في الأدب (الأدب والدعوة إلى الفضيلة)
أحمد مظهر العظمة
طالما قال لي بعض قراء هذه الصحيفة: لا نرى أدباً بين موضوعات مجلة التمدن الإسلامي، والأدب من أركان جملة نقرأها تحت عنوانها: مجلة إسلامية علمية أدبية.
وكأن هؤلاء لا يرون من الأدب مواساة الفكرة المريضة، ودفع العزيمة الواهنة، وإرهاف الحس الزائد، وذكر الأمس الباكي، والسعي للغد المنتظر، والهداية إلى الصراط المستقيم، الذي ينتهي حيث تبدأ الإنسانية الهادية المهدية، التي يعلم المرء فيها أنه لم يخلق للعب واللهو والغرور، فلا يسعى إلا لما يكون سعيه له مشكوراً.
لا، لا يرون هذا أدباً وقد عرفوه بالكلام على شاعر أو ناثر.... كما عودتهم فحوص (البكالوريا)، كأن الأدب بحث ذلك وما كان بسبيله، أو كأنه ألهية شريفة كما يقولون، ونحن في حاجة للهو واللعب لننشئ الحياة ونبني المجد.
ولو أن طلاب البكالوريا يدرسون قبل الشعراء والكتاب، الأدب نفسه، وأسلوبه، ومعانيه، وأغراضه، وواجب الأديب، وما إلى ذلك، ولو أنهم يسألون معالجة بحوث اجتماعية وخلقية...بالأدب، بعد توجيههم نحو الأدب التطبيقي لا الأدب الصرف فحسب، - لو كان ذلك - لما سمعنا أنين الأدب وشكواه، مما حكم عليه به وهو منه براء، ولما رأينا هذه الحدود الضيقة التي يجعلونها تحيط بالأدب، وهو الذي يأبى الضيق، ويثور على القيود ويهوى ظلال الحرية الفسيحة الأرجاء المنبسطة الأكناف.
لا، ليس الكلام على شاعر أو كاتب هو الأدب وحده دون غيره، وليس الأدب ألهية إن قصد بها غير جريه مجرى الطبع في نفس الأديب بحيث لا يجد صاحبه منه عنتاً وتبرماً، بدل الراحة إليه واللذة به.
وعندي أن تاسوني Tassoni لعلى حق إذ يرى أن الأدب مضر بالأمة والبشرية، إن كان يعني به أدب الخلاعة والمجون.
وليس الأدب قولاً معاراً، نعيده على مسامع أمة بأبواق غيرها، فتمجه أذواقها حين لا تجد فيه سوى الخواطر العارضة، التي لا تأتلف وخواطر (جمهورها الأدبي)، فتمر به كما تمر باللغو أو الرذال.
لست أنكر بعد هذا أن الأدب صدى الجمال، ينبعث من نفوس ذات إحساس عميق به، في ألفاظ وجمل فنية، يوحيها ذوق صهار وطبع متمكن. فتعمل في النفوس الحساسة عملها، فإذا بالآذان تسمعها كتغريد البلبل، وخرير الغدير، ورنة الوتر، أو أنين الأسى، وإذا بالأعين تبصرها كوميض البرق وقطر الندى، ولمعان الماس، أو دمعة المظلوم، وإذا بالنفوس تحسها كساعة الفجر، ونشوة النصر، وفرحة اللقاء أو لوعة الفراق.
لست أنكر هذا، إنما أنكر أن يكون للأدب موضوع خاص، ما دام أساسه الجمال، وقد يشكو المرء شدة، أو يصف قبحاً، أو يتأثر لمظلوم، فيكون كلامه عن ذلك وما شابهه، جميلاً لجمال الأسلوب بما فيه من فن أو إحساس لفظي متنقل، يوحي إلى قرائه أو مستمعيه ما يوحي من معاني أراد أن يستجيبوا لها.
فالأدب لا يختص إذن بموضوع دون موضوع، وإن كان ألصق ببعض الموضوعات من بعض، ولا يحرص إلا على الفن البياني الجميل، ذي القوى الأخاذة، التي لا يوجد مثلها في الكلام العادي، لأن الأدب ليس وسيلة من وسائل التفاهم الضروري، بل وسيله تأثير إن كان تطبيقاً، أو وسيلة تعبير عالية، إن كان أدباً صرفاً، وليست هذه الوسيلة بمكنة غير الأدباء لأن التذوق وحده أو الشعور لا يكفي للأدب، إذا لم ترافقه تلك الفلسفة الفنية البيانية، وهي كما قال عنها نابغة الأدب وفقيده مصطفى صادق الرافعي: (أن تمتد الحياة من النفس إلى اللفظ، فتصنع فيه صنعها، فتفصل العبارة الفنية عن كاتبها أو قائلها وهي قطعة من كلامه لتستحيل عند قارئها أو سامعها قطعة من الحياة في صورة من صور الإدراك).
