تكريم الله للإنسان بالعقل


جاء القرآن بتمجيد العقل وتعظيمه وبيان مكانته، فبين أن أهل العقول هم المتفكرون دائماً في عظمة الله، وهم المقربون إلى ربهم، فهذه هي وظيفة العقل في القرآن، وأما السنة فقد علق النبي صلى الله عليه وسلم التكليف والمؤاخذة والعتاب والعقاب على وجود العقل واستقراره، لكن أهل البدع جعلوه حاكماً للشريعة قديماً وحديثاً، فما استساغه العقل قبلوه، وما لم يستسغه ويستوعبه ردوه؛ وبهذا تتميع أحكام الشريعة، فنعوذ بالله من الخذلان![1].


القرآن الكريم يدعو الإنسان دائماً إلى التفكر والى التأمل حتى يعي وحتى يفسر ما حوله ونجد عقيدة الروح هي إحدى العقائد الغيبية في الدين الإسلامي العظيم ولكن الفضيلة الأولى في هذه العقائد أنها لا تعطل عقول المؤمنين بها فالروح والجسد في القرآن الكريم هما ملاك الذات الإنسانية وتتم بهما الحياة ولا يجوز للإنسان أن يبخس للجسد حقاً ليوفي حقوق الروح وفي المقابل لا يبخس للروح حقاً ليوفي حقوق الجسد.

هذا هو القرآن الكريم وهذا هو الدين الإسلامي الذي يعتبر مفخرة لكل مسلم على وجه الأرض حيث فضله ووضعه في مكانته اللائقة ومكنه في الأرض يبتغي فيها معايشه، يقول تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [2].

هذه هي المكانة المتميزة للإنسان في القرآن الكريم ثم نجد أن هناك قوانين موضوعة للإنسان لكي يسمو بنفسه ولكي يعيش حياة منظمة لها أحكام وقوانين فهناك قوانين للأمانة: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [3] إن وثق بعضكم ببعض فلا حرج في ترك الكتابة والإشهاد والرهن، ويبقى الدَّين أمانة في ذمَّة المدين، عليه أداؤه، وعليه أن يراقب الله فلا يخون صاحبه. فإن أنكر المدين ما عليه من دين، وكان هناك مَن حضر وشهد، فعليه أن يظهر شهادته، ومن أخفى هذه الشهادة فهو صاحب قلب غادر فاجر. والله المُطَّلِع على السـرائر، المحيط علمه بكل أموركم، سيحاسبكم على ذلك[4].

وجاء أيضاً في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [5] هذه الآية من أمهات الآيات المشتملة على كثير من أحكام الشـرع، لأن الظاهر أن الخطاب يشمل جميع الناس في جميع الأمانات، وقد روي عن علي، وزيد بن أسلم، وشهر بن حوشب: أنها خطاب لولاة المسلمين، والأول أظهر، وورودها على سبب كما سيأتي لا ينافي ما فيها من العموم، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما تقرر في الأصول وتدخل الولاة في هذا الخطاب دخولا أوليا، فيجب عليهم تأدية ما لديهم من الأمانات، ورد الظلامات، وتحري العدل في أحكامهم، ويدخل غيرهم من الناس في الخطاب، فيجب عليهم رد ما لديهم من الأمانات، والتحري في الشهادات والأخبار[6].

إن الدين الإسلامي يحث المؤمنين على أداء الأمانة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [7].

هذا هو الإنسان صاحب العقل والبصيرة الذي يعي كيف يؤدي الأمانة وكيف يحافظ عليها لأنه أفضل مخلوق بين المخلوقات جميعها {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [8] ولقد احتار العلماء في القرن السابع عشر أين يضعون الإنسان، هل يضعونه في موضع واحد مع الحيوان؟ وهل هو من طبقات الحيوان اللبون؟ ومن هنا نشأت نظرية النشوء والارتقاء أو ما يعرف بنظرية السلالات.

كرم الله الإنسان بالعقل وبين منزلته في القران الكريم وأهميته، فالعقل ميزة الإنسان لأنه منشأ الفكر وله القدرة على الإدراك والتدبر وتصريف الحياة وينحط ويطغى ويفسد باجتناب الحق وإتباع الهوى، العقل أداة وصل الدين بقضايا الواقع لأنه يملك طاقات إدراكية أودعها الله فيه بدور مهم في الاجتهاد والتجديد إلى يوم القيامة.

العقل مناط التكليف وأساسه لان التكليف خطاب من الله ولا يتلقى ذلك الخطاب إلا من يعقل، وترجع أهمية العقل في القرآن الكريم إلى:
♦ العقل أداة التمييز والفهم والإدراك وبه ميز الله الإنسان عن سائر الخلق.
♦ أداة الاجتهاد ووصل الدين بقضايا الواقع.
♦ العقل مناط التكليف.
♦ ومنهجية التفكير كما يبرزها القران الكريم.

أمرنا الله عز وجل بالتدبر في القران الكريم وفهم معانيه والتدبر في خلقه وكونه لقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [9] فربط الحالة الإيمانية بالحالة الفكرية ويرد إليه التفكر العقلي الخالص والتأمل ألذهني العميق الذي يفضي إلى المعرفة الصحيحة.

وإذا قلنا العقل الإسلامي، قصدنا به العقل الذي يتخذ من الإسلام منهجًا له في تحركه وفعله واستنتاجه وحكمه، ومعلوم شـرعًا وعقلاً ومنطقًا وحسًّا أن الإسلام دين الفطرة السليمة ورسالة الإنسانية في اعتدالها وقيمها وإنسانيتها، فأحكامه وتوجيهاته مستساغة عقلاً، مبرهنة منطقًا، مقبولة طبعًا، مألوفة فطرة، مستحسنة عُرفًا وعادة، وهذا هو الذي عبر عنه قديمًا وحديثًا بتطابق المنقول مع المعقول. وما يظن أنه مخالف لذلك فهو راجع إلى أن الأمر بين الوحي والعقل في المناط والمحل الواحد لم يتحقق على الوجه المطلوب، كأن يرجع إلى الجهل بالعربية والمقاصد، أو يرجع إلى أن الوحي مما يعلو الفهم العقلي، أو أن يكون الوحي قد حمل على ظاهره وهو مما ينبغي أن يؤول لإزالة التناقض المتوهم بينه وبين العقل، أو أن العقل قد أخطأ فيما توصل إليه من نتائج، أو أن ما ظن من آحاد الأدلة وحيًا هو على غير ذلك.

إننا نقصد بالعقل الإسلامي في العصر الحالي كما ذكرنا عقل الفرد المكلف، وعقل الخاصة من العلماء والمجتهدين، وعقل الجماعة والأمة المسلمة.

فعقل الفرد المكلف هو أداة فهمه للأحكام والامتثال إليها، وهو مطالب شـرعًا بمزاولة أقدار عقلية تتناسب مع إمكاناته واستطاعته، ومحمول على لزوم بذل أكبر ما يمكن من حظوظ الفهم والاستيعاب، والتفكر في الشرع والكون والنفس، بهدف تقوية الإيمان، وتصحيح التعبد والتعامل، وترشيد السلوك، وتهذيب الأخلاق، حتى بلوغ درجات الكمال أو الاقتراب منه.

