إن أكرمكم عند الله أتقاكم
كتبه/ محمد القاضي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإنه مما لا شك فيه أن القرآن الكريم يزخر بالمعاني التربوية الرائعة التي لو سلطنا الضوء عليها لوجدنا فيها ما يقوِّم السلوك، ويهذب النفس الإنسانية؛ حتى تصل إلى أعلى درجات الرقي والتحضر، ومن جملة المعاني: تلك المعاني التي تشير إليها هذه الآية المباركة من سورة الحجرات، هذه السورة المليئة بالمعاني التربوية والسلوكية الراقية، والتي يسميها بعض المفسرين بـ"سورة الأخلاق"، وهذا المعنى يلوح لك عندما تقرأ هذه الآية، أن الإسلام لا يفرق بين الناس بألوانهم ولا بأصولهم ولا بأنسابهم، وإنما يُفرِّق بينهم على أساس التقوى؛ يقول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13).
قال الإمام ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية ما ملخصه: "يقول -تعالى- مخبرًا للناس أنه خلقهم من نفس واحدة، وجعل منها زوجها، وهما آدم وحواء، وجعلهم شعوبًا، وهي أعم من القبائل، وبعد القبائل مراتب أخر: كالفصائل، والعشائر، والعمائر، والأفخاذ، وغير ذلك.
وقيل: المراد بالشعوب بطون العَجَم، وبالقبائل بطون العرب، كما أن الأسباط بطون بني إسرائيل، فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية، وهي طاعة الله ومتابعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ ولهذا قال -تعالى- بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضًا، منبهًا على تساويهم في البشرية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) أي: ليحصل التعارف بينهم، كلٌ يرجع إلى قبيلته.
وقوله: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) أي: إنما تتفاضلون عند الله بالتقوى لا بالأحساب".
ثم ساق -رحمه الله- مجموعة من الأحاديث النبوية التي توضح هذا المعنى وتبيِّنه أتم بيان، ومن ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: طاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة على ناقته القَصْواء يستلم الأركان بمحجن في يده، فما وجد لها مناخًا في المسجد حتى نزل -صلى الله عليه وسلم- على أيدي الرجال، فخرج بها إلى بطن المسيل فأنيخت، ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطبهم على راحلته، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلاَنِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، قَالَ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ثم قال: (أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلكُم) (رواه الترمذي وابن حبان واللفظ له، وصححه الألباني).
في هذا اليوم الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله يقرر النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه المعاني السامية، أنه لا فخر لأحد على أحد إلا بتقوى الله، مع أن الناظر في التاريخ يرى الملوك والأمراء في هذه اللحظات يفتخرون بأنسابهم وقومياتهم، ويتعاظمون ويتكبرون على الناس بما لا يعلم حقيقته إلا الله، فيا له من معلم للبشرية! فالنصر والتمكين لم يكن لأجل العرب والعروبة، ولا لأجل أن هذا الشعب هو شعب الله المختار وأن بقية الشعوب عبيد له؛ وإنما لأنهم يتقون الله، ومن يتقي الله؛ وقاه وأعانه، وسدده وهداه، وهذا تجسيد لمعنى العبودية".
وفي البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: (أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ) قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: (فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ) قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: (فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقِهُوا).
حديث آخر عند مسلم -رحمه الله- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ).
وروى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: (انْظُرْ، فَإِنَّكَ لَيْسَ بِخَيْرٍ مِنْ أَحْمَرَ وَلا أَسْوَدَ إِلا أَنْ تَفْضُلَهُ بِتَقْوَى) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).
هذه الأحاديث تقرر ميزان العدالة الذي جاء به الإسلام؛ فالعبرة بالأعمال، وليست بالأنساب؛ فمن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه، فليست العبرة أن يكون من نسب النبي الفلاني أو من الولي الفلاني أو من الشِعب الفلاني أو العرق الفلاني؛ وإنما العبرة بتقواه لله -تعالى-، وهذا يبطل النظرية السامية التي جاء بها اليهود، وهي من جملة الأباطيل التي اخترعها اليهود وصدقوها، حالهم كحال الذي كذب الكذبة وصدقها، وإلا فالسامية ليست حكرًا على اليهود وحدهم؛ بل هي للعرب أيضًا، وللبابليين، والآشوريين، والكعنعانين، والسوريين، والفلسطينيين، وكل من سكن هذه المنطقة من جزيرة العرب وما حولها، وهذا المقرر عند علماء التاريخ أن أولاد سام بن نوح -عليه السلام- من ذكرناهم وغيرهم، وليست حكرًا على اليهود.
والعجب.. أن اليهود أقنعوا العالم بهذه الأباطيل بما يملكونه من السحر، أقصد: سحر البيان؛ فإن من البيان لسحرًا يقلب الحقائق ويزور التاريخ، وحتى لو قصرت هذه الصفة على اليهود أو على اليهود والعرب، أو غير ذلك؛ فهذا لا يعني أنهم من طينة أخرى غير الطينة التي خلق منها الناس، وهذا الفكر الشعوبي المقيت الذي يقسِّم الناس على أساس عرقي هو عين عبية الجاهلية التي نهى عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ففي الحديث عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ، لَيَنْتَهِيَنَّ قَوْمٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمْ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى الله مِنْ الجُعْلاَنِ) (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني).
وحديث آخر: روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: )إِنَّ أَنْسَابَكُمْ هَذِهِ لَيْسَتْ بِمَسَبَّةٍ عَلَى أَحدٍ، كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ، طَفُّ الصَّاعِ لَمْ تَمْلَئُوهُ، لَيْسَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إِلا بِدِينٍ أَوْ تَقْوَى، وَكَفَى بِالرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ بَذِيًّا بَخِيلا فَاحِشًا) (رواه أحمد، وصحح الألباني).
وقد رواه ابن جرير، عن يونس، عن ابن وهب، عن ابن لَهِيعة به، ولفظه: (النَّاسُ لآدَمَ وَحَوَّاءَ كَطَفِّ الصَّاعِ لَمْ يَمْلأوهُ، إنَّ اللّهُ لا يسألُكُمْ عَنْ أحْسابِكُمْ وَلا عَنْ أنْسابِكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ، إن أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أتْقاكُمْ).
فهذه النصوص من الكتاب والسنة متعاضدة على أن الناس يتمايزون، وأنهم لا يستوون؛ فالمؤمن التقي ليس عند الله وعند المؤمنين كالمجرم الشقي، قال -تعالى-: (لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) (الحشر:20)، وقال -تعالى-: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين َ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (القلم:35-36).
وإن هذا التمايز مبني على أسس من العدل؛ فالإسلام دين العدل وليس دين المساواة كما يدعي البعض، فالعدل كل العدل ألا يتمايز الناس من أجل أن هذا أبيض أو أن هذا أسود، أو أن هذا عربي وذاك أجنبي؛ فهذا لا قيمة له؛ لأنهم في النهاية كلهم لآدم، وآدم من تراب؛ فالتكبر والتعاظم بالأنساب والأحساب، والانتساب للقوميات والعصبيات المختلفة... هذه عبية الجاهلية وتعاظمها بالآباء التي نهانا عنها إسلامنا الحنيف.
فالغرض المقصود أن الناس في الإسلام يتمايزون بقربهم من الله، والتزامهم بأمره، وعملهم بشرعه، وحرصهم على مرضاته؛ عندئذ يتمايز الناس، وهذا هو قمة العدل والسمو الإنساني أن يتمايز الناس على أساس حبهم للذي خلقهم وأوجدهم من العدم، وامتن عليهم بصنوف النعم، ولا قيمة لاختلاف الصور والألوان، و... في تقسيم الناس.
والأخوة في الإنسانية وإن كانت متحققة؛ لكنها لا تجدي نفعًا إذا كانت على حساب الإيمان بالله وتصديق رسوله -صلى الله عليه وسلم-، كما قال -تعالى-: (أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) (هود:60)، بعد أن ذكر -جلّ وعلا- أخوتهم في النسب والإنسانية: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُم هُودًا) (هود:50).
وهذه الروابط القائمة على أساس الإخوة في الإنسانية تتهاوى عند أول محك لها على أرض الواقع؛ ففي الواقع هناك شعوب ترى لنفسها الفضل على بقية البشر لا لشيء إلا لأصلها وعنصرها؛ فبعيدًا عن الدعاوى الفارغة نرى الناس يُعاملون في المجتمعات المدنية المعاصرة على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية والثالثة لأجل الأصول والألوان، وهذا نقض لتلك المساواة المزعومة.
بل الذي وصلت إليه البشرية اليوم بسبب الشعوبية والتعالي تستحيي أن تفعله الوحوش في البراري؛ فالدماء تراق هنا وهناك، وليس ما حصل لأسطول الحرية منا ببعيد، شعوب تقتل من الجوع والحصار تحت مرأى ومسمع الجميع، والرجل في أوروبا وأمريكا يبكي من أجل الكلب الذي لا يجد العناية التي تليق به في أحد أكبر التجمعات الكلبية الكبرى في تلك البلاد؛ فأي تناقض أعظم من هذا التناقض؟!
فالمسلمون كانوا وما زالوا هم أصحاب القيم الثابتة التي لا تتغير مع تغير الأزمان وتبدل العصور، وهذه القيم هي التي ترفع من مستوى البشرية وتجعل الإنسان أكثر قربًا من الله، وفي هذا صلاح القلوب والأعمال والمجتمعات، فكلما كان الإنسان أتقى لله كلما كانت مكانته في الإسلام أعظم، وقد كان أئمة المسلمين الذين نقلوا الدين وعلموا الدنيا الإسلام من الموالى، يعني من الدول التي فُتحت على أيدي المسلمين، ودخل أبناؤها في الإسلام وإن كانوا ليسوا من العرب، فهذا لا قيمة له عند المسلمين.
فالحمد الله الذي وهب لنا نعمة الإسلام، ونسأله -سبحانه- أن يغفر لنا الزلل والخطأ، وأن يتجاوز لنا عن ذنوبنا ومعاصينا، وأن يتوفانا على الإسلام والسنة، هو ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين، وعلى آله وصحبه وسلم.