عظمة أخلاقه صلى الله عليه وسلم في التعليم ورفقه في الدعوة (1)
عبد المجيد أسعد البيانوني
لقد كانت حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم حياة تربية وتعليم، وتأديب وتهذيب، وحسبنا على ذلك شاهداً أنّه صلى الله عليه وسلم بعث في أمّةٍ أمّيّة، تعبد الأصنام، وتسفك الدماء، وتعتدي على الأعراض، ويظلم القويّ الضعيف، ويئدون البنات خشية العار، ويشربون الخمر، ويغشون الفواحش ما ظهر منها وما بطن، قد ارتهنت عقولهم للخرافات والأساطير.. فلم يزل صلى الله عليه وسلم يعلّمهم ويربّيهم، ويتعهّدهم بمبادئ الحقّ، وآداب الهدى، حتّى صار منهم أئمّة مهديّون، أتقياء موحّدون، علماء حكماء، حلماء رحماء، وكانوا من قبل أعداء متخاصمين، فأصبحوا إخواناً في الله متحابّين، متعاطفين متراحمين، يؤثر أحدهم أخاه على نفسه، ويؤثر دين الله على كلّ شيء في حياته، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، فكانوا بذلك خير أمّة أخرجت للناس، في عقيدتها وعبادتها، وعلمها وعملها، وأخلاقها وسلوكها، وعدلها بين الناس وحسن علاقاتها..
وإنّ من أبرز خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه نبيّ أمّيّ بعث في أمّة أمّيّة، ولكنّ هذا الأمّيّ الذي لم يقرأ كتاباً، ولم يتعلّم على يد أحد من البشر جاء بعلوم شتّى، شملت جميع جوانب الحياة، سبق بها العصر الذي كان فيه بقرون عديدة، وحارت بها ألباب العلماء والحكماء والفلاسفة، ممّا وضع الناس جميعاً أمام بيّنة عقليّة واضحة، وحُجّة ملموسة: أنّ العلوم التي جاء بها هذا النبيُّ الأمّيُّ: إن هي إلاّ وحي من الله تعالى، وفتح وعطاء من مالك الملك، عالم الغيب والشهادة..
ولقد أراد الله تعالى لأمّة الرسالة الخاتمة: أن تكون أمّة علم وتعليم، يبدأ تعليمها من نور الوحي، ويتّصل بالله تعالى، وتحمل رسالة الإنقاذ للإنسانيّة كلّها..
وإنّ البدء بالتعليم هو المنطلق الأوّل، الذي لا يستقيم أيّ جانب من جوانب الحياة الإنسانيّة إلاّ به، ولا ينحطّ الإنسان، ولا تنحطّ أمّة من الأمم، ولا تضلّ الإنسانيّة وتتخبّط إلاّ من التفريط في العلم الصحيح أو الانحراف عن سبيله: إمّا إلى جهل وتخلّف، أو إلى علم منقطع عن غايته المثلى وأهدافه، يضرّ الإنسان ولا ينفعه.
فالأمّة بلا علم متّصل بنور الحقّ، يوضّح لها جوانب سلوكها، وبلا تربية يعرف كلّ فرد من أفرادها واجبه ومسئوليّاته: الدنيويّة والأخرويّة، تصبح أمة فوضويّة تائهة، تصرفاتها غير متوقعة ولا منضبطة، ولكلّ فرد من أفرادها سلوك يخالف سلوك الآخر، وعادات وتصورات تختلف عن عاداته وتصوراته.. فكيف تفلح أمة، أو تستقيم حياتها إذا كانت على هذه الصورة.؟ أو كان على ذلك أيّ فرد من أفرادها.؟
وإنّ الظاهرة المتميّزة التي نجدها في حياة سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم: أنّه عليه الصلاة والسلام بدأ بتشكيل أمّة جديدة، كانت لها كلّ مقوماتها الفكريّة والسلوكيّة والأخلاقيّة والتشريعيّة والدستوريّة واللسانيّة، فكان الفرد فيها ينبتُّ عن صلته بأيّ عالم غير عالم هذه الأمّة، بعدما ينصهر انصهاراً تاماً في بوتقة الإسلام، وتتّضح له غايته ومصيره، ثمّ ينطلق في اتجاه واضح بيّن، لا يزيغ عنه ولا يحيد.
