الإبراد بصلاة الظهر
يسن الإبراد بصلاة الظهر في البلاد الحارة في شدة الحر فتؤخر الصلاة إلى آخر وقتها فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ وَاشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ» [1].
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» [2].
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين وغيرهما بتأخير صلاة الظهر في الحر حتى تنكسر شدة الحر وتبتعد الشمس جهة المغرب فهذا الوقت بارد بالنسبة إلى أول وقت الظهر.
حكم الإبراد بصلاة الظهر:
جمهور أهل العلم من فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم يقولون باستحباب الإبراد [3] فالأمر أمر استحباب لا وجوب قال ابن رجب: الأمر بالإبراد أمر ندب واستحباب، لا أمر حتم وإيجاب، هذا مما لا خلاف فيه بين العلماء[4].
وإنَّما اختلفوا في مَنْ يستحب لهم الإبراد فصلاة الظهر في أول وقتها أو آخره جائز من غير كراهة ففي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وَقْتُ الظُّهْرِ إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَكَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْعَصْرُ [5]. فالصلاة في أول الوقت وآخره جائزة وفي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة، فلم يرد عليه شيئا، قال: فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِينَ انْشَقَّ الْفَجْرُ، وَالنَّاسُ لَا يَكَادُ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ بِالظُّهْرِ، حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، وَالْقَائِلُ يَقُولُ قَدِ انْتَصَفَ النَّهَارُ، وَهُوَ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ بِالْعَصْرِ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ بِالْمَغْرِبِ حِينَ وَقَعَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ أَخَّرَ الْفَجْرَ مِنَ الْغَدِ حَتَّى انْصَرَفَ مِنْهَا، وَالْقَائِلُ يَقُولُ قَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، أَوْ كَادَتْ، ثُمَّ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى كَانَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ، ثُمَّ أَخَّرَ الْعَصْرَ حَتَّى انْصَرَفَ مِنْهَا، وَالْقَائِلُ يَقُولُ قَدِ احْمَرَّتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى كَانَ عِنْدَ سُقُوطِ الشَّفَقِ، ثُمَّ أَخَّرَ الْعِشَاءَ حَتَّى كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ، ثُمَّ أَصْبَحَ فَدَعَا السَّائِلَ، فَقَالَ: «الْوَقْتُ بَيْنَ هَذَيْنِ» [6]. فأخر الظهر في اليوم الثاني آخر وقتها فكان قريباً من دخول وقت العصر وهذا تأخير في حال اختيار وليس في حال حاجة أو اضطرار.
علة الإبراد: اختلف أهل العلم في العلة التي شرع لأجلها الإبراد بصلاة الظهر على أقوال:
الأول: المشقة على من بعد من المسجد بمشيه في الحر، وعلى هذا فيختص الإبراد بالصلاة في مساجد الجماعة التي تقصد من الأمكنة المتباعدة[7].
الثاني: شدة الحر كالصلاة بحضرة الطعام ومدافعة الأخبثين تمنع صاحبها من الخشوع فيصلي وهو غير مرتاح ومقبل عليها، فشرع الإبراد لتحصيل لب الصلاة الخشوع. فعلى هذا فلا فرق بين من يصلي وحده أو جماعة[8].
الثالث: وقت التسعير وتنفيس جهنم ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه «فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ وَاشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ» [9].
الترجيح: الذي يترجح لي أنَّ سبب النهى عن إيقاع الصلاة حال شدة الحر لأنَّ هذا الوقت وقت شدة تسعير النار كما نهى عن الصلاة وقت تسجير النار ووقت مقارنة الشيطان لها ففي حديث عمرو بن عبَسة صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ، ثُمَّ صَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ [10].
فالعلة المنصوص عليها شدة فيح جهنم وينتج عن ذلك عدم إقبال النفس على الصلاة كل الإقبال فلا يحصل الخشوع في الصلاة وهذه العلة عامة يشترك فيها الرجال والنساء من صلى في المسجد أو في بيته والله أعلم.
حد الإبراد: عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلظُّهْرِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَبْرِدْ» ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ فَقَالَ لَهُ « أَبْرِدْ» حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ» [11].
فقوله حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ يفيد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخر صلاة الظهر إلى آخر وقتها[12] فالتلول منبطحة غير مرتفعة فلا يظهر لها فيء إلا إذا ذهب أكثر وقت الظهر وفي رواية حَتَّى سَاوَى الظِّلُّ التُّلُولَ [13] ففي هذه الرواية يكون أخر الظهر حتى لم يبقَ إلا فيء الزوال وهذا آخر الوقت. فإن قيل لعله أخر الظهر فجمعها مع العصر فيقال هذا خلاف فعل النبي صلى الله عليه وسلم فلم يثبت عنه حديث صحيح صريح في الجمع وهو حال إلا في حجة الوداع وتقدم في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ثُمَّ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى كَانَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ وهذا في المدينة خرج مخرج التعليم لبيان الجواز من غير حاجة فمع الحاجة يكون مستحباً.
