سعيد بن محمد آل ثابت
هذا السؤال بيت القصيد لمن رام العمل لهذا الدين، فإن هذا الدين رسالةٌ ربَّانية ينبغي فهمها وفهم مرادها على ما يريد الله، وحتى لا يكن ثمة مفارق وغوائل تشذ بصاحب العمل، وتضع من همته، وإن من أوائل تلك المهمات هو:
أولًا: البناء الذاتي؛ فإن البناء له علاقة مع العطاء، فكلما كان المسلم أشد بناءً كان أكثر عطاء، وله علاقة بمقاومة التحديات وبذل التضحيات، فكلما اشتد البناء وقوي أساسه أصبح المؤمن أكثر قدرة على مواجهة المصاعب ومقاومة التحديات وبذل أكبر قدر من نفسه وماله، ومن المعلوم أن الصالحين يبنون أنفسهم، والمصلحين يبنون الجماعات، ولذا قالوا: (كان الفضيل رجل نفسه، وكان أبو إسحاق رجل عامة)[1]. فبناء عن بناء، بناء للنفس، وبناء للنفس وللأمة. (إن الأمة تحتاج اليوم إلى طاقات فاعلة تسهم في إنقاذها وقيادتها، وتعد المحاضن التربوية للناشئة اليوم من أهم ميادين الإعداد الفعلي لهؤلاء الدعاة. وحين يبدأ الإعداد الفعلي لهؤلاء في مرحلة مبكرة فإن ذلك يمكن من استثمار مرحلة البناء الأساسي لشخصية الفرد واغتنام السنين الذهبية، ثم هو يعطي مدى واسعًا لاكتساب المهارات والخبرات الدعوية، وبناء المفاهيم التي يحتاجها الداعية[2].
وأبرز مجالات البناء الذاتي[3]: البناء العلمي، وإذا أطلقنا العلم قصدنا به العلم الشريعة، لأن العلم يقي شبهات الطريق وغوائله، ويعلم به الإنسان السنن، ويقوى به حيال البذل والمقاومة، قال جل من قائل: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11]، وقال سبحانه: ﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9]، وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله سبحانه وملائكته وأهل سماواته وأرضه حتى النملة في جحرها والحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير". صححه الألباني في صحيح الجامع. قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة...". قال عمر رضي الله عنه: "تفقهوا قبل أن تسودوا"، أي تعلموا قبل أن تباشروا الناس؛ وكذا كان الرعيل الأول أصحاب العلم والعمل، فعن مسروق قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه" رواه البخاري.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه قال: "كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوما وأنزل يوما فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره وإذا نزل فعل مثل ذلك.. الحديث" البخاري. فلم يمنع ابن مسعود صحبته برسول الله من نيل العلم، ولم تمنع ابن عباس قرابته من رسول الله من نيله أيضًا، ويلفت ذهنك لذلك تلك التضحيات التي يجهد الأولون وألو العلم والفضل فيها أنفسهم رجاء بلوغ العلم، (قال الحافظ محمد بن طاهر المقدسي عن رحلته: بُلتُ الدم في طلبي للحديث مرتين: مرة ببغداد، ومرة بمكة، وذلك أني كنت أمشي حافيًا في سفري لطلب العلم وعلى الرمضاء المحرقة، فأثر ذلك في جسدي فبُلتُ دمًا، وما ركبت دابة قط في طلب الحديث إلا مرة واحدة، وكنت دائمًا أجعل كتبي على ظهري في أثناء سفري، حتى استوطنت البلاد...)[4].
ويقارن أبو الحسن رضي الله عنه بين العلم والمال، فقال: العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، المال ينقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق. وحريٌّ بالعلم أن يكون قائدًا إلى الخشية وتعظيم شرع الله ومعرفة حدوده، وقد ذكر الطبري في تفسيره (قال عبد الأعلى التيمي: إن من أوتي من العلم مالم يبكه لخليق ألا يكون أوتي علمًا ينفعه؛ لأن الله نعت العلماء ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ [الإسراء: 107 - 109]).