ولقد وضّح النبيّ صلى الله عليه وسلم لكلّ فرد مهمّته، وربّاه على أدائها، ووضّح للجميع المهمّة الكبرى لهم في حياتهم، ورسم لهم الطريق لبلوغها، وعرّفهم بكلّ شيء في كلّ جانب من جوانب الحياة، كيلا تلتبس عليهم السبل، ولا تزلّ بهم قدم، وقادهم في هذا الطريق بنفسه ورعايته مدّة، ثمّ تركهم على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها، ومضى إلى ربّه، فانطلقوا بعده لم يغيّروا، ولم يبدّلوا، فكان من آثارهم ما كان، مما لا يخفى على كلّ عاقل منصف..
ومن كان يظنّ أنّ معاقل الوثنيّة في الجزيرة العربيّة تدكّ خلال هذا الزمن القياسيّ، وتصبح معقل التوحيد الخالص، ومناره لأشعّة الهدى.؟!
ومن كان يظنّ أنّ العرب الذين كانوا أشدّ الناس تفاخراً بالأحساب والأنساب يصبحون أكثر الأمم اعترافاً بالمساواة وتطبيقاً لها.؟!
ومن كان يظنّ أنّ العرب الذين كانوا مولعين بالخمر أشدّ الولوع يتركونها بعد التحريم طواعية، ويتخلّون عنها حبّاً لله وتعبّداً.؟!
لقد حدث ذلك كلّه في مدّة وجيزة، كانت مثار عجب العلماء والمؤرّخين، ودهشة المفكّرين والباحثين.. وإنّها لمعجزة الرسالة الخاتمة، التي إعجازها في تغيير النفوس، لا يقلّ عَنْ إعجازها في خرق النواميس.
ولقد كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم في تربية الأمّة أرقى الوسائل والأساليب، التي لا عهد للبشر بها في ذلك العصر، فقد كان يربّيهم تارة بالقدوة، وتارة بالقول، وتارة بالعمل، وتارة بهما معاً.. وكان ينمّي فيهم حبّ الله تعالى وخوفه، وخشيته ومراقبته، والإخلاص لوجهه، وابتغاء مرضاته. [السيرة النبويّة للشيخ محمّد محمّد أبو شهبة 2/630 بتصرّف وزيادة].
ولم تكن صلى الله عليه وسلم تربيته قاصرةً على فئةٍ دون أخرى في المجتمع، بل كان يتعهّد الرجال والنساء، والأطفال والأرقّاء، وأهل الحاضرة والبادية، وكان يترفّق بهم، ويتدرّج معهم، ولا يعنتهم، ولا يرضى لهم العنت، ويحثّهم على التعلّم والتعليم، ويضرب لهم الأمثال، ويسوق لهم المواعظ والحكم، ويقصّ عليهم أحسن القصص الحقّ، ويكثر لهم من إلقاء الأسئلة عليهم، ليشحذ أذهانهم، ويحفّز نفوسهم لتلقّي العلم، وحفظه ووعيه.
ولقد أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بمبدأ التعليم الدائم المستمرّ، ووجّه طاقات المجتمع إلى التعلّم والتعليم، والتبليغ عنه صلى الله عليه وسلم ولو آية، ورفع مكانة طلب العلم إذ جعله فريضةً، وجعل العلماء ورثة الأنبياء، ففي الحديث الشريف: عَنْ قَيْسِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ: قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ المَدِينَةِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه وَهُوَ بِدِمَشْقَ، فَقَالَ: مَا أَقْدَمَكَ يَا أَخِي ؟ فَقَالَ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: أَمَا جِئْتَ لِحَاجَةٍ ؟ قَالَ: لا، قَالَ: أَمَا قَدِمْتَ لِتِجَارَةٍ ؟ قَالَ: لا، قَالَ: مَا جِئْتُ إِلاّ فِي طَلَبِ هَذَا الحَدِيثِ، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَبْتَغِي فِيهِ عِلْماً سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الجَنَّةِ.. وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلا دِرْهَماً، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ ) [رواه الترمذيّ في كتاب العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم /2606/، وأبو داود في كتاب العلم برقم /3657/].
ورفع صلى الله عليه وسلم من شأن الدعاة المصلحين، والهداة المربّين، إذ قال لعليّ رضي الله عنه: (.. فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ ) [رواه البخاريّ في كتاب المناقب برقم /3425/، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة برقم /4423/].
