ثلاثون نصيحة لقارئ مبتدئ
ربيع بن المدني السملالي
سألتَني أخي القارئ المبتدئ الحبيب، أن أمحضَك النصح، وأخلص لك في التوجيه، وأدلَّك على الطريق الأقوم، لخوض غمار القراءة، والسباحة في بحارها الزاخرة، وقلتَ بلسان الحال كما قال الشاعر:
تكاثرتِ الظباءُ على خِرَاشٍ ♦♦♦ فما يدري خِراشٌ ما يَصِيدُ
وهأنذا أستجيب لسؤالك الذي سرَّني، وجعلني أنشط لكتابةِ ثلاثين نصيحةً، مُستفادة من تجربة عشرينَ سنةً، عشتها بين أحضان الكتب ليلًا ونهارًا، وقد جعلتُ هذه النصائح على شكل تغريدات ليسهلَ عليك تناولها، كما لو كنت تتناول شيئًا من المقبلات، تمهيدًا لغذائك الفكري والروحي (القراءة).
• (وإني لأقرأ الكتابَ فأجد آثاره في قلمي وتفكيري، ومعاملتي للناس، فانظروا عمَّن تأخذون أخلاقكم وطُرُق تفكيركم يرحمكم الله)؛ من كتابي زاد الأديب، ص 5.
• أخي القارئ المبتدئ، لستَ مُلزمًا بقراءةِ كل كتابٍ مِن ألفِهِ إلى يائه، فهناكَ كتبٌ كبعض المجلات، قد لا تجد فيها إلا مقالة جيدة أو مقالتين وسط كل ذلك الركام.
• القراءة المستمرة والصبر عليها تحتاج منك إلى عُلو هِمة وعزيمة قوية، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالاستعانة بالله، ثم بقراءة تراجم العلماء والأدباء وغيرهم، ولأختصرَ الطريقَ أقول: عليكَ بهذه الكتب، ففيها ما يُشعِلُ فتيلَ الحماس في داخلك: (صفحات من صبر العلماء)؛ لأبي غُدَّة، و(مذكرات قارئ)؛ للأحمري، و(المشوق إلى القراءة وطلب العلم)؛ لعلي العمران، وإن زدتَ عليهم (علو الهمة)؛ لإسماعيل المُقدم، فلا بأس.
• كثرة اقتنائك للكتب قد لا تزيدك إلا حيرة وضلالًا، فاشترِ منها بمقدارٍ، واقرأ ما يوجد في خزانتك أولًا.
وكما قلت في تغريدة سابقة: قراءةُ عشرين كتابًا قراءةً جيدة مفهومة، أفضلُ بكثيرٍ من اقتناء مائة كتاب لا تعرفُ عن مضمونها إلا ما تعرفه والدتي عن الإمام فخر الدين الرازي.
• اختَرْ مكانًا هادئًا ومناسبًا للقراءة، وحاول أن تكون صافِيَ الذهن، منشرحَ الصدر، مطمئنَّ القلب؛ لتستطيع التركيز مع مقروئك، واستيعابه استيعابًا جيدًا، وتذكَّر دائمًا أن القراءة بغير حبٍّ واهتمام لا قيمة لها، ولا ثمرة مرجوَّة منها.
• اجعَلْ مِن مكتبتك بستانًا، حديقةً، جنةً فيها الأشجار والأزهار وسعادة العصافير، وإياك وشجر الصبَّار، وطحالب الوديان الراكدة، ولا تترك نفسَك تذهَب حسراتٍ على كتاب نسيتَ تفاصيله مع مرور الأيام، وأنت تستطيع الابتسام راضيًا عنه كلما تذكرت المتعة التي كنتَ تقضيها في صحبته، وإذا استطعت أن تتخذ لك منافسًا في قراءة الكتب فافعَلْ؛ فإن لذلك أبلغ الأثر على محصولك الثقافي، سيما إذا كان هذا المنافسُ عاشقًا للكتب.
• لا تكثِرِ التنقلَ بين الكتب؛ فتفقد السيطرة على عقلك وتفكيرك، اقرأ في الفن الذي تميل إليه نفسك حتى تتقنَه وتستوعبه جيدًا، وتصبح فاهمًا لجميع جزئياته، أما إن فعلت العكس، فستكون - كما قال شيخُ الأدباء علي الطنطاوي - كطباخٍ يتذوق من كل طبق لونًا من ألوان الأطعمة، لكنه لا يسمن ولا يغني من جوع! أو كلام هذا معناه.
• اختر من الكتب ما يُعبر عن احتياجاتك النفسية، وما تميلُ إليه نفسك، وما يُناسب مستواك وتخصصك وقناعاتك، (واحذر كتب الإلحاد والزندقة)، وإياك والكتب التي لا عَلاقة لها باهتماماتك؛ فقد تُصابُ بسببها بخيبةِ أمل كبيرة، فتفقد شهية القراءة إلى الأبد.
• أخي القارئ المبتدئ، حاول أن تقرأ ساعةً واحدة في اليوم (في كتاب)، لا تتنازل عنها أبدًا، مهما تكاثرت أشغالك ومسؤولياتك، ولا يكون ذلك إلا بالتخلص في تلك الساعة من هاتفك الذكي الذي تظل له عاكفًا ليلك ونهارك، تستهويك الأخبار، وتفتنك الشائعات، والمتابعات في عالم (سوشيال ميديا)، نعوذ بالله من الإسراف في خوض غمارها.
• إذا كنتَ من الذين يسرعُ إليهم المللُ كلما فتحوا كتابًا، فإنكَ لستَ محبًّا، ولن تخرجَ من قراءتك بطائل مهما حاولتَ، ممارسة الأشياء عمومًا لن تعطيَ الثمرات المرجوَّة ما لم يكن الحُب الدافعَ الرئيسَ لها.
• إذا أورثَتْك القراءةُ كثرةَ التأمل والأسئلة عن الكون والحياة والإنسان، فقد أصبحتَ مُفكرًا! لكن حذارِ أن ترضى بالأجوبة الجاهزة والمستهلَكة، فتكون من الهَمَج الرَّعاع المُتبعين لكل ناعق، والزم كتابَ ربك؛ ففيه شفاؤك.
• لا تجعل الملل الذي يتسرب إليك، والضجرَ الذي يسرع إليك حين تأخذ كتابًا للقراءة - سببًا في الإعراض عن التعلم؛ فهناك وسائلُ أخرى من غير الكتاب الورقي تستطيع من خلالها أن تتعلمَ وتتأدبَ في غير ضجر ولا ملل.
• وإن لمكتبتك عليك حقًّا، فلا تترك الأرَضَة تستبد بها دونك، وانفضْ عنك غبار الكسل والخمول أولًا؛ لتستطيع نفض غبار رفوفها ومجلداتها، واقرأ ما لذَّ لك منها من كتب، مثنى وثلاث ورباع، وإياك أن ترضى من الغَنيمة بالإياب.
• ثلاث ساعات متتالية من القراءة في سكون الليلِ أفضل بكثير من قراءة عشر ساعات في ضجيج النهار، وكلٌّ مُيسر لما خُلِقَ له.
• الكتابُ إن لم يكن ذا مضمونٍ يرتقي ويسمو بك إلى مكارم الأخلاق، وتصحيح الاعتقاد، فهو شرٌّ عليك، والجهل خيرٌ لك من العلم في هذه الحال.
• إذا كانت القراءة غذاءً للروح، ونورًا للبصيرة، فيجب عليك أن تختار من الكتب أنفسَها وأوثقَها معلومة، وألا تجعل من مكتبتك مرتعًا للذئاب والثعالب والكلاب النابحة.
• نجيب محفوظ كان سبب اهتمامِه بالقراءة وشغفه الكبير بها رواية بوليسية تافهة، استعارها مِن صديق، وهو في السنة الثانية أو الثالثة، فلا تحتقر القراءة ولا تحتقر نفسك؛ فقد يكون مستقبلك موقوفًا على كتاب يُباع بثمن بخسٍ في سوق الكتب المستعملة وأنت لا تدري.
• إذا شئتَ أن تُقبلَ على قراءة كتابٍ ما بنفسٍ نشيطة، فاقرأ ما كتب عنه النقاد والكُتَّاب والمعجَبون على صفحات الشبكة العنكبوتية، ولا تُسلِّم بكل ما يقولون؛ فعين الحب عمياء، وعين البُغْض كذلك.
• لا تتركِ الكتابَ الورقي والإلكتروني يحولُ بينك وبين تأمل كتاب الكون المفتوح؛ فمَن لم يُحسِنْ قراءة هذا الكتاب الفسيح، فلن يحسن قراءة الكتب الأخرى.
• إذا كانت زوجك تضيقُ ذرعًا بشراءِ الكتب، وتقول: هذا يوم أسود، كلما رأَتْك حاملًا كتابًا جديدًا، فحاوِلْ أن تأخذ لها معك هديَّة رمزيةً مع كل كتاب تشتريه، فمع الأيام ستُصبح شغوفة برؤية الكتب، منتظرةً جديدَك، وقد تستنكرُ عليك عزوفك عن الشراء والاقتناء إذا تأخرتَ في ذلك.
• لو لم يكن في قراءة الكتب إلا تلك المتعة التي تتملكك حين انتهائك من الكتاب، لكفاها، فتلك العِزة القَعْساء التي لا تُرام وربِّ الكعبة.
• وإن لكتبك عليك حقًّا، فاقرأها كما ينبغي أن تكون القراءة، متأملًا متدبرًا، ومستخرجًا من بين دِفافها ما لذَّ وطاب من فوائد؛ لتهديها لإخوانك القراء المتعطشين إلى المعرفة.
• لن تستحق اسمَ قارئٍ حتى تُنفقَ في سبيل عقلك وذِهنك ما تُنفِقه في سبيل بطنك وشهواتك وحاجياتك المادية اليومية، وحتى تكون مكتبتُك كثلاجتك أو خِزانة ملابسك.
• نحن لا نقتني الكتبَ لنتزيَّن بها، ولا لنفخر بها على غيرنا، بل نقتنيها لنرفع عن أنفسنا هذا الوصف: ﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72].
• قبلَ أن تنطلقَ إلى معرض الكتاب الدولي حدِّدْ أهدافَك في بيتك، واجعَلْ نصبَ عَيْنَيك الكتبَ التي أنت في حاجة إليها (حسبَ الاستطاعة)، ولا تكن كحاطبِ ليلٍ، يجمعُ في جِرَابِه البُرَّ والخُشار، وإياك أن تكونَ من الذين ينبهرون بأضواء المكان وزخارفه، وأسماء المؤلَّفات والتصانيف، وجمالية الأغلفة وألوانها الزاهية التي تسحَرُ أعينَ الناس الغافلين، فإن كنتَ جاهلًا، فاسأل عن الكتابِ خبيرًا!
• الروائي المغربي حسن أوريد ذكر في روايته (الموريسكي) كلمةً أعجبتني وأطربتني: ألوذُ بالكتبِ؛ لأنني لا أملك خيارًا آخر.
فلُذْ أيها القارئ الكريم بالكتب، وعِشْ حياتك بين دفافها، فوالله لن تجد صدرًا أرحبَ منها إذا أحسنتَ الاختيار.
• لا قيمة للحياة وأنت خالٍ من كتابٍ تدفنُ فيه وجهَك كلما وجدتَ الفرصة سانحة، والأماكنَ خالية من ضجيج السفهاء والكائنات البشرية المُزعجة! وحين يكون الدماغُ مرتاحًا، والصدرُ منشرحًا، بحيث تستطيعُ التركيز مع كل جملة تَلتهمها بعينيكَ، فاقرأ، ثم اقرأ، ثم اقرأ؛ فإن زماننا هذا لا قيمة له بدون قراءة.
• كثير منا مُولَعٌ بسردِ أخبار السلف من العلماء وغيرهم، لكن القليل مَن يحدِّثُ نفسه بالاقتداء بهم، فعلى سبيل المثال هناك أناس ينقلون عن ابن الجوزي من كتابه (صيد الخاطر) أنه قرأ عشرينَ ألف مجلد، في حين تجدهم لم يختموا مجلدًا واحدًا طولَ حياتهم!
• كُتُب الأديب الأريب المنفلوطي، وكُتُب العلامة بكر أبو زيد، وبعض كتب الرافعي - كوَحْي القلم، وتحت راية القرآن - ومحاضرات الخطيب المفوَّه علي القرني - من أكبر الأسباب التي فجَّرتْ في داخلي حب القراءة والكتابة، والعيش في أحضان الأدب واللغة.
أما العملاقُ عباس محمود العقاد، فقد حرَّضَتْني كتبُه على التفكير، وعلمتني ألا أرضى من الغَنيمة بالإياب، فاستمسِكْ بغرزهم، تُفلِحْ بإذن الله.
• لو لم تمتلك من الكتب إلا كتاب الله، وتفسير السعدي، وصيد الخاطر، ورياض الصالحين، وكتب الأديب علي الطنطاوي كلها، لكفاكَ فخرًا وشرفًا، واعتزازًا واكتفاءً!
• ليكن شعارُك - كما قلتُ مرة - سأصبرُ صبرًا أيوبيًّا على مطالعة الكتب المطوَّلة، حتى يعلمَ ابنُ الجوزي - (الذي أخبر عن نفسه أنه قرأ عشرين ألف كتابٍ) - أنه خلَّف رجالًا يحاولون اللحاقَ به، أو الموت دون ذلك.