ومن مجالات البناء الذاتي: البناء الإيماني، قال الحق: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197]، إن الإيمان والعمل الصالح هو الزاد الحقيقي للفاعل والعامل لهذا الدين العظيم، ألم تر أمر الله لرسوله عليه الصلاة والسلام إبان بداية الداعية ﴿ يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [المزمل: 1، 2]؛ لأن صلة العبد بربه هي مظنة التوفيق والسداد والإعانة وهي الماخور الذي يعبر به العبد بحور الشهوات دون أن تصل إليه، فكم ضل عامل لشهوة دنيا عاجلة ظنها مصلحة راجحة، وهكذا كانوا، وانظر رحمني الله وإياك سورة الأنبياء وكيف كان الرسل والأنبياء منذ أن تلهج ألسنتهم بالدعاء فتكن الاستجابة السريعة ليعلل الله جل وعلا ذلك لهم في قوله تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [الأنبياء: 90]، ولما تنظر لمنطوق الآية ستجد أن المسارعة للخيرات والدعاء والخشية هي سبب الاستجابة المباشرة، فنحن أولى لضعفنا وتقصيرنا، إن ولاية الله لعبده لا تكن حتى يكن، وفي الحديث القدسي: "من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه.." الحديث، ولا يعلم أن هناك محتاجًا لولاية الله ونصرته أكثر من الداعية والمصلح إذ تحطمه المحن والآفات وترزأ به المصائب وتعرقله العراقيل، فكيف له أن يترك هذا الحصن، ثم كيف له أن يدعو لله وهو أجهل الناس بالله لا سيما في علاقة العبد بربه وصلته به، قال ابن كثير عن صلاح الدين الأيوبي: (وكان مواظبًا على الصلوات في أوقاتها في الجماعة. يقال: لم تفته الجماعة في صلاة قبل وفاته بدهر طويل، حتى ولا في مرض موته، كان يدخل الإمام فيصلي به، وكان يتجشم القيام مع ضعفه)[5].
ومن مجالات البناء الذاتي وهو الأخير البناء الدعوي، والدعوة في هذه الأمة لا تنفك منها، قال الله: ﴿ يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 1، 2]، وقال سبحانه: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33] البناء الدعوي بناء لثقافة الداعية وأساليبه المناسبة ووسائله القويمة بناء يدعم مشروعه ويرسيه على مرافئ الحياة، وتأمل قول الحق تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ﴾ [إبراهيم: 4]، ومفهوم هذا الآية ظاهر في أن الداعية حين يدرك بيئته ويعلم مدى مناسبة أساليب الدعوة ووسائلها استطاع البيان والتأثير، ومن تلك المهمات أن يعتني بالخبرات والمهارات اللازمة كالحوار، التقنية، الإلقاء، فقه الواقع، فقه السيرة، جهود أهل الباطل، وأيضاَ أصول ومفاهيم العمل الدعوي.. إلخ.
والعلاقة طردية، فمتى ما زاد فقه الداعية وبنائه استطاع البيان والتأثير بأكثر فعالية.
ثانيًا: الإنسان أفكار وسلوك وتطلعات وأمانٍ، ولذا لزم صاحب الهمة التغييرية أن لا يفارق همه وخطراته العمل لهذا الدين والبذل له، فتجتمع أمانيه وهمومه للدعوة والعطاء، وقد اجتمع عبد الله بن عمر وعروة بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبة، فقال لهم مصعب: تمنوا، فقالوا: ابدأ أنت، فقال مصعب بن الزبير: أتمنى ولاية العراق، وتزوج سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله. فنال ذلك، وأصدق كل واحدة خمسمائة ألف درهم، وجهزها بمثلها، وتمنى عروة بن الزبير الفقه - أي: أنه سأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الفقه - وأن يحمل عنه الحديث. فنال ذلك، وتمنى عبد الملك الخلافة فنالها، وتمنى عبد الله بن عمر الجنة رضي الله تعالى عنه وعن أبيه.[6] ونرجو له الجنة، وهنا يظهر أثر ما يعتقد الإنسان ويتمناه على حياته واقعًا وحقًا بإذن الله. فراقب همومك وأمانيك دائمًا فعن مالك بن دينار قال: إن صدور المؤمنين تغلي بأعمال البر، وإن صدور الفجار تغلي بأعمال الفجور، والله تعالى يرى همومكم فانظروا ما همومكم رحمكم الله.[7].
وتيقن دائمًا أن تجعل همومك وأمانيك همًا واحدًا؛ تفز به إن شاء الله، : (إنه من الواجب أن تكون في صدوركم عاطفة تشغلكم في كل حين من أحيانكم بالسعي في سبيل غايتكم وتعمر قلوبكم بالطمأنينة وتكسب لعقولكم الإخلاص والتجرد والحنيفية وتركز عليها جهودكم وأفكاركم بحيث أن شؤونكم الشخصية وقضاياكم العائلية إذا استرعت اهتمامكم فلا تلتفتون إليها إلا مكرهين)[8]. قال ابن الجوزي: (ولله أقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها، فهم يبالغون في كل علم ويجتهدون في كل عمل، يثابرون على كل فضيلة، فإذا ضعفت أبدانهم عن بعض ذلك قامت النيات نائبة وهم لها سابقون).