وإنّ أعظم أسلوب جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم لنشر العلم بين فئات الأمّة على اختلاف مستوياتها: هو تحويل التعليم إلى مسئوليّة دينيّة اجتماعيّة، تُطالب بها كلّ فئة متعلّمة، مهما تكن درجة تعليمها، تجاه من يجاورها أوْ تختلط به،، وقد جاء ذلك في حديث واضح كلّ الوضوح، يقرّر هذه الحقيقة ويؤكّدها: عَنْ عبْد الرحمنِ بنِ أبْزى رضي الله عنه قال: " خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فحمد الله واثنى عليه، ثم ذكر طوائف من الناس، وأثنى عليهم خيراً، ثم قال: ( ما بالُ أقوامٍ لا يُفقِّهون جيرانهم ؟! ولا يُعلِّمونهم ؟! ولا يُفطّنُونهم ؟! ولا يأمُرونهم ؟! ولا ينهونهم ؟!
وما بالُ أقوامٍ لا يتعلَّمُون من جيرانهم ؟! ولا يتفقَّهُون ؟! ولا يتفطَّنون ؟!.
والله ليُعَلِّمَنَّ قومٌ جيرانهم، ويفقهونهم، ويُفطنونهم، ويأمرونهم، وينهونهم، وليتعلمن قومٌ من جيرانهم، ويتفقهون، ويتفطنون، أو لأعاجلنَّهم العقوبة في الدنيا.
ثم نزل فدخل بيته، فقال قومٌ: من ترونه عنى بهؤلاء ؟ قالوا: نراه عنى الأشعريِّين، هم قومٌ فقهاء، ولهم جيرانٌ جُفاةٌ من أهل المياه والأعراب.
فبلغ ذلك الأشعريَّين، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يارسول الله، ذكرت قوماً بخيرٍ، وذكرتنا بشرٍّ، فما بالُنا ؟
فقال: ليُفقهُنَّ قومٌ جيرانهم، وليفطّنُنَّهم، وليأمرونَّهم، ولينهوُنَّهم، وليتعلّمَنَّ قومٌ من جيرانهم، ويتفطنون، ويتفقهون، أو لأعاجلنَّهم العقوبة في الدُّنيا.
فقالوا: يارسول الله أنُفطّن غيرنا ؟ فأعاد قوله عليهم، فأعادوا قولهم: أنفطن غيرنا ؟ فقال ذلك أيضاً. فقالوا: أمهلنا سنةً، فأمهلهم سنة ليفقهوهم، ويعلمونهم، ويفطنونهم.
ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُون * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُون}[المائدة:78 ــ79]، [رواه المنذري في الترغيب والترهيب 1/86 و " مجمع الزوائد " 1/164 ورواه الطبرانيّ في الكبير، وقال الحافظ ابن السكن: " إسناد هذا الحديث صالح " ورجّح أستاذنا الشيخ عبد الفتاح أبو غدّة رحمه الله أنّه حسن أو يقاربه، ينظر: " الرسول المعلّم وأساليبه في التعليم " ص/17/].
يقول الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله في كتابه: " المدخل الفقهيّ العامّ " تعليقاً على هذا الحديث: " إنّ هذا الموقف العظيم في اعتبار التقصير في التعليم والتعلّم جريمة اجتماعيّة يستحقّ مرتكبها العقوبة الدنيويّة، موقف لم يرو التاريخ له مثيلاً في تقديس العلم قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا بعده، ويدخل في ارتكاب المنكر، واستحقاق العقوبة التعزيريّة عليه: إهمال الواجبات الدينيّة، ومن جملتها: التعليم والتعلّم، فإذا قصّر العالم في واجب التعليم، أو قصّر الجاهل في تعلّم القدر الواجبِ شرعاً من العلم: استحقّا عقوبةَ التعزير على التقصير، فإنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ( طَلَبُ العلمِ فَريضةٌ على كُلّ مُسلمٍ ) [روي بطرق كثيرة، وقد حسّنها الحافظ المزّيّ، وحكم السيوطيّ رحمه الله بصحّته، وقد جمع في طرقه جزءاً كما في " فيض القدير " للمناوي 4/267]، ولفظ: " المسلم " هنا يشمل الرجل والمرأة، لأنّ الحكم منوط بصفة مشتركة هي الإسلام " [الرسول المعلّم وأساليبه في التعليم ص/18/ للشيخ عبد الفتّاح أبو غدّة].
يقول " كارليل " في بيان حال العرب، ومدى تأثير النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم: " هم قوم يضربون في الصحراء، لا يؤبه لهم عدّة قرون، فلمّا جاءهم النبيّ العربيّ أصبحوا قبلة الأنظار في العلوم والعرفان، وكثروا بعد القلّة، وعزّوا بعد الذلّة، ولم يمض قرن حتّى استضاءت أطراف الأرض بعقولهم وعلومهم " [نقلاً عن كتاب " الرسول المعلّم وأساليبه في التعليم ص/11/ للشيخ عبد الفتّاح أبو غدّة].
