لماذا تتراجع اللغة الفرنسية في مستعمرات فرنسا السابقة الجزائر نموذجًا
. أحلام حماد
في قمة الدول الفرنكوفونية الأخيرة التي عقدت في تونس يومي 19 و 20 من نوفمبر الماضي، لم يشارك الرئيس الجزائي عبد المجيد تبون، الذي فضًل تلبية دعوة قطر وحضور حفل افتتاح كأس العالم، وكان لافتاً أن الجزائر لم تشارك ولو بتمثيل منخفض ومتواضع، وهي التي واظبت منذ العام 2002 على تقليد ابتدعه الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة بحضور القمة كضيف خاص.
تصف فرنسا، الجزائر كثالث دولة من حيث عدد الناطقين باللغة الفرنسية، بنحو ثلث السكان، بعد فرنسا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، رغم أن البعض يعتقد أن التقديرات الفرنسية مبالغ فيها في ظل غياب إحصاءات رسمية جزائرية
ما يثير الاهتمام أن هذه القمة هي الأولى لمنظمة الدول الفرنكوفونية في عهد الرئيس تبون، حيث كان مقرر عقدها في العام 2020، وتم تأجيلها بسبب تفشي جائحة كورونا، ورغم ذلك لم تبد الجزائر اهتماماً بحضورها والمشاركة في فعالياتها، حتى وإن كان بالمستوى الذي كانت عليه في عهد بوتفليقة.
كان بوتفليقة يهدف من وراء المشاركة الجزائرية في القمة الفرانكوفونية إلى تجنب الضغوط الأوروبية على الجزائر بتحريض فرنسي من جهة، ومن الجهة الثانية كان يخطط لانضمامها كعضو رسمي، غير أنه لم يتمكن من ذلك على مدار فترة حكمه التي امتدت لنحو 20 عاماً، بسبب الرفض الشعبي الواسع، وكذلك رفض أحزاب وطنية وإسلامية جزائرية للفكرة، باعتبار منظمة الفرانكوفونية أداة فرنسية للهيمنة على مستعمراتها السابقة، وتهميش اللغة العربية في أرضها.
وفي هذا الصدد ينبغي الإشارة إلى أن أحد مطالب الحراك الشعبي الذي أطاح بحكم بوتفليقة، هو رفض هيمنة اللغة الفرنسية على مفاصل الدولة والإدارة، ووصل هذا الرفض إلى حد أن قائد الأركان السابق أحمد قايد صالح، كان أبرز الشخصيات النافذة في السلطة التي وقفت ضد النفوذ الفرنسي بالجزائر، خاصة بعد سقوط حكم بوتفليقة في 2 نيسان عام 2019.
وتصف فرنسا، الجزائر كثالث دولة من حيث عدد الناطقين باللغة الفرنسية، بنحو ثلث السكان، بعد فرنسا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، رغم أن البعض يعتقد أن التقديرات الفرنسية مبالغ فيها في ظل غياب إحصاءات رسمية جزائرية، غير أن هذه التقديرات من جانب فرنسا تفسر إصرارها على ضم الجزائر لمنظمة الدول الفرنكفونية لتعزيز نفوذها في العالم، وتأكيد أنها ما زالت قوة عظمى، رغم سقوط إمبراطوريتها الاستعمارية.
متغيرات تفسر الموقف الجزائري
بين عامي 2002 و2022، شهدت الجزائر الكثير من المتغيرات التي تفسر حرص بوتفليقة على المشاركة في قمة الفرانكفونية، وإحجام تبون عن ذلك، ففي العام 2002، كانت الجزائر بالكاد قد خرجت من أزمتها الأمنية، وشبه حصار ديبلوماسي مضروب عليها أوروبياً، وتشكيك فرنسي في شرعية الانتخابات الرئاسية التي جرت في العام 1999 وأوصلت بوتفليقة إلى الحكم، بعد انسحاب جميع منافسيه الستة من السباق الرئاسي لاعتقادهم بوجود تزوير.
الفرنكوفونية هي استنساخ مشبوه لفكرة الكومونولث التي ابتكرتها بريطانيا لتحتفظ بسيطرتها على مستعمراتها السابقة، واستمرار نهب ثرواتها ومصادرة قرارها السياسي المستقل، وقد قامت فرنسا بتقليدها عبر الفرنكوفونية.
آنذاك كان وضع الجزائر سيئا، وقد تراكمت عليها الديون وبلغت نحو 26 مليار دولار، لذلك كانت مشاركتها في قمة منظمة الفرنكفونية، لكسر الحصار الديبلوماسي من جانب الدول الأوروبية.
