الصبر على أقدار الله
نحن في هذه الدنيا عُرْضَةٌ للآفات والمصائب؛ فتارة تكون هذه المصائب في الأرواح؛ من فَقْد قريب وحبيب وصاحب، أو أحد أهل الفضل والإحسان، وتارةً تكون في الأبدان؛ من أمراض مؤلمة، وحوداث مفجعة، تُقْعِدُ الشَّخصَ وتجعله قعيدَ الفراش، وتارةً في الأموال؛ من خسائر وآفات تصيب المال، وتُفْقِرُ صاحبه؛ فتُحِيلَهُ من غنٍّي إلى فقير يتكفَّف الناس، وتارةً مصائب معنويَّة، في النَّفس، أو في مَنْ نحبُّ؛ من تحوُّلٍ من حالٍ إلى ضدِّها.
والناس حينما يتعرَّضون للمصائب الدنيويَّة؛ هم أربعة أصناف:
الأول: مَنْ يَتَسَخَّط المصيبةَ، ويرى أنه لا يستحقُّ ذلك؛ فيَتَسَخَّطُها بقلبه، ويرى أن ذلك خلاف العدل، فلَمْ يعمل ما يجعله يُصاب بمثل ذلك! هذا لسانُ حالِه!!
ونسيَ مَنْ هذه حالُهُ أنَّ خيرةَ خَلْق الله؛ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - هم أشدُّ الناس بلاءً، ولو كان البلاء والمصائب لِهوان الشَّخص على ربِّه؛ لما تعرَّضوا للمِحَن والمصائب الدنيويَّة.
وربما ظهر أثرُ هذا التَّسَخُّط على اللِّسان، وصرَّح بما يختلج في قلبه، وجزع عند المصيبة، وبَدَرَ منه ما كان يفعله أهل الجهل؛ من لَطْم الخدود، وشقِّ الجيوب، ونَتْف الشُّعور، والنَّوْح عند المصيبة، وهذا من كبائر الذنوب.
عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه – قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ليس منَّا مَنْ لَطَمَ الخُدودَ، وشَقَّ الجُيوبَ، ودعا بدعْوى الجاهليَّة»؛ (رواه البخاريُّ (1294) ومسلمٌ (103).
الثاني: الصَّابر عند المصيبة، فيصبر على أقدار الله المؤلِمة؛ لأنَّه يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن لِيُخْطِئهُ، وما أَخْطَأَهُ لم يكن لِيُصِيبَهُ، مع كَوْن المصيبة ثقيلةٌ على نفسه، ويتمنَّى عدمَ وقوعها، ويكرهها، لكنَّه يتحمَّلها، ويصبر عليها، ولا يَتَسَخَّطُ المصيبةَ بقلبه ولا جوارحه.
فيصبر على المقضيِّ - وهي المصيبة - ويتمنَّى عدم حصولها، وأما القضاء الذي هو وصفُ الله سبحانه وفِعْلُه؛ كعلمه وكتابه وتقديره ومشيئته - فهو راضٍ به؛ لأنَّ الرِّضا به من تمام الرِّضا بالله ربًّا وإلهًا ومالِكًا ومدبِّرًا.
والصبر على أقدار الله المؤلِمة واجبٌ باتِّفاق الأمَّة؛ لأمر الله به في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه.
والصابر يَسْتَرْجِعُ عند المصيبة؛ فهو كما ذكر الله عنه بقوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 156 - 157].
وعن أم سَلَمَة - رضي الله عنها - أنَّها قالت: "سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من مسلمٍ تصيبه مصيبةٌ فيقول: ما أمره الله، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهم أَجُرْني في مصيبتي، وأَخْلِفْ لي خيرًا منها - إلا آجره الله في مصيبته، وأَخْلَفَ اللهُ له خيرًا منها». قالت: فلما مات أبو سَلَمَة قلتُ: أيُّ المسلمين خيرٌ من أبي سَلَمَة؛ أوَّل بيتٍ هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! ثم إنِّي قُلْتُها؛ فأخلفَ الله لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - … "؛ رواه مسلم (918).
