شبح البطالة في ظل الرقمنة
مصطفى عاشور
هل يختفي العمل في الزمن الرقمي؟ وهل يحل الربوت مكان العمال في المصانع والشركات؟ مخاوف تتصاعد مع لجوء الكثير من الشركات والمصانع إلى الربوتات كبديل للعمال، فتشير احصاءات أن أكثر من مليوني ونصف المليون روبوت تعمل بكفاءة، وبلا كلل ولا ملل، وبلا مطالب في المصانع؛ بل تقتحم الأماكن الصعبة والخطرة لتنفيذ أعمالها ومهامها الانتاجية، بلا خوف من تعويضات أو إصابات.
في الثلاثينيات من القرن الماضي صك الاقتصادي “جون ماينارد كينز” John Maynard Keynes مصطلح “البطالة التكنولوجية Technological Unemployment ، وكان تساؤله الكبير ماذا سيفعل أحفادنا بعدما أصبحت التقنية جزءًا متزايدًا من مستقبل البشرية، ثم جاء اقتصادي آخر هو واسيلي ليونتيف Wassily Leontief بعد نصف قرن، وتساءل هل سيكون هناك مستقبل لوظائف البشر، مع تعاظم الاعتماد على الآلات؟ وهل سيصبح مصير العمال على غرار مصير الخيول في أوائل القرن العشرين، بعدما حلت الآلات مكانها في العمل والوظائف، فقد كان هناك أكثر من (21) حصان في أمريكا وحدها عام2015، ثم تراجع الرقم إلى مليوني فقط، ويستخدم غالبيتهم في الترفيه والسباق.
عندما نتحدث عن البطالة في ظل الرقمنة نقول أن الرقمية قد تكون أكثر تأثيرا في العمل والوظائف، كما أن لها تأثيرات على طبيعة العمل، وهو ما يخلق مساحات من الخوف لدى الوظائف المعرضة للانقراض، كذلك سيكون هناك انعكاسات على المجتمع مع تفشي البطالة، وعبء على الدولة في إبعاد هذا الشبح القادم بلا هوادة.
خوف لا يهدأ
كان العام 2012 بداية واعدة في طريق الاعتماد الكثيف على الرقمية في العمل، فغدت الرقمية حاضرة في غالبية مجالات العمل مثل البنوك والمصانع والبريد، والتعليم، وشركات الطيران، والتسويق، وهنا أطلق اقتصاديون وسياسيون صيحات تحذير من خطر البطالة الذي يهدد قيمة العمل في المجتمع، ويفتح الباب أمام بطالة كثيفة ومتزايدة، وشحا في التوظيف، وشروطا تكاد تكون تعجيزية فيمن سيحصل على وظيفة.
فقد أصبحت الربوتات حاضرة في الكثير مصانع السيارات الكبرى؛ بل أصبحت هي المنتج الرئيس للسيارة، فتقلص الحضور العمالي في المصانع، وأصبح مصطلح “ذوو الياقة الزرقاء blue collar الذي يرمز للعمال مصطلح “متحفي”، وإذا كانت الرقمنة أو “الأتمتة” حلا سحريا، إلا أنها أوجدت مشكلات جديدة، حيث يؤكد القلقون من الأتمتة أنه من الصعب أن تكون غالبية الوظائف في مأمن، لأن ضخ استثمارات ضخمة فيما يعرف بـ”الذكاء الصناعي” أوجد آلالات وربوتات قادرة على القيام بالكثير من الوظائف التي كانت حكرا على البشر، وأكدت دراسات سابقة أنه في سوق العمل الأمريكي فإن 47% من الوظائف معرضة لخطر الاستبدال التكنولوجي.
الاقتصادي بريطاني ” جاي ستاندنج” Guy Standing تحدث في كتابه “البريكاريا: الفئة الخطرة الجديدة”
The Precariat:The New Dangerous Class عن طبقة جديدة ستنشأ عن تلك الأتمتة أسماها ” البريكاريا ” تتميز بعقود العمل المرنة، والوظائف المؤقتة، وظروف العمل غير المستقرة، وغياب الهوية المهنية، وتعرضها للاستغلال، وألمح إلى قضية مهمة أنه لأول مرة في تاريخ العمل البشري تحصل فئة على مستوى تعليمي أعلى من العمل الذي يُتوقع منهم القيام به أو يتوقعون الحصول عليه، وأن هذا سيكون مصدر إحباط شديد، كذلك ستعاني هذه الطبقة من انعدام المعاشات التقاعدية، وربما الخدمات الطبية، وسيغيب مفهوم الاجازات مدفوعة الأجر، وستصبح العلاقة هي عمل مقابل أجر فقط، وهو ما يخلق حالة من الاحباط والتوترات الاجتماعية، وسيؤثر على فقدان الأمل في المستقبل للكثيرين.