وإذا قلنا إن الأدب لا يحرص على موضوع خاص، فليس ذلك بدعاً من الرأي الأدبي، فقد قال الأستاذ لاسل آبركرومبي Lascelles Abercrombie مدرس الأدب الانكليزي بجامعة لندن، في كتابه: (قواعد النقد الأدبي): (وطالما حاول الكثيرون أن يشرحوا لنا نوع المادة التي تصلح للأدب الصرف والتي لا تصلح له، والحقيقة أن كل شيء صالح لأن يكون مادة لفن الأدب، على شرط أن يتناوله المؤلف كتجربة يحسها لأجل ذاتها، ويوصلها في هذه الصورة إلى القارئ). (في وسعنا أن نعتبر كتاب (أصل الأنواع) أدباً إذا تجاهلنا الغرض الذي ألف من أجله، وطالعنا عبارته على أنها مقصودة لذاتها - رغم أنها كتبت لغرض خاص).
ولعل في كلام الأستاذ لاسل ما يبين خطأ كثيرين ممن يبحثون الحالة الأدبية في بلد ما، ويحاولون ألا يجعلوا أدباً إلا ما كان بموضوع خاص يرونه هو الأدب دون سواه.
♦♦♦
ننتهي من هذه المقدمة غير المقصودة لذاتها، إلى القول بأن الأدب إذا لم يكن رائده الفضيلة دائماً، برأي من ينظرون إلى الجمال نظرة مجردة من الاعتبار الخلقي أو الاجتماعي، أو يريدون الأدب صرفاً، فإن له بالفضيلة والحقيقة صلات، ما دامتا لا تريان إلا جميلتين من قبل عشاقهما، محبتين إليهم، تثيرهم للدعوة إليها، كما يثير الجمال مجرداً غيرهم للدعوة إليه. وإن اتخاذ الجمال موضوعاً للأدب دون المبالاة بما يحيط به ويؤثر فيه، رأي نراه بعيداً عن الصواب، لأن الجمال فكرة نسبية، تتأثر بمؤثرات الزمان والمكان، فتكسوها ألواناً، قد تجعلها في مكان وزمان آخرين من حيث تعلق الناس بها، على غير ما كانت عليه.
إذا صح ذلك، فإن الأدب أو بعض الأدب، ينبغي أن يكون داعياً إلى الفضيلة، إذا كانت البيئة التي يعيش فيها ويتأثر منها آخذة بها أو ساعية لها. وينبغي أن يحمل الراية الحمراء، إذا كانت بيئته تنشد الحرية وتبتغي الحياة. وينبغي أن يردد صدى الهداية، إذا كانت أمته تعاني تيه الضلال.
ومن هنا نعلم جهاد هذه المجلة الأدبي، ويظهر لنا مبلغ حاجتنا إلى أدب القوة، وإلى أدباء يتأثرون بنداء المستقبل على شاطئ خضم الجهاد ونحن في عبابه، فيواسون الفكرة المريضة، ويدفعون العزيمة الواهنة، ويرهفون الحسن الراقد، ويذكرون الأمس الباكي، ويسعون للغد المنتظر، ويهدون إلى الصراط المستقيم، الذي ينتهي حيث تبدأ الإنسانية الهادية المهدية، التي يعلم المرء فيها أنه لم يخلق للعب واللهو والغرور، فلا يسعى إلا لما يكون سعيه له مشكوراً.
رحم الله حجة الأدب الرافعي، فقد كان يمثل الأدب بجهاده خير تمثيل، ويعبر عن واجب الأديب خير تعبير بمثل قوله: (وإن الأدب مكلف تصحيح النفس الإنسانية في الوجود ونفي التزوير عنها وإخلاصها مما يلتبس بها على تتابع الضرورات، ثم تصحيح الفكرة الإنسانية في الوجود، ونفي الوثنية عن هذه الفكرة، والسمو بها إلى فوق، ثم إلى فوق، ودائماً إلى فوق) واسمع إلى جانب ذلك، قول فكتور هوكو وهو يقول: (من الخطأ لا بل من الخيانة أن يخطر ببال الأديب أنه يحق له أن يكون بمعزل عن مصاخ قومه ورغباتهم، وأن يعدل بقريحته عن التأثير في أهل عصره وأبناء زمانه، وأن يتفرد بحياته فلا يكون له عمل في البنيان الاجتماعي).
♦♦♦
وبعد، فإذا كان من أدب غيرنا في كتبهم ومجلاتهم من علية الأدباء لهو ولعب، فلننظر إلى غير هذا وهذا، فإن منه الشيء الكثير وله الأنصار الكثيرون. وإذا أردنا من الأدب اللذة، فإن لذة الإنسان العالية ليست بما ينال من شهواته، ولا بما يدرك من غاياته، ولا بما يطرب من كلامه، ولا بما يسمع به ثناء الناس عليه، بل هي سمو يعلو ذلك كله، يشعر به المخلصون العمل لله.
إننا نبتغي من الأدب الحي نشيداً بعيد عهد الجلال إننا نبتغي من الأدب الحي رجالاً لا أمة كالرجال.
مجلة التمدن الإسلامي، السنة الثالثة، العدد الخامس، 1356هـ - 1937م