ماذا بقي فينا من قيم الهجرة النبوية الشريفة؟








ماجد الدرويش









جاءت الهجرة النبوية الشريفة في العام الثالث عشر للبعثة إلى المدينة المنورة (يثرب) لتكون إعلانا لنمط حياة جديد عنوانه ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾، مكان نمط القبلية والتفاخر بالآباء الذي كان يصبغ حياة العرب قبل البعثة النبوية، والذي أعلن الإسلام انتهاءه في حجة الوداع، يوم وقف النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا في الناس، فكان مما قاله: (أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم، واحد كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله اتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى).

هذا الخطاب جاء تأويلا لقول الله تعالى في آيات الحج: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ﴾، أي: بل أشد ذكرا، وقد روى سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «أن العرب كانوا عند الفراغ من حجتهم بعد أيام التشريق يقفون بين مسجد منى وبين الجبل، ويذكر كل واحد منهم فضائل آبائه في السماحة والحماسة وصلة الرحم، ويتناشدون فيها الأشعار، ويتكلمون بالمنثور من الكلام، ويريد كل واحد منهم من ذلك الفعل حصول الشهرة والترفع بمآثر سلفه»، فجاء الإسلام ليذهب حضارة (الجاهلية)، ويقيم مكانها حضارة (التعارف)، والتي عنوانها (خير الناس أنفعهم للناس).

ومعلوم أن الهجرة النبوية الشريفة كانت في أواخر صفر، حيث خرج من مكة مع الصديق في السابع والعشرين من صفر، ووصلا المدينة المنورة في الثامن من ربيع الأول، وقيل في الثاني عشر منه، إلا أن الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم ارتضوا مشورة أمير المؤمنين عمر أن تكون بداية التأريخ الهجري من شهر الله المحرم، فهو بداية حياة جديدة بعد رجوع الحجيج من بيت الله الحرام، فناسب أن يكون بداية جديدة لتاريخ المسلمين الذي سوف يسطر أسمى وأرقى الصور لحضارة يمكن أن يعرفها البشر.

هذا المعنى في بداية التأريخ الهجري، يتضمن معنى آخر لا يقل عنه في الهجرة ومفهومها، هو معنى يحمل أسمى دلائل الإنسانية الراقية، أضفاه على الحدث نبينا عليه الصلاة والسلام عندما سئل عن أفضل الهجرة، فقال: (أن تهجر السوء).

وعند الإمام ابن المبارك في كتاب (الزهد) ما يدل على أن هذا الكلام أيضا كان في حجة الوداع، فذكر أن فضالةَ بنَ عبيد رضي الله عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ؟ مَنْ أَمَّنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَأَنْفُسِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الذُّنُوبَ وَالْخَطَايَا).

وقوله صلى الله عليه وسلم: (والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) لا يدل على جواز أذية غير المسلمين، فقد نوَّه الشراح أن هذا خرج مخرج الغالب، وأنه يشمل المسلم والذمِّي المستأمن، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما) - البخاري -. وفسر العلماء المعاهد بالذمي. لذلك بوب له البخاري: بَابُ إِثْمِ مَنْ قَتَلَ ذِمِّيًّا بِغَيْرِ جُرْمٍ. بل ذهب قَوْمٌ من العلماء إِلَى أَنَّ دِيَتَهُ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.

كما جاء في بعض الأحاديث ما يفيد النهي عن مناداته بالكافر، كما في الحديث الذي أخرجه الطبراني في الكبير وفي مسند الشاميين، عن الإمام الأوزاعي، عن مكحول، عن وَاثِلَةَ بن الأسقع رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَذَفَ ذِمِّيًّا حُدَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِسِياطٍ مِنْ نَارٍ). فَقُلْتُ لِمَكْحُولٍ مَا أَشَدُّ مَا يُقَالُ قَالَ: يُقَالُ لَهُ: «يَا ابْنَ الْكَافِرِ». فاعتبر أن مناداة الذمي ب (يا كافر) أو (يا ابن الكافر) من باب القذف..

ما أجمل هذه المعاني الإنسانية الراقية، وما أندرها اليوم في واقع المسلمين والناس.

فالأمن مفقود، حيث لا يثق المرء بصدق المعاملة، والسلامة من الأذى معدومة، بل أذية الناس في أعراضهم وكراماتهم هي السائدة، مع كذب وافتراء وحب في التشهير والتسفيه، ومعنى المجاهدة اليوم غير مفهوم حيث لا يوجد من يضبط نفسه عن سوء يفعله أو شر يبديه، أما الهجرة فإلى الذنوب وليس منها، حتى بات السوء في الفعال والأقوال هو السائد، وحتى بتنا نردد مع المتنبي قوله الذي كنا نعيبه عليه:


والظلم من شيم النفوس، فإن تجد ... ذا عفة، فلعلة لا يظلم

واقع مرير نعيشه يجعلنا نتسائل، ويحق لنا ذلك، ما الذي بقي فينا من معاني الهجرة النبوية؟