فتؤخر صلاةُ الظهر حتى لا يبقى من وقتها إلا ما يتسع للأذان والوضوء وصلاة الفرض والسنة الراتبة القبلة والبعدية فإذا كان الناس جماعة يدخل وقت العصر فيؤذن لها فيصلون.
وقدر شيخنا الشيخ محمد العثيمين التأخير إلى قبل دخول وقت العصر بنصف ساعة[14].
مشروعية الإبراد لكل مصلي: فيستحب الإبراد في صلاة الظهر في شدة الحر لكل مصلي وهو رأي جمهور أهل العلم لعموم الحديث والعلة المنصوص عليها فيح جهنم يشترك فيها الجميع الرجال والنساء صلوا جماعة أو فرادى في المساجد أو في بيوتهم[15].
الإبراد في رمضان:
يوافق رمضان شدة الحر ووقت إجازة للطلاب فالكثير من الناس يسهرون الليل ويتأخرون في الاستيقاظ وربما شق عليهم الاستيقاظ في أول وقت الظهر فالسنة الإبراد لما تقدم ولأنَّ ذلك أرفق بهم فيقبلون على الصلاة وقت نشاط ورغبة وقد أخذوا نصيبهم من النوم لكن لا تؤخر الصلاة حتى يخرج وقتها.
قال ابن القيم: من علامات تعظيم الأمر والنهي أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون صاحبه جافياً غير مستقيم على المنهج الوسط، مثال ذلك أنَّ السنة وردت بالإبراد بالظهر في شدة الحر فالترخص الجافي أن يبرد إلى فوات الوقت أو مقاربة خروجه فيكون مترخصاً جافياً، وحكمة هذه الرخصة أنَّ الصلاة في شدة الحر تمنع صاحبها من الخشوع والحضور ويفعل العبادة بتكره وضجر، فمن حكمة الشارع صلى الله عليه وسلم أن أمرهم بتأخيرها حتى ينكسر الحر فيصلي العبد بقلب حاضر، ويحصل له مقصود الصلاة من الخشوع والاقبال على الله تعالى[16].
وفي رمضان هذا الوقت يضاف إلى شدة الحر الرغبة في النوم لعدم أخذ العادة منه.
[1] رواه البخاري (537) ومسلم (615).
[2] رواه مسلم (538).
[3] انظر: إكمال المعلم (2/581) والمفهم (2/245) وشرح مسلم للنووي (5/165) وطرح التثريب (2/151).
[4] فتح الباري لابن رجب (4/242).
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (2/16) قيل بل هو للوجوب حكاه عياض وغيره وغفل الكرماني فنقل الإجماع على عدم الوجوب نعم قال جمهور أهل العلم يستحب تأخير الظهر في شدة الحر إلى أن يبرد الوقت وينكسر الوهج.
وتعقبه العيني في عمدة القاري (5/20) فقال: قال بعضهم وغفل الكرماني فنقل الإجماع على عدم الوجوب (قلت) لا يقال إنَّه غفل بل الذين نقل عنهم فيه الإجماع كأنَّهم لم يعتبروا كلام من ادعى الوجوب فصار كالعدم.
[5] رواه مسلم (612).
[6] رواه مسلم (614).
[7] انظر: المجموع (3/59) وفتح الباري (2/17).
[8] انظر: الوابل الصيب ص (22) وفتح الباري لابن رجب (4/240) وفتح الباري لابن حجر (2/17).
[9] انظر: شرح عمدة الفقه لابن تيمية كتاب الصلاة ص: (199) وفتح الباري لابن رجب (4/241) وفتح الباري لابن حجر (2/17) وطرح التثريب (2/153).
[10] رواه مسلم (832).
[11] رواه البخاري (539) ومسلم (616).
[12] انظر: المغني (1/400) وفتح الباري لابن رجب (4/242) وفتح الباري لابن حجر (2/21).
[13] البخاري (629).
[14] انظر: الشرح الممتع (2/105).
[15] انظر: الأوسط (2/361) والمغني (1/399) وشرح عمدة الفقه لابن تيمية كتاب الصلاة ص: (198) وفتح الباري لابن رجب (4/240) وفتح الباري لابن حجر (2/16) وطرح التثريب (2/151) والشرح الممتع (2/105).
[16] الوابل الصيب ص (22).
______________________________ ____________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان