الفتوى الفضائية
لا شكَّ أنَّ القنواتِ الفضائيةَ الدِّينيَّة مِن نِعم الله تعالى على المسلمين في الآونة الأخيرة؛ فإنه لا يُنكِر الأثرَ الذي أحدثتْه في المجتمع المسلم إلا جاحدٌ، أو مفْرطٌ في الجهل؛ فإنَّ كثيرًا من الشباب والرجال والنساء قد سخَّر اللهُ تعالى لهم الهداية على أيدي هذه القنوات، ورجالِها الذين نحسبهم مِن المخلصين، والله تعالى حسيبُهم، ولا نزكِّيهم على الله.
فلهذه القنواتِ الكثيرُ مِن المميِّزات التي ترفع مِن أسهُم أهمِّيَّتها في هذه الآونة العصيبة، التي تكثُر فيها الفتنُ الداخلية والخارجية، الدِّينيَّة والثقافية، الفردية والجماعية.
ويكفي أن هذه القنوات صَنعَت نوعًا مِن المواجهة الإعلامية في المعارك المستمرَّة بين حزب الكفر وحزب الإيمان، وأصبَحَت منفسًا لكثيرٍ مِن الدُّعاة والعلماء الذين عَانَوُا المضايَقات والابتلاءات حتى هيَّأ اللهُ سبحانه لهم هذا المنفذ الفضائيَّ العالميَّ الذي يتخطَّى كلَّ الحدود بأمْر الله تعالى، ويَصِل إلى ملايين المسلمين الذين يَتعطَّشون لِفهْم هذه الملَّة الحنيفيَّة السَّمحة، ولِفهْم العقيدة والتوحيد والأحكام التشريعية لكثيرٍ مِن أمور حياتهم.
ولكنَّ شأنَ هذه القنوات الدعوية شأنُ كلِّ عمَل في بدايته يَعْتَريه كثيرٌ مِن الأمور الخاصَّة الداخلية؛ كالتنظيم، أو الموادِّ المعروضة، أو نوعية المقدِّم أو المحاضِر، ومراعاتها لظروف البلاد المختلفة، بالإضافة إلى الأمور الخارجية التي لا تكون غالبًا في استطاعة القائمين على القناة والدعاة والعلماء، ولا شكَّ بإذن الله تعالى أن هذه الأمور يمكن أن تُتَدارك مع الوقت، ويحدُث نوع مِن التعديل الذي يكُون سببًا في ازدياد الثمرة، وبرَكة الحصيلة.
ومن الأمور التي يجب مراجعةُ النظر في شأنها - من وجهة نظري - أمرُ الفتوى الفضائية؛ أي الفتوى التي تصدُر عبْر القنوات الفضائية؛ سواء كانت على الهواء أو مُعدَّة سابقًا.
وهذه القضية واحدة مِن القضايا التي يجب أن يَعتَني بها العلماءُ؛ لِمَا لها مِن عظيم القدْر والتأثير البالغ؛ فهي نوعٌ مِن التوقيع عن الله سبحانه، ونقْل حُكْمِه إلى الناس، وإلزامهم به، وكذلك يترتَّب عليه إما التلبُّسُ بالحلال، أو ترْك المحرَّم، والخطأ في واحد مِن الاثنين يؤدِّي لقلب الشرع والتضييق على الناس، أو التساهُل المخلِّ بالمقاصد الشرعية.
وليُعلم أن قضية الفتوى الفضائية يدُور حولها كثيرٌ مِن النقاط؛ مِن حيث كفاءة المفتي مِن ناحية، ومِن حيث اعتبار السائل وبيئته وثقافته وظروف بلَدِه والعادات والتقاليد والأعراف، ومن حيث أن ما يُناسب أحدَ المسْتَفْتِين قد لا يُناسب الآخر مما يَدخُله الاجتهادُ مِن المسائل الفقهية، لا ما كان معلومًا مِن الدِّين بالضرورة من الاعتقادات والأصول العامَّة.
ولعل الله تعالى أن يُيَسِّر بحثَ هذه المسائل كل على حدة، ولكن في هذا المقال أَبذُل النصيحة لرجال الدَّعوة والمسؤولين عن الإعلام الإسلامي الفضائي على إثر أمْر واقعٍ بين المسلمين، التمستُه مِن خلال الكلام مع بعضهم مما يؤدِّي إلى مؤشِّرات خطيرة في نظري، ولها آثار سلبيَّة على عقيدة المسلم وإيمانه بفقه الإسلام وأمْر الفتوى.
إن ذلك الأمر الذي استشعرتُه، وصرَّح به كثيرٌ من المسلمين هو: اختلاف الفتوى في المسألة الواحدة ما بين مبيح ومانع، مع أن المسألة هي هي، وهذا أَحدَثَ نوعًا مِن التشتُّت عند المسلمين بسبب أنه كيف يقال في المسألة الواحدة بالحِلِّ والحُرْمة؟ وكيف يُفتي أحدُ العلماء بالجواز ويُفتي الآخر بالمنع مع اتحاد الواقعة، بل واتحاد الشخص أحيانًا؟
وهذا له مِن الآثار السلبية ما لا يَعلمه إلا الله تعالى؛ خصوصًا في تلك الآونة التي يَنتَشر فيها الجهلُ بالأصول الدِّينيَّة، فضلًا عن فهم قضايا الخلاف والاجتهاد وسعة الأفق الفقهية، وتعدُّد الأقوال بحسب الدليل والنظر في الدلالة المستفادة، إلى غير ذلك مِن الأمور التي يُدركُها العلماء الراسخون، والتي يُعاني فهمَها المنتسبون إلى العِلم ممن يريدون أن يحملوا الناسَ على فهمٍ وقولٍ واحد، ويخطِّئون ويبدِّعون غيرهم، فما بالك بالجهال مِن عوامِّ المسلمين؟!!
إنَّ اختلاف الفتوى على هذا الوضع من الأسباب التي تُفْقد العوامَّ الثقة بالعلماء، وتُفْقدهم الثقة بالشريعة، وتتسبَّب في أن يَستغلَّ أعداءُ الدِّين هذه المسألة التي لا يَفْقَهُها الكثيرُ في أن يسمُّوا الفتوى بالهوائية؛ التي تخضع للرغبات الشخصية، أو وجهات النظر، لا إلى الدليل الشرعي، وكذلك يَستغلُّون هذا الخلاف المُعلَن في بثِّ نوع مِن الشبهات نحو عدم ثبوت الشريعة واستقرارها على مبدأ معيَّن، إلى آخر تلك القائمة الخبيثة من المفاسد التي تترتَّب على هذا الأمر الذي يحتاج إلى العلاج السريع؛ لتدارُك خطورة هذه المسألة، والتي أرى أنه لا يجوز لأحدٍ أن يتذرَّع بأنه يُفتي بما أدَّاه إليه اجتهادُه، وأنه لا يستطيع أن يخالف ما وصل إليه مِن العِلم والفهم ونحو هذه الدعاوى.
ولكي نتدارك هذه المسألة أرى أنَّ مِن الخطوات التي يجب اتباعُها ما يلي:
1- توحيد الأحكام التي يُفتى بها الناس درءًا لهذه المفسدة التي تنتُج عن تعدُّد الفتوى في المسألة الواحدة، وعمَل لَجْنَة مِن العلماء المتمكِّنين مِن الفقه الإسلامي وأدلَّتِه ومقاصِدِ الشريعة بحيث لا يتولَّى الإفتاءَ إلا أعضاؤها، ويكُون الإفتاء على وَفق أحد المذاهب المعتبَرة المحفوظة، لا تعصُّبًا لأحد المذاهب، ولكن لضبط الفوضى في الفتوى، وآثار ذلك على عقائد الناس وموقفهم من الشريعة.
2- العمل على تثقيف الناس دينّيًا وتهيئتهم لقبول التعدُّد في الفتوى، المبنيِّ على الاجتهاد، بنشر العِلم بهذه المسائل، وأنَّ هذا مِن سَعة الشريعة ورحمتها وشموليتها، لا مِن التضارُب والاختلاف.
3- منْع الفتاوى التي تكُون على الهواء مباشرة، واستبدال ذلك بالرسائل أو البريد الإلكتروني لتدارُك اختلاف البيئات والثقافات، واعتبار الفروق التي قد تختلف الفتوى بسببها مِن فرد إلى آخر في ظلِّ سَعة الشريعة وأدلَّتها وشموليَّتها، فكثير مِن الناس يَستعمِل قولًا له ظروف خاصَّة في غير محلِّه، أو فتوى تتناسب مع بعض الأفراد في غير الموضع المناسب، وهذا مِن الأهمِّيَّة بمكانٍ السعيُ للقضاء عليه.
ولعل هذه الإشارة تُغني عن كثير العِبارة في بيان المقصود، وإثارة الفكرة حول بذْل الجهود في لَمِّ الشتات، ورأب التصدُّعات التي قد تؤدِّي لانسلاخ البعض عن الثقة في دِينِه على إثر سوء فهم، وعدم وضوح البيان، والله المستعان وعليه التُّكْلان، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد.
______________________________ _____________________
الكاتب: مصطفى مهدي