مرئية في صناعة القرار السياسي، ومن أهم خصائصها أنها لا تتأثر بالتغييرات التي تحدث في قمة النظام.
أما الاستخدام الآخر لمصطلح الدولة العميقة، فعن طريقه يتم تبرير كثير من النظرات التآمرية للأحداث، والتلاعب بعقول الناس وصرفهم عن المنطق العلمي لما يجري، ولم لا وهناك دائمًا مجموعة في الظلام تدير المشهد وتتحكم فيه، وقد غذت تلك المقولة الأعمال الدرامية والأفلام.
وهنا يبرز السؤال عن الدولة العميقة في الولايات المتحدة، هل هي وهم في مخيلة البعض؟ أم هي بالفعل واقع يتحكم في الأهداف الاستراتيجية الأمريكية، ويترك للإدارات المنتخبة بصرف النظر عن كونها ديمقراطية أو جمهورية حرية تحديد الاستراتيجيات الملائمة لتطبيق الأهداف الاستراتيجية؟

يرى إدوارد سنودن، وهو عميل سابق لوكالة الأمن القومي الأميركي، أن الدولة العميقة ليست كامنة فقط في ثنايا وكالات أميركا الاستخبارية، بل هي أيضا تتمثل في بيروقراطية الحكومة المهنية، هؤلاء المسؤولون الذين يجلسون في مناصب قوية، ولا يغادرون عندما يغادر الرؤساء
في عام 2010، قامت صحيفة واشنطون بوست الأمريكية بعمل تحقيق صحفي عبر ثلاثة مقالات استغرق تحضيرها سنتان وعمل خلالها عشرون من كبار صحافييها.
خلص هذا التقرير إلى أن هناك سلطة قد نشأت وهي مُغيّبة تماماً عن أعين الشعب الرقابية بستار من السرية الفائقة، وهذه السلطة أصبحت كبيرة جدًا، وحدود مسؤولياتها ضبابية، بحيث إن قادة الولايات المتحدة لا يمسكون بزمامها، وهي موجودة في كل مكان في أرجاء الولايات
ويسترسل التقرير في تفصيل تلك السلطة وأماكن تواجدها وعدد أفرادها فيذكر تلك الأرقام:
هناك 1271 مؤسسة حكومية تساعدها 1931 شركة تخدمها ضمن أجهزة الاستخبارات، والأمن الداخلي ومكافحة الارهاب.
وهناك ما يقرب من تسعمائة شخص ضمن هذه الأجهزة، ممن يحملون تصاريح بالاطلاع على التقارير التي كتب عليها (سري جدا)، وهذا العدد يزيد مرة ونصف عن عدد سكان العاصمة واشنطن.
وهناك أيضا 33 مركزاً في واشنطن لوحدها مخصصة لأعمال المخابرات السرية جداً مساحة أبنيتها تعادل 17 مليون قدم مربع (حوالي 1.7مليون متر مربع).
وفي كتابه (إخفاء الدولة)، يحاول البروفيسور الأمريكي جيسون ليندسي شرح طبيعة الدولة العميقة في أمريكا، فيذكر أنه حتى من دون وجود جدول أعمال تآمري، فإن مصطلح الدولة العميقة مفيد لفهم جوانب مؤسسة الأمن القومي في الولايات المتحدة.
ويرى ليندسي أن مصادر قوة الدولة تتمثل في أجهزة الأمن القومي، والاستخبارات.
بينما يرى إدوارد سنودن، وهو عميل سابق لوكالة الأمن القومي الأميركي، أن الدولة العميقة ليست كامنة فقط في ثنايا وكالات أميركا الاستخبارية، بل هي أيضا تتمثل في بيروقراطية الحكومة المهنية، هؤلاء المسؤولون الذين يجلسون في مناصب قوية، ولا يغادرون عندما يغادر الرؤساء والذين يشاهدون الرؤساء يأتون ويذهبون، وهم يؤثرون على الرؤساء.
ولكن الدولة العميقة في أمريكا لا تتضمن المؤسسات الأمنية والاستخبارية أو الأجهزة البيروقراطية الحكومية فقط ولكن هناك بعد ثالث للدولة العميقة يتمثل في قلة من رجال الأعمال وبعض الشركات الكبرى والتي تتحكم في الاقتصاد الأمريكي وهو بالمناسبة الاقتصاد الأكبر في العالم.
وبحسب تقرير واشنطون البوست السابق نجد أن 1% فقط من الامريكان يمتلكون من الثروة المالية الأمريكية ستة اضعاف ما يمتلكه 80% منهم.
وهناك فرع رابع للدولة العميقة الأمريكية يتمثل في نخبة من أهم علماء أمريكا والباحثين في أعرق الجامعات ومراكز البحث الأمريكية، والمنوط بهم تقديم خدمات سرية للبلاد.
فقد نشرت هيئة الإذاعة البريطانية تقريراً مثيراً، يرتبط بشكل أو بآخر بفكرة الدولة الأمريكية العميقة، وكيف أنها تتعاون مع علماء الولايات المتحدة على جميع الصعد، بهدف واضح وهو خدمة أغراض الأمن القومي.
ويطلق على هؤلاء النخبة العلمية مجموعة جايسون (جايسون بطل في لأساطير اليونانية) والتي يصل عددها إلى نحو 50 شخصًا، يقدمون نصائحهم ومشوراتهم مباشرة إلى البنتاغون، ويجرون عادة دراساتهم بناءً على طلب الأجهزة الوطنية، معتمدين على البيانات العلمية، لاتخاذ القرارات المتعلقة بالأمن القومي الأمريكي.
ويفصل تقرير لصحيفة الإندبندنت البريطانية عن هذه المجموعة فيذكر: أن تلك المجموعة أنشئت عام 1960، وهي تمثل بحسب الصحيفة تجمعاً مثيراً بين العلماء والجنرالات قادر متى يشاء على اختطاف روح الديمقراطية الأميركية أو المحافظة عليها، وربما هذا ما حدث بعد ثلاث سنوات متمثلاً في اغتيال كينيدي، أو اسقاط ترامب كما حدث مؤخرا.
كما تقدم مجموعة جايسون ومنذ ستة عقود، تقارير سرية تتناول جميع الموضوعات الساخنة التي تشغل بال الأمريكيين والعالم، من عينة أحوال الترسانة الأميركية النووية، والسباق مع السوفيات ثم الروس والصينيين، والأقمار الصناعية، لا سيما الخاصة بالتجسس.
والخلاصة فهذه الروايات تثبت أن هناك أمريكا أخرى خلاف ما تبدو على السطح.
فالذي يريد التعامل مع هذه القوة العالمية يجب عليه أن يضع في حسبانه ليست أمريكا الظاهرة فقط بل أمريكا العميقة أيضًا.