فمن قال ذلك عند المصيبة، سواءٌ كانت في الأَنْفُس أو الأموال أو غير ذلك، قال ذلك مؤمنًا محتسبًا - فهو ضامنٌ على ربِّه أن يأجره الله على صبره، وأن يُخْلِفَ له خيرًا مما أُصيب به؛ فيَخْلُفَهُ في دِينه أو وَلَده أو ماله، أو غير ذلك من نِعَم الله؛ فأَحْسِنُوا الظَّنَّ بربِّكم؛ فهو عند ظنِّكم به.
أما دمع العين وحزن القلب، من غير سَخَطٍ لقَدَر الله؛ فهو جائزٌ، ولا ينافي الصَّبر؛ فها هو سيِّدُ الصَّابرين؛ بل سيِّد الرَّاضين بأقدار الله - صلى الله عليه وسلم - حينما دخل على ابنه إبراهيم وهو يجود بنَفَسِه؛ فجعلت عَيْناه - صلى الله عليه وسلم – تَذْرِفانِ؛ فقال له عبدالرحمن بن عوف – رضي الله عنه -: وأنت يا رسول الله! فقال: «يا ابن عوف، إنَّها رحمةٌ». ثم أتبعها بأخرى؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلاَّ ما يُرضي ربَّنا، وإنَّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون»؛ (رواه البخاري ( 1303).
واعلموا أنَّ الصَّبر الكامل، الذي يترتَّب عليه الأجر الجزيل، ويُحْمَد عليه صاحبه - ما كان عند مفاجأة المصيبة؛ لكثرة المَشَقَّةِ فيه، بخلاف ما بعد ذلك؛ فإنَّ المُصابَ على الأيام يسلو، فيصير صبره شبيهُ الاضطرار، ويستوي في ذلك المسلم والكافر.
فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: مرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بامرأةٍ تبكي عند قبرٍ؛ فقال: «اتقِّ الله واصبري». قالت: إليك عني؛ فإنَّك لم تُصَبْ بمصيبتي، ولم تعرفه؛ فقيل لها: إنَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فأتت بابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فلم تجد عنده بوابين؛ فقالت: لم أعرفك؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنمَّا الصبر عند الصَّدمة الأولى»؛ (رواه البخاري (1283)، ومسلم (926).
الثالث: الرَّاضي بالمصيبة، ودرجة الرضا أعلى من درجة الصبر، وهو مستحبٌّ غير واجب؛ فإنَّ الإيجاب يستلزم دليلاً شرعيًّا، ولا دليلَ يدلُّ على الوجوب؛ فلم يَرِدِ الأمرُ بالرِّضى على المصائب الدُّنيويَّة، إنما جاء مدحُ أهله، والثَّناء عليهم.
والرِّضى من مقامات الإحسان، التي هي من أعلى المندوبات، ولا يَصْدُرُ إلاَّ مِنَ الكُمَّل من الناس.
ولا يستلزم الرِّضى عدمَ كراهةَ المصيبة؛ فالرَّاضي يرضى بالمصيبة، وإن كان يكرهها، لكنه لا يتمنَّى عدم وقوعها.
وهذا الفَرْق بين الصبر والرضا؛ فالصابر يتمنَّى عدم وقوعها، بخلاف الرَّاضي؛ فالأمر عنده سواءٌ؛ لتسليمه لقضاء ربِّه.
فالمصائب تكون مرضيةً من وجهٍ، مكروهةً من وجهٍ؛ كشرب الدواء النافع الكريه، فإن المريض يرضى به مع شدة كراهته له، وكالجهاد في سبيل الله، الذي قال الله تعالى عنه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216].
فالمجاهد المخلِص يعلم أنَّ القتال خيرٌ له؛ فيرضي به وهو يكرهه، لما فيه من التعرُّض لإتلاف النَّفس وأَلَمِها، ومفارقة المحبوب.
وبعد: عن أنس بن مالك قال: "مات ابنٌ لأبي طلحة من [أمي] أمّ سليم؛ فقالت لأهلها: لا تحدِّثوا أبا طلحة بابنه، حتى أكون أنا أحدِّثه. قال: فجاء، فقربت إليه عشاءً، فأكل وشرب. فقال: ثم تصنَّعت له أحسنَ ما كان تصنُّعٌ قبل ذلك؛ فوَقَع بها، فلمَّا رأت أنه قد شبع وأصاب منها قالت: يا أبا طلحة، أرأيتَ لو أنَّ قومًا أعاروا عاريتهم أهلَ بيتٍ، فطلبوا عاريتهم؛ أَلَهُم أن يمنعوهم؟ قال: لا؛ قالت فاحْتَسِبْ ابنَكَ. قال: فغضب، وقال: تَرَكْتِنِي حتَّى تَلَطَّخْتُ، ثم أَخْبَرْتِني بابني!! فانطلق حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما كان؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بارك الله لكما في غابِر ليلتِكُما». قال: فحَمَلَتْ؛ فوَلَدَت غلامًا؛ فقالت لي أمي: يا أنس، لا يرضعه أحدٌ حتى تغدو به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم. فلما أصبح احْتَمَلْتُهُ، فانطلقتُ به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوَضَعْتُهُ في حِجْرِه، ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعجوةٍ من عجوة المدينة، فلاكها في فِيهِ حتى ذابت، ثم قذفها في فِي الصَّبي، فمسح وجهه، وسماه عبدَالله"؛ (رواه البخاري (5470)، ومسلم واللفظ له (2144).
فكان لعبدالله بن أبي طلحة سبع بنين، كلهم قد ختم القرآن، فلمَّا عَلِمَ اللهُ صدقَ نيَّةِ أمِّ سُلَيْم وصبرها، وتسليمها لقضاء الله، ورضاها به - بلَّغها مُناها، وأَخْلَفَ لها غيرَ هذا الوَلَد، وأصلح لها ذُرِّيَّتها.
الرابع: مَنْ يفرح بالمصيبة، ويَحمد الله عليها! فمتى قَوِيَ الرِّضى بالشيء، وتمكَّن من النَّفْس؛ انقلبت كراهته محبَّة، وإن لم يَخْلُ من الألم؛ فالألم بالشيء لا ينافي محبَّته له، وكراهته من وجهٍ لا ينافي محبَّته وإرادته، والرِّضى به من وجهٍ آخر.
فحين تُوقِنُ النَّفْسَ بأنَّ هذه المصيبة أفضل لها في العاقبة، وأنَّ الألمَ اليسيرَ تَعْقُبُهُ راحةٌ في الآخِرة، ورفعةُ الدَّرجات في الجنَّة، وأن الله أحكمُ الحاكمين؛ فلا يقضي لِوَلِيِّهِ إلاَّ ما هو خيرٌ له، و إن كان فيه ألمٌ - هنا تطمئن النَّفْس لقضاء الله، وتفرح به!!
انظروا إلى المريض، حينما يشخِّص الطبيب له الدَّاء، ويقرِّر له عمليةً يستأصل بها جزءً من جسده، وهو مع ذلك فَرِحٌ مسرورٌ، يدعو له، ويَلْهَجُ بالثَّناء على هذا الطبيب الذي أَعْمَلَ (مَشْرَطَه) في بَدَنِه، واستأصل جزءً منه، وتسبَّب في عدم حركته، وامتناعه عن المألوف فترةً من الزمن؛ لأن الألمَ الذي يعقب العملية، واحتباسه في المستشفى فترةً؛ سَهَّل عنده ما قابَل الرَّاحة التي تعقب ذلك! هذا مع المخلوق حينما يُوثَق به؛ فكيف بالله الذي خلق النَّفس البشريَّة، ويعلم بواطِنَها وبما يكون صلاحها: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
فبعض الخَلْق في لهوٍ وعبثٍ، فإذا أصابته مصيبة فاقَ من سَكْرَته، وعاد إلى ربِّه، وهذا مُشاهَد في قوافل التَّائبين.
فكم من تