الشرك انتكاسة عن الفطرة وانحراف عن التوحيد




الشِّركُ انتكاسةٌ تُصيب الفِطرة، وانحراف عن التوحيد وهو من الكبائر بل هو أكبر الكبائر؛ لذا حرمت على صاحبه المغفرة ودخول الجنة {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (المائدة: 72)، وكثيرًا ما يُحذِّر الله -تعالى- من الشرك عقب الأمر بالتوحيد؛ لئلا يشوب التوحيد شائبة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (البقرة: 21) هذا أمر بالتوحيد، وسبب هذا التوحيد: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} (البقرة: 21 - 22) ثم عقِب ذكر التوحيد وسببه حذّر من الشرك {فَلَا تَجْعَلُوا لله أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 22).



ويروي النبي - صلى لله عليه وسلم - عن الله -تعالى- أنه قال: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه». أخرجه مسلم. ونهى النبي - صلى لله عليه وسلم - عنه فقال: «لا تشرك بالله شيئًا وإن قُطّعت وحُرِّقت، ولا تترك صلاة مكتوبة متعمدًا. فمن تركها متعمدًا فقد برئت منه الذمة، ولاتشربِ الخمر فإنها مفتاح كل شر». أخرجه ابن ماجه.

ظنٌّ خطأ


يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أنَّ التحذير من الشرك والحديث عنه لا يناسب قوما ظاهرهم أنهم موحّدون، وهذا ظنٌّ خطأ؛ لأن القرآن كله والشريعة كلَّها إنما جاءت لتُقَرِّرَ لُزومَ إفراد الله -تعالى- بما يستحقّ، وتحذر من سلوك سبيل المشركين وتبين مآلهم، فلو كان نصف حديث الناس أو أكثره عن التحذير من هذا الذنب العظيم -الذي هو أعظم الذنوب- لما كان ذلك مستكثرًا عند مَن يَفْهَمُ شريعةَ الله -تعالى- فهمًا صحيحًا.


طريق التوحيد والهداية والنجاة


فالقرآن العظيم جاء يحذر المشركين من شركهم؛ ليأخذ بأيديهم إلى التوحيد والهداية والنجاة {فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} (الذاريات: 50 - 51)، وكل رسول كان يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59) كما قال -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25)، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36).

تحذير المؤمنين من الشرك


ولم يقتصر التحذير من الشرك على الكفار فقط، بل حذر الله المؤمنين منه، وأمرهم بالإيمان مع إيمانهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} (النساء: 136)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ} (الحديد: 28)، والعبد المؤمن قد هداه الله -تعالى- ودله طريقه المستقيم ومع ذلك يقرأ في كل ركعة من كل صلاة يصليها: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: 6).

تحذير الأنبياء والمرسلين


ولعظيم أمر الشرك لا يكتفي القرآن بتحذير المشركين والمؤمنين منه، بل يحذر الله الأنبياء والمرسلين من الوقوع في الشرك وهم معصومون منه: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} (الحج: 26) وبعد أن ذكر الله -تعالى- جملة من الأنبياء في كتابه قال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 88)، قال العلماء: «فإذا كان ينهى عن الشرك من لا يمكن أن يباشره فكيف بمن عداه»؟!

الحذر من الوقوع في الشرك


وإذا كان الشرك بهذه الخطورة المتناهية، فإنه يجب على العبد ألا يأمنه على نفسه، ولا سيما أن النبي - صلى لله عليه وسلم - خاف على صحابته الوقوع في الشرك الأصغر، روى أبو سعيد مرفوعًا: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: «بلى يارسول الله»، قال: «الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته؛ لما يرى من نظر الرجل».

قال العلماء: «فلذلك صار خوفُه - صلى لله عليه وسلم - على أصحابه من الرياء أشدَّ لقوةِ الداعي وكثرته دون الشرك الأكبر، مع أنه أخبر أنه لا بد من وقوع عبادة الأوثان في أمته؛ فدلَّ على أنه ينبغي للإنسان أن يخاف على نفسه الشرك الأكبر إذا كان الأصغر مخوفًا على الصالحين من الصحابة مع كمال إيمانهم، فينبغي للإنسان أن يخاف الأكبر؛ لنقصان إيمانه ومعرفته بالله -تعالى.


الشِّرْك بالله نوعان


والشِّرْك بالله -تعالى- نوعان: شرْكٌ أكْبر، وهو عِبادة غير الله، أو صَرْف أيِّ شيءٍ مِن العبادة لغير الله، وشرْك أصغَر ومنه الرِّياء؛، قال -تعالى- في الحديث القُدسي: «أنا أغْنَى الشُّركاء عنِ الشرك، مَن عمِل عملاً أشْرَك معي فيه غيري تركتُه وشِرْكه» رواه مسلم.

بعض المحرَّمات الشركية


وإليك بيانَ بعض المحرَّمات الشركية التي يجِب الإقلاع عنها، وقد راعينا في اختيارها ما يهمُّ ويقَع فيها السوادُ الأعظم من الناس، فنسأل الله -تعالى- أن يقيَنا وسائرَ المسلمين الذنوبَ والمعاصي، وأن يختم لنا بخاتمةِ السعادة أجمعين.

(1) شدُّ الرِّحال إلى القبور والأضرحة

وهذا أمرٌ قد عمَّ وانتشر انتشارَ النار في الهشيم، وشدُّ الرِّحال والذَّهاب إلى الأموات وسؤالهم والاستعانة بهم، والنَّذْر والدُّعاء عندهم، إنَّما هو شرْك يُخالف صريحَ القرآن والسُّنة، قال -تعالى-: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سبحانه وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18).

وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: كنتُ خلْفَ النبي - صلى لله عليه وسلم - يومًا فقال: «يا غلامُ، إني أُعلِّمك كلمات: احفظِ الله يحفظْك، احفظِ الله تجدْه تُجاهَك، إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أنَّ الأمة لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإنِ اجتمعوا على أن يضرُّوك بشيء لم يضرُّوك إلا بشيء قد كتَبَه الله عليك، رُفِعت الأقلام وجفَّتِ الصُّحُف».

وعن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ النبي - صلى لله عليه وسلم - يقول: «قال الله -تعالى-: أنا أغْنَى الشُّركاء عن الشِّرك، مَن عمِل عملاً أشْرك فيه معي غيري تركتُه وشِرْكه».

وفي هذه الأدلَّة مِن القرآن والسُّنة الكفاية ليتبيَّن ضلالُ مَن يفعل ذلك؛ اعتقادًا منه أنَّ هناك مَن ينفع أو يضر مع الله -تعالى.

(2) الحلف بغير الله -تعالى

لا يجوز للمسلِم أن يحلِفَ أو يقسم بغير الله -تعالى-، مِثال ذلك: الحَلِف بالأمانة والنِّعمة، وحياة النبي وحياة الأب والأم، وروح فلان أو رحمته، أو غير ذلك، فكلُّ هذا حرامٌ، وإليك بعضَ الأدلَّة من الأحاديث الصحيحة، رَوى البخاريُّ ومسلمٌ عنِ ابن عمرَ مرفوعًا قال - صلى لله عليه وسلم -: «ألاَ إنَّ الله ينهاكم أن تحلِفوا بآبائكم، فمَن كان حالفًا فليحلفْ بالله أو ليصمت»، ورَوى أبو داود: «مَن حلَف بالأمانة فليس منَّا».

(3) تعليق التمائم

والتَّمائم جمْع تميمة، وهي خرَزة كان العرَب يلبسونها أولادهم، زاعمين أنَّها تدفَع عنهم شرَّ الجن وتقيهم العين وغير ذلك، وهذا شِرْك وحرام، والدليل قول النبي - صلى لله عليه وسلم -: «مَن علَّق تميمةً فقد أشرك»، وقد يقول قائل: إنْ كانتِ التميمة مِن آيات القرآن، فهل تجوز؟

الإجابةُ ما جاء في كتاب (فتح المجيد في شرْح كتاب التوحيد) ما يلي باختصار: «أنَّ السَّلَف اختلفوا في ذلك فبعضُهم رخَّص فيها، وبعضهم منَع، والأقرب إلى الصواب هو النهيُ عن ذلك للأسباب التالية:

- عموم النهي ولا مُخصِّصَ للعموم.