ثالثًا: القدرة أم الإرادة؟
أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال سوف تبري همة العبد ليكتب بها تاريخ مجد وبذل لهذا الدين. ولو سألنا بعضنا: ماذا لو قدمت مئة ريال لحفظ القرآن في سنة لتعذر الأغلب بعدم قدرته، ولو زدناها لألف ريال لاعتذروا أيضًا، ولكن لو زدناها لعشرة ألف ريال لتحلحل البعض من مكانه حتى إذا قلنا مئة ألف ريال لقام أكثرهم وسعى ودعا، فما رأيكم أن نضع مليون ريال لكل من حفظ القرآن في سنة؟ هل سيبقى معتذر؟ وهل ظروفه التي كانت تحول دون الحفظ سلفًا سيكون لها أثرًا؟ بل سيحفظ ويجد ويطوع كل ظروفه لهذا الهدف! فأين السر يا ترى؟ وهل كان فعلًا لا يقدر؟! لا؛ بل إنها الإرداة وكفى، الإرادة هي التي تجعل العسير يسيرًا بعد إرادة الله، وهي شرارة العمل وهي العزيمة وتأمل قول الحق تعالى: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: 115]، وقارنه مع قوله سبحانه: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35]؛ إنها الإرادات القائمة على دوافع عظيمة، وتختلف هذه الدوافع مثل مليون الحفظ وقد تكون للجاه وقد تكون لغير ذلك، ولكن يا ليت شعري من هو الذي كان دافعه رضى الله وكان دافعه نشر هذا الدين وكان دافعه تعبيد الناس لله وكان دافعه جنات عدن..، ولتجدنّ فيه عزيمة وإرادة تناطح السحاب وتتقازم أمامها دوافع الشهرة والمال، فلنكذب شائعة ضعف القدرة، ولنصدق خبر الإرادة وأنها هي الفتيل الحقيقي، قال ابن الجوزي: قرأت بخطّه (يعني ابن عَقِيْلِ): إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، فإذا تعطّل لساني من مذاكرة ومناظرة، وبصري من مُطَالَعَةٍ، عملت في حال فراشي وأنا مضطجعٌ، فلا أنهض إلا وقد يحصل لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم في عشر الثمانين، أشد مما كنت وأنا ابن عشرين[9].
ثالثًا: اقتناص الفرص واهتبال الغنيمة، وإن صاحب الهم الصادق لا يترك ثمة صيد من تلك إلا كانت نهمته فيها.
إذا هبت رياحك فاغتنمها ♦♦♦ فعقبى كل عاصفة سكون
وهذا حقٌ، فالفرص التي تواتي العبد كثيرة من بيئة خصبة وإعلام هادف وعالم رباني وأديب لقن ومثقف حر وحدث يجمع ذلك كله، فكان اغتنام تلك حتى لا يطلبها فيتعسر منالها فضلًا على استحالة عودتها، فكم هم المتأسفون على عدم الرحلة لمحدث أو التفقه من عالم عاصرهم، أو اغتنام إعلام أتاح الفرصة حينئذ، وهكذا.
رابعًا: الشعور بالتحدي وخلق المنافسة. وانظر للإمام مالك بن أنس فلقد جالس مالك العلماءَ ناشئًا صغيرًا، ولزم فقيهًا من فقهائهم وعالمًا من علمائهم، وكان لهذا قصة تنبئك عن ثمرة الشعور بالتحدي، ذكر الإمام مالك ذلك فقال: كان لي أخ في سن ابن شهاب، فألقى أبي يومًا علينا مسألة، فأصاب أخي وأخطأت، فقال لي أبي: (ألهتك الحمام عن طلب العلم!) - وكان يتلهّى بتربية الحمام في مطلع حياته - فغضبت، وانقطعت إلى ابن هرمز سبع سنين (وفي رواية: ثماني سنين) لم أخلطه بغيره، وكنت أجعل في كمي تمرًا، وأناوله صبيانًا وأقول لهم: (إن سألكم أحد عن الشيخ فقولوا مشغول). وقال ابن هرمز يومًا لجاريته: (من بالباب؟)، فلم تر إلى مالكًا، فرجعت فقالت: (ما ثم إلا ذاك الأشقر)، فقال: (ادعيه فذلك عالم الناس)، وكان مالك قد اتخذ تيانًا محشوًا للجلوس على باب ابن هرمز يتقي به برد حجر هناك.[10] وكان يقول: وكنت آتي ابن هرمز بكرة فما أخرج من بيته حتى الليل [11].
ومن تكن العلياء همة نفسه ♦♦♦ فكل الذي يلقاه فيها محبب
خامسًا: الفاعلية بُعد نفسي لابد فيه من دوافع عليا تعين على المواصلة والصبر والتحمل. و(الصحة النفسية شرط أساسي لولادة الإيجابية، فلا يمكن أن يكون المرء إيجابيًا، وهو يشعر بنوع من (القرف الوجودي) أو الحسد أو الغيرة أو الخمول النفسي أو الحقد على الناس..)[12]. وأعظم الدوافع استحضار معية لله ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ﴾ [التوبة: 105] واليقين ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ﴾ [محمد: 7] وحب الخير للناس (اللهم اغفر لقومي).
سادسًا: أهمية التنشئة على الفاعلية والتربية عليها من الأسرة والمؤسسات كافة. (وأهم شيء تكوين رجل العقيدة، ذلك الإنسان الذي تصبح الفكرة همه، تقيمه وتقعده ويحلم بها في منامه وينطلق في سبيلها في يقظته، وليس لدينا بكل أسف من هذا النوع القوي والعبقري، ولكن لدينا نفوسًا متألمة متحمسة مستعدة بعض الاستعداد، ولا بد للنجاح من أن يقلب هؤلاء إلى مثل قوية تعي أمرها، وتكمل نقصها؛ ليتم تحفزها الذي ينطلق من عدم الرضا بالواقع والشعور بالأخطاء التي تتعاقب، وينتهي باستجابة لأمر الله ونداءات الكتاب الحكيم ومراقبة وعد الله ووعيده، والتأسي بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم..)[13].
سابعًا: وازن بين أمور ثلاثة: من أنت (هدفك)، اتجاهك (قدرتك على العطاء)، الحاجة (البيئة الزمانية والمكانية). وإذا نظرنا لهذا المثلث المهم باتزان كان معينًا بعد الله على اختيار العمل المناسب، فيكون صاحبنا هدفه أن يكون فقيهًا، وقدرته في العطاء عن طريق الدروس العلمية للمبتدئين ويرى الحاجة في النائي من شرق أو غرب أي بلد، وهنا تتحقق له بغيته ويتسع عمله ويقوى جده، بخلاف من أخلّ بأحد هذه الموازين، وربما تكون الحاجة أسمى أحيانًا لواجب الوقت، ولنأخذ أنموذجًا معاصرًا في أستاذ عصره في الدعوة والبذل والعطاء والطموح نسأل الله أن يتقبله وهو عبد الرحمن السميط رحمه الله[14]، ولا أظن مسلمًا صادقًا عاصر زمانه وجهله، وتجد أن الرجل كان هدفه دعوة غير المسلمين وقدرته في العطاء عبر الرحلات الميدانية والمحاورات المجتمعية وبناء الأوقاف والمدارس والمعاهد والجامعات واختار القارة السوداء (أفريقيا) ميدانًا له رغم الصعوبات في المعيشة والتنقل وتنوع المظاهر المجتمعية والعادات والأعراف واختلاف اللغة، ولكن لأن الحاجة كانت هناك بارزة فقدمها وبذل نفسه وماله وأهله في ذلك حتى لقد كان سببًا في إسلام ما يربو على 11 مليون مسلم، وكان دؤوبًا مجتهدًا حريصًا باذلًا حتى ما يدخر من ماله لشراء حاجياته الخاصة، فقد كان له مال زهيد أراد به سيارة تقله وأسرته فلما عزم على ذلك تذكر حاجة أطفال أفريقيا في علاج لهم تعسر ماله فقدمهم على نفسه وأهله، هذا هو تنفس البذل والعطاء حتى أصبح مورد حياة لصاحبه لا يهنأ له عيش دونه، والسؤال هل يعلم رحمه الله أن ذلك العدد المليوني كان سيحصل، لا أظن؛ ولكنه توفيق الله تعالى ثم موازنة هدف الإنسان واتجاهه مع البيئة المحتاجة ستكون كلها كفيلة بإذن الله بعمل مثمر لا يقف.
وهذا يأخذنا لأمر هام وهو أهمية الرجل المناسب في المكان المناسب، ولذا فإن توظيف الطاقات في أماكنها المناسبة ووفق الحاجة القائمة، سيجوّد الأثر، ويدفع الأزمات، ويختصر المسافات، وهو منهج نبوي نلحظه في توظيف النبي للطاقات وتغيير البيئات حسب الحاجة البيئية والقدرة البشرية: فبلال مؤذن، ومصعب سفير المدينة، ومعاذ عالم اليمن، وخالد لقيادة الجيش، والإمامة لعمرو بن سلمة على قومه، والإمارة لخباب بن أُسيد بمكة، وكتابة الوحي لزيد وكعب، والأدوار الصعبة لعلي وحذيفة، وخدمته من قبل أنس بن مالك وابن عباس وربيعة بن كعب، ويقاس في ذلك العلماء على الرسل.
ثامنًا: التدرج والتوازن في العطاء فلا يكن اندفاعًا ولا تحت ضغظ حالة معينة؛ ف(اندفاعٌ) بلا تدافع، و(فعلٌ) مبتدأ خير من ردة فعل..
من لي بمثل سيرك المدلل ♦♦♦ تمشي الهوينى وتجيء الأول
الشعور بالهم ورؤية الحاجة الملحة لا يلزم منها الاستعجال وقفز الدرجات والفردية أيضًا.
وهنا ملحظ أيضاَ في ضرورة الاستقرار النفسي والبعد عن الضغوط الداخلية إذ (العمل الذي يتم إنجازه تحت الضغط والإكراه لا يبلغ أبدًا ذروته، والبذل فيه ما يكفي فقط لاستمرار العمل، بالإضافة أنه يرفع من درجة التوتر النفسي، ويولد الحقد والكراهية، والإحجام عن العطاء وتحطيم المعنويات وكسر شوكة النفس. والطريق الآخر لرفع الكفاءة هو العكس تمامًا حيث القدوة الحسنة واستخدام الجذب وتوسيع مساحة الراحة النفسية، وحث الآخرين على رسم أهدافه بأنفسهم)[15].
تاسعًا: تمثل وكأنك في جبهة القتال، (كأنك هناك)[16]:
1- النيل من العدو.
2- العمل الدائم.
3- صلاح أعمال القلوب.
4- التدرب المستمر.
عاشرًا: من لاح له الأجر هانت عليه التكاليف. وقد ذكرنا بعضًا من أسباب العمل لدين الله وثمرات ذلك أيضًا فمن أدرك الفضائل وعلم المغنم بذل وقدم وكان حاله كحال النضر (إني أجد ريح الجنة دون أحد)، روى البخاري عن أنس رضي الله عنه، قال: "غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئنِ اللهُ أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر، إنِّي أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربةً بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس كنا نرى، أو نظن أنَّ هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ﴾ إلى آخر الآية".
الحادي عشر: إذا أردت أن تكون إمامي فكن أمامي. نعم من رام الإمام تقدم وكان قدوة فيما يقول وقد قالوا: عمل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل. قال الأوزاعي: "كنا قبل اليوم نضحك ونلعب، أما إذا صرنا أئمة يقتدى بنا، فلا يرى أنه يسعنا ذلك، وينبغي أن نتحفظ". وكان عبد الواحد بن زياد يقول: "ما بلغ الحسن البصري إلى ما بلغ إلا لكونه إذا أمر الناس بشيء يكون أسبقهم إليه".
يا أيها الرجل المعلم غيره
هلا لنفسك كان ذا التعليمُ
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيمُ
قال ابن مسعود رضي الله عنه واصفًا قارئ القرآن الرباني: ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون.
والناظر لرسول الله صلى الله عليه وسلم يجد كيف كان أثره ومنهجه الخفي قائم في أصحابه، فقد عرفوا مشيه وهديه وجلوسه وخلقه كل ذلك من هديه لا أوامره، وهكذا العامل المصلح يكون إمامًا فيما يدعو، قدوة فيما يعتقد فيحذو الناس حذو ويسيروا مساره، فكثير من الأعمال تنكبوا عنها ظنًا باستحالتها حتى يروا الصادقين يثوبون إليها فيتنافسون معهم لها.