أما ” فيديريكو بيستونو ” Federico Pistono فكان عنوان كتابه المبكر “سوف تسرق الروبوتات وظيفتك” Robots Will Steal Your Job أكثر وضوحا في التحذير من احلال الربوت مكان الإنسان في غالبية الأعمال، ومن ثم خلق بطالة عالمية واسعة، فالربوت يمكنه القيام بكل ما يمكن أن يفعله البشر، وبشكل أفضل، لكن دانيال سسكيند Daniel Susskind في كتابه ” عالم بلا عمل” A World Without Work أشار أن التقنيات والتكنولوجيا أثارت منذ ظهورها قلقا في مجال العمل وبين العمال، إذ يعتقد أن العمال أن الالات تحل مكانهم، ومن ناحية أخرى رأي بعض الاقتصاديين أن تلك المخاوف لم تكن في محلها دوما، إذ أن اكتشاف البخار والمحركات، ربما أدى إلى تقليل أو حتى انقراض أشكال معينة من العمل، لكنه سمح بظهور وظائف أخرى، لكن”سسكيند” نبه أن تلك اللحظة مختلفة، لأن ما يسمى بـ”الذكاء الصناعي” اخترق جميع المجالات، ووضع جميع الوظائف أمام خطر الالغاء أو الاستبدال، وهذا الاختراق تتزايد مجالاته بصورة سريعة للغاية، خاصة بعدما دخلت الرقمية إلى مجالات كانت حكرا على البشر.
القلب الصدأ
مع انتشار البطالة المتوقع، تبقى الأزمة أن العمل كقيمة ونمط حياة للكثيرين قد لا يكون مركزيا في المسقبل، وهو ما يؤثر على معنى الحياة نفسها، لأن السؤال الذي سيكون مطروحا حينها: ماذا يفعل البشر بعدما طردتهم الآلات والرقمنة من غالبية الوظائف ومجالات العمل؟ ومن ناحية أخرى ستكون هناك فجوات اقتصادية كبيرة داخل المجتمعات ستخلق بالضرورة صراعات مؤلمة.
وقد حذر البعض أن هذه الحالة ستؤثر على التماسك الثقافي في المجتمعات، لأنها ستمنح وقت فراغ كبير للمجتمعات، فقد تكون أقصى فترة عمل طوال الأسبوع 15 ساعة، وهو ما يسمح بنمو الصراعات والاحتقانات، لذا شُبهت تلك الحالة بأنها “وحش فرانكشتاين” الذي قد يلتهم الحضارة الانسانية، خاصة وأن هذه الحالة تتسم بهيمنة رأس المال على العمل، وزوال مفهوم العامل، ومن ثم التجمعات العمالية ونقابات العمال، وضخ اسثمارات ضخمة في مجال التكنولوجيا الرقمية والأتمتة، وهو ما يعني مزيدا من التوسع في تجفيف مستنقعات العمل الباقية في المجتمعات.
يرى “مارتن فورد” في كتابه صعود الربوتات Rise of the Robots أن الربوتات ستقدم طرحا جديدا لمفهوم العمل، وأن الشركات ستميل إلى تقليل التوظيف، وستميل إلى الأتمتة، ربما ستكون هناك ” ثورة الروبوتات ” على غرار “الثورة الصناعية التي غيرت مسار الحياة البشرية.
موضوع البطالة في ظل الرقمنة يقودنا إلى القول أن الخطر الذي يراه آخرون أن الأتمتة ستوفر وسائل رقابة دقيقة على العمال، وستُقَوم تلك الرقابة بالأجر، وهو ما يعني تعرض العمال لقدر كبير من الاستنزاف في ظل غياب قوانين تحميهم من هذا التسلط الجديد، فبرامج التتبع الخاصة بالعاملين عن بُعد، والتي شهدت ارتفاعًا هائلا في مبيعاتها، ستتيح متابعة كل ثانية من يوم عمل الشخص، وستتمكن من التواصل معه، وتحديد مكانه بالضبط، وما قام به خلال فترة عمله، مثلما تفعل شركة “أمازون” الشهيرة التي تستخدم الأتمتة لمراقبة موظفيها، والتي وصلت إلى استحداث برامج تلتقط ثلاث صور كل عشر دقائق لأحد موظفيها في أحد مستودعاتها الذي يبعد آلاف الأميال من مركز الشركة.
والحقيقة أن هذا الرعب القادم بالنسبة للبطالة في ظل الرقمنة يحتاج إلى تقديم طرحا إيمانيا حول مفهوم الرزق، وأن هذا الرزق بيد الخالق، سبحانه وتعالى، ومن ثم خلق طمأنينة في ذلك العالم المضطرب الساعي لتذويب الإنسان، وتحويل الآلة ذات القلب الحديدي الذي لا يعرف العاطفة إلى نهج حياتي قادم.