لقد أثبت التاريخُ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معلّماً وأيّ معلّم، ونظْرةٌ يسيرة إلى ما كانت عليه البشريّة قبل رسولِ الله، وإلى ما آلت إليه البشريّة بعد رسالتِه تعطينا أوضح شاهد ودليل على ثبوت ذلك.
وإذا لاحظنا النماذج المعلّمة الهادية من النوع الإنسانيّ، التي شاهدتها البشريَّة بعد الرسولِ المعلّمِ صلى الله عليه وسلم رأيناها تدلّ أقوى الدلالة على عظم هذا المعلّم المربّي الكبير، الذي تتقاصر أمامه أسماء كلّ الكبار الذين عرفوا وذكروا في عالم التعليم والتربية وتاريخهما.
فأيّ معلّم من المربّين تخرّج على يديه عدد أوفر وأهدى من هذا الرسول الكريم، الذي تخرّج به هؤلاء الأصحاب والأتباع ؟ فكيف كانوا قبله ؟ وكيف صاروا بعده ؟ إنّ كلّ واحد من هؤلاء الأصحاب دليل ناطق على عظم هذا المعلّم المربّي الفريد الأوحد، وهذا يذكّرُنا بكلمة طيّبة جدّاً لبعض الجهابذة الأصوليّين، يقول فيها: " لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزةٌ إلاّ أصحابَه لكفوه لإثبات نبوّته " [ذكرها الإمام القرافيّ في كتابه الفروق 4/170 في آخر الفرق 242].
وإذا كانت رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّها علم وتعليم، وتربية وتزكية، فلن نستطيع أن نقدّم هنا إلاّ شذرات معبّرة، وقطوفاً مثمرة.. وإلاّ ففي كلّ حركة من حركات السيرة العطرة بصمة تعليميّة، ولمسة تربويّة، وصلّى الله على معلّم الخير، القائل: ( إنّما بعثت معلّماً ) [رواه ابن ماجة في سننه عن عبد الله بن عمرو بن العاص في المقدّمة 1/83/، والدارميّ في سننه، في حديث طويل، وفي سنده ضعف، ويشهد له حديث مسلم التالي].
فعندما خيّر النبيّ صلى الله عليه وسلم نساءه ".. فَبَدَأَ بِعَائِشَةَ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكِ أَمْراً أُحِبُّ أَنْ لا تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكِ، قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ.؟! فَتَلا عَلَيْهَا الآيَةَ، قَالَتْ: أَفِيكَ يَا رَسُولَ اللهِ أَسْتَشِيرُ أَبَوَيَّ.؟ بَلْ أَخْتَارُ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ لا تُخْبِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِكَ بِالَّذِي قُلْتُ، قَالَ: ( لا تَسْأَلُنِي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ إِلاّ أَخْبَرْتُهَا، إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتاً وَلا مُتَعَنِّتاً، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّماً مُيَسِّراً ) [رواه الإمام مسلم في كتاب الطلاق برقم /2703/.].
ويستفاد من هذا الحديث أنّ التعليم الحقّ والتيسير قرينان، ويقول الإمام الغزاليّ رحمه الله تعليقاً على هذا الحديث: " وفي إبهامه صلى الله عليه وسلم، وعدم مصارحته ومواجهته لعائشة بالزجر إشعارٌ بأنّ من دقائق صناعة التعليم أن يزجرَ المعلّم المتعلّم عن سوء الأخلاق باللطفِ والتعريض ما أمكن، من غير تصريح، وبطَريقِ الرحْمةِ من غير توبيخ، فإنّ التصريحَ يهتكُ حجاب الهيبة، ويورث الجُرأةَ على الهجوم بالخلاف، ويُهيّج الحرصَ على الإصرار " [نقلاً عن كتاب " الرسول المعلّم وأساليبه في التعليم ص/11/ للشيخ عبد الفتّاح أبو غدّة].
وممّا يؤكّد رفقه صلى الله عليه وسلم في التعليم، ورحمته بالمتعلّمين ما جاء في الحديث عَنْ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَحِيماً رَقِيقاً، فَظَنَّ أَنَّا قَدْ اشْتَقْنَا أَهْلَنَا، فَسَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا مِنْ أَهْلِنَا، فَأَخْبَرْنَاهُ ، فَقَالَ: ( ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ، فَأَقِيمُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ، وَمُرُوهُمْ، فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ ) [رواه البخاري في كتاب الأذان برقم /595/ ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة برقم /108/ وهذا لفظ مسلم].