الثاني عشر: اختيار رفيقة الدرب المعينة. فقد كانت خديجة رضي الله عنها نعم الزوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرت له كل سبل الدفء المعنوي والأمن المعيشي والاستقرار العاطفي، فبداية من نشأة الدعوة حيث صدح لها "زملوني زملوني"، حتى ماتت رضي الله عنها ولم يتزوج عليها في حياتها إكرامًا لذلكم الكيان الآمن الوفي، كانت نعم المؤازرة ونعم الداعمة ونعم المربية، حتى حادثة الحصار وهي في الستين من عمرها لم تسمح لنفسها بالراحة وترك الرسول محاصرًا هناك، بل شاركته الهم وخدمته وقدمت له ما يريد، حتى قال لعائشة "والله ما أبدلني الله بخير منها"، نعم الخيرية هنا ليست في الحب وفقط بل في المؤازرة والإعانة والتثبيت والمودة، ولقد أتاها رسول الله (جبريل) يبلغها سلام الله وسلامه لها ويبشرها ببيت في الجنة من قصب لا نصب فيه ولا صخب جزاءً وفاقًا لما قدمته لهذه الدعوة، ولم تذهب ذكراها في كل حين من رسول الله لهذا النبل والصمود، وقد أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام بكمال عدد من النساء منهن مريم بنت عمران وآسيا امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد رضي الله عن الجميع، ولعل من الحكم في ذلك أنهن آووا أنبياء وقاموا خير قيام عليهم فمريم آوت ابنها عيسى عليه السلام وآسيا آوت موسى عليه السلام بمالها وجاهها، وخديجة رضي الله عنها قامت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وواسته بمالها، (إن المرأة تلعب في حياة الداعية بل وفي حياة الناس أجمعين دورًا بالغ الأثر فهي إما أن تكون مصدر نعمة أو مبعث نقمة وفي حياة الدعوة صور عديدة لكلا الحالتين فمن الدعاة من حسن بعد الزواج إسلامهم واستقام خطوهم وكثر إنتاجهم ومنهم من تردت بعد الزواج حياتهم فساء إسلامهم وفسدت أخلاقهم ثم أنطوى ذكرهم عن مسرح الدعوة ووجودها )[17].
الثالث عشر: محاسبة النفس دائماً على أبرز مؤشرات الفاعلين، وبحث سبل الوصول إليها وكمالها، ومن أبرز تلك المؤشرات (مظاهر الفاعلين):
1- الشعور بالعزة بهذا الدين.
2- الحركة الدائمة.
3- استغلال السنن الإلهية.
4- البدء بالنفس.
5- لا احتقار لذرة خير وبذلها.
6- الفرح بإنجاز أي مسلم[18].
7- التجرد من المنافع الدنيوية. وفي ذلك قال الحق: "اتبعوا من لا يسألكم أجرًا وهم مهتدون".
8- الحرص على الوفاق والتعاون.
[1] "سير أعلام النبلاء" (8/ 477).
[2] "تربية الشباب الأهداف والوسائل"؛ (ص:112).
[3] "البناء الذاتي وأثره في نهضة الأمة"؛ لعبد العزيز الحسيني.
[4] "تذكرة الحفاظ"، (2/ 567).
[5] "البداية والنهاية" (13/ 5).
[6] "علو الهمة"، لمحمد إسماعيل المقدم؛ وذكره ابن أبي الدنيا في كتاب مجابي الدعاء بقريب من ذلك.
[7] "الزهد للإمام أحمد"،(ص:451).
[8] "العاطفة الإيمانية" لمحمد موسى الشريف، ص17.
[9] "لسان الميزان"، (4/ 279)، "ذيل طبقات الحنابلة"؛ لأبن رجب، (3/ 121).
[10] "ترتيب المدارك"؛ للقاضي عياض، (1/ 131).
[11] انظر أيضاً:" الديباج المذهب"؛ لابن فرحون، ( 1/ 98-99).
[12] "مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي"؛ لعبد الكريم بكار (ص:257).
[13] "في سبيل الدعوة الإسلامية"؛ لمحمد أمين المصري، (ص:39).
[14] عبد الرحمن بن حمود السميط، داعية كويتي مكث 29 سنة في القارة السوداء (1366-1434هـ).
[15] "مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي"؛ لعبد الكريم بكار (ص:256)، بتصرف.
[16] "جند المعالي" لخليل صقر، ص: (80-84).
[17] "مشكلات الدعوة والداعية"؛ لفتحي يكن، (ص:49).
[18] "جند المعالي"؛ لخليل صقر، (ص:63).