- سدّ الذريعة، فإنَّه يُفضي إلى تعليق ما ليس كذلك.

- أنَّه إذا علَّق فلا بدَّ أن يمتهنَه المعلِّق بحملِه معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء، ونحو ذلك.
(4) الرُّقية

والرُّقية منها ما هو شِرْك، ومنها ما هو مشروع، فالأوَّل محرَّم وشِرْك، والدليل ما أخرجه مسلمٌ عن عوف بن مالك قال: «كنَّا نرقي في الجاهلية فقُلنا: يا رسولَ الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: «اعْرضوا على رُقاكم، لا بأسَ بالرُّقَى ما لم تكن شِركًا»، فإن كانتِ الرُّقية بتعاويذ وطلاسِم وكلمات غير مفهومة، فهذا شرْكٌ وكُفر، أما إذا كانت بأسماء الله أو صِفاته أو بقرآنه أو بكلام النبي - صلى لله عليه وسلم - فكلُّه جائزٌ، وغير ذلك فهو شرْك.

(5) تصديق العرَّافين والدجَّالين

مَن أتَى العرَّافين والدجَّالين ليسألهم عن شيء، فقد أتى بابًا من أبواب الشِّرْك؛ لأنه اعتقد أنَّ هناك من البشر مَن يعلم الغيب، وهذا افتراءٌ وكذِب؛ لقوله -تعالى-: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون} (النمل: 65)، هذا، وقد حذَّر النبي -صلى لله عليه وسلم - أمتَه مِن إتيان العرَّافين والدجَّالين؛ فقال - صلى لله عليه وسلم -: «مَن أتى عرَّافًا فسأله عن شيء لم يُقبل له صلاةٌ أربعين ليلة»، وأنواع الدَّجَل والشعوذة كثيرة؛ كضَّرْب الودع، وقراءة الفنجان، وتصديق أبراج الحظ في الجرائد والمجلات، وقراءة الكف والكوتشينة... إلخ.

(6) الطِّيَرة والتشاؤم

الطيرة أو التشاؤم شرْك؛ لأنَّ الإنسان إنْ أراد أن يفعل شيئًا كسفَر أو زواج أو غير ذلك وتشاءَم مِن صوت بومة، أو رقم 13، أو لون مِن الألوان، أو كلمة يسمعها، أو غير ذلك، وردَّه عما كان سيفعله؛ خوفًا من ضرر يصيبه من ذلك، فقدْ أوقع نفسه في الشرك، قال القاضي عياض -رحمه الله تعالى-: إنَّما سمَّاها شِركًا؛ لأنَّهم كانوا يرون ما يتشاءَمون به مؤثرًا في حصولِ المكروه، وملاحظة الأسباب دون مسبِّبها -سبحانه- في الجملة شِرْكٌ خفي، فكيف إذا نظَر إليها جهالةً وسوء اعتقاد؟!

(7) الرياء أو الشرك الخفي

مِن شروط العمل الصالح أن يكون خالصًا من الرِّياء، فمن يُرائي في صلاته أو صدقته أو حجَّته أو شجاعته، فعملُه مردودٌ عليه؛ لقوله -تعالى-: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة: 5)، ثُمَّ إن الرِّياء محبِط للعمل وخِداع للنفْس؛ قال -تعالى-: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (النساء: 142)، وقد حذَّر النبي - صلى لله عليه وسلم - وأنذر من الرِّياء والشِّرْك في الأعمال والأقوال، فقال فيما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أنَّه - صلى لله عليه وسلم - قال: «قال الله -تعالى-: أنا أغْنى الشُّركاء عن الشِّرْك، فمَن عمل عملاً أشْرَك فيه معي غيري تركتُه وشِرْكه».


اللجنة العلمية في الفرقان