أما عقل الخاصة والنخبة والصفوة فهو عقل العلماء والمجتهدين والخبراء، الذين توافرت لهم حظوظ من الفهم والاستيعاب والتمييز لم تتوفر لغيرهم من العامة، وهي تتفاوت رسوخًا وعمقًا بتفاوت صلاح النفس، وعمق التحصيل، وطول الخبرة، وشدة الاستفراغ، وتدريب الملكة على البذل والنظر والتأمل والمراجعة وغير ذلك وواجب العلماء اليوم تشكيل عقل جماعي متخصص ينظر للواقع بشمول وإحاطة واستيعاب، ويزن الأمور بميزان الجماعية التي بارك الله فيها من جهة، والتي يتوقف فهم الواقع المعاصر عليها، لما بلغته قضاياه وأحواله من تشعب وتعقيد واختلاط وتداخل في صوابه وخطئه، في حلاله وحرامه من جهة أخرى، هذا فضلاً عما يتوقف فهمه على ذوي الاختصاص والخبرة لطبيعته وماهيته، وفضلاً أيضًا عما شاب العقل الإسلامي من اختلالات واهتزازات في الفهم والتمييز بسبب اختلاط الثقافة الإسلامية بثقافات أخرى، وليس مع ذلك الاختلاط من تحصين ووقاية وعمق في الأصالة والهوية والثقافة وتشبع بالمعرفة الإسلامية في جانبها العقدي والتشريع والأصولي، بل إن قلة ذلك التحصين أو انعدامه أحيانًا راجع إلى نفس سبب ذلك الاختلاط غير المتكافئ، والمقصود به التحامل والتآمر وتشويش العقل الإسلامي، وتشويه الممارسة وتحريفها عن منهج الصواب والصلاح والسداد والرشد.

إن التحديات الفكرية والاقتصادية والحضارية المعاصـرة التي تواجه الكيان العام، وتستهدف البناء القيمي التشـريعي الإسلامي لن يكون مقدورًا عليها إلا بتشكيل العقل العام والضمير الجماعي المتشبع بالروح العقدية والفكرية الأصيلة، والروح المعنوية والوجدانية العالية، والنفس الإصلاحي التعميري الشامل، والرغبة في الشهادة على العالم، وإحياء الخيرية والرحمة لكافة الناس[10].


[1] كتاب البدعة وأثرها في محنة المسلمين، المؤلف : أبو إسحاق الحويني الأثري، (ج1/ص4). ابو اسحاق الحويني: هو حجازي بن محمد بن يوسف بن شـريف، أحد علماء الدين الإسلامي المصـريين المعاصـرين، وأحد أشهر دعاة الدعوة السلفية حالياً. ولد بقرية حوين بمحافظة كفر الشيخ بمصر. يعده البعض كبير مشايخ أهل الحديث والسلفية في مصـر والعالم، وُلدَ يومَ الخميسِ غرةِ ذي القَعدةِ لعامِ 1375هـ، الموافقِ 06 / 1956م بقريةِ حوينٍ بمركزِ الرياضِ منْ أعمالِ محافظةِ كفر الشيخِ. ( الموسوعة الحرة موقع في الانترنت ).
[2] سورة الأعراف:10.
[3] سورة البقرة:283.
[4] التفسير الميسر (ج1/ص49).
[5] سورة النساء:58.
[6] فتح القدير: محمد الشوكاني الناشر: دار ابن كثير، - دمشق، الطبعة: الأولى - 1414 هـ (ج1/ص555).
محمد بن علي بن محمد الشوكاني، أحد أبرز علماء أهل السنة والجماعة وفقهائها، ومن كبار علماء اليمن، (1173 هـ - 1255 هـ، 1759-1834م). ولد في وسط نهار الاثنين الثامن والعشرين من شهر ذي القعدة سنة 1173 هجرية في بلده هجرة شوكان، ونشأ في صنعاء، وتلقى العلم على شيوخها. اشتغل بالقضاء والإفتاء، توفي في ليلة الأربعاء السابع والعشـرين من شهر جمادى الآخرة سنة 1255 هـ. الأعلام للزركشي دار العلم للملايين ( ج 5 - ص 17 ).
[7] سورة الأحزاب:27.
[8] سورة الإسراء:70.

[9] سورة النساء:82.

[10] (الاجتهاد المقاصدي حجيته، ضوابطه، مجالاته) الجزء الثاني، للدكتور نور الدين بن مختار الخادمي، في سلسلة ( كتاب الأمة)، (ج1/ص149).
______________________________ ______________________
الكاتب: د. سمير مثنى علي الأبارة