هذا الوضع بدا مختلفاً في العام الجاري، فمديونية الجزائر شبه معدومة، فضلاً عن أنها أصبحت قبلة لزعماء ومسؤولين أوروبيين بحثاً عن الغاز الجزائري لمواجهة أزمة الغاز الروسي، الناجمة عن الحرب الروسية على أوكرانيا، وعلاوة على ذلك فإن الميزان التجاري الجزائري عاد لتسجيل معدل إيجابي منذ 2021، ومن المتوقع أن يحقق فائضًا بأكثر من 17 مليار دولار مع نهاية العام 2022، ما ساهم في رفع احتياطاتها من 42 مليار دولار في 2000، إلى أكثر من 54 مليار دولار متوقعة مع نهاية هذا العام.
ومع استقرار الوضع الأمني والسياسي بعد استكمال تعديل الدستور وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية ومحلية، عزز ذلك من الموقف الدبلوماسي الجزائري أمام فرنسا، وجعلها تتعامل معها بندية أكثر، وذلك فإن مشاركة الجزائر في قمة الفرنكفونية لن تحقق لها أي مصلحة سياسية ذات أهمية، بل ستضر بصورة الحكومة شعبياً، وتتناقض مع توجهها العام للتخلص من نفوذ اللغة الفرنسية في البلاد، حيث تسعى الحكومة الحالية للتخلص تدريجيا من هيمنة اللغة الفرنسية، من خلال دعم تعليم اللغة الإنجليزية في المدارس الحكومية.
وفي هذا السياق، بادرت بعض الوزارات باستعمال المراسلات الرسمية باللغة العربية بدل الفرنسية، وتم استعمال الإنجليزية إلى جانب العربية في إحدى الأوراق المالية من فئة 2000 دينار بدل العربية والفرنسية، ما يكرس التوجه نحو التخلص التدريجي من استعمال الفرنسية في الدوائر الحكومية.
ملف المهاجرين وتراجع النفوذ الفرنسي
وتزامنت قمة الفرنكفونية الأخيرة في تونس، مع تقارير صحفية تحدثت عن تجميد الجزائر مفاوضاتها مع فرنسا بشأن زيادة صادراتها من الغاز بنسبة 50%، فيما بدا أنه رد جزائري على قرار فرنسي التشدد في ملف منح التأشيرات للجزائريين، في محاولة فرنسية للضغط على الجزائر لتسلُّم أبنائها المهاجرين غير النظاميين في فرنسا، وهو أمر مرفوض جزائرياً.
إن عدم حل ملف التأشيرات، وكذلك عدم التقدم في ملف الذاكرة بمختلف تشعباته، سببان آخران جعلا مشاركة الجزائر في قمة الفرنكفونية أمرا مرفوضًا، ما يعكس تراجعًا للنفوذ الفرنسي في المنطقة، وهذه الحقيقة أقر بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عندما أشار إلى أن "استخدام اللغة الفرنسية في شمال إفريقيا انخفض خلال العقود القليلة الماضية".
وعلى هامش قمة تونس الأخيرة، قال ماكرون "من الضروري أن نكون واقعيين، الفرنكفونية تتوسع في بعض البلدان، ولكن هناك أيضا نكسات حقيقية"، وأوضح أن "نسبة استعمال الفرنسية اليوم في البلدان المغاربية أقل مما كانت عليه قبل 20 أو 30 عامًا"، مرجعًا الأمر إلى "أشكال من المقاومة شبه السياسية، إلى جانب سهولة استخدام اللغة الإنجليزية".
وتفطن البرلمان الفرنسي لهذا الواقع منذ فبراير عام 2017، عندما تساءل: كيف للجزائر وهي ثالث دولة من حيث استخدام الفرنسية أن لا تكون عضو في منظمة الفرنكوفونية؟، وهو تساؤل لم يبق من دون إجابة، فعديد المسؤولين والخبراء الجزائريين ردوا عليه في سياقات مختلفة، تمحورت كلها حول أن الفرنكوفونية هي استنساخ مشبوه لفكرة الكومونولث التي ابتكرتها بريطانيا لتحتفظ بسيطرتها على مستعمراتها السابقة، واستمرار نهب ثرواتها ومصادرة قرارها السياسي المستقل، وقد قامت فرنسا بتقليدها عبر الفرنكوفونية.
بالمحصلة النهائية وبالنسبة للجزائر يبدو أن هناك توجهاً رسمياً مدعوم شعبياً ونخبوياً وحزبياً، نحو اعتماد اللغة الانجليزية بديلاً عن الفرنسية التي ظلت سائدة منذ حقبة الاستعمار الفرنسي، ما يؤشر إلى أن الجزائر تريد التحرر كلياً حتى من لغة الاستعمار القديم، الذي لا تزال الذاكرة الجزائرية تقطر دماً من مجازر ارتكبها على مدار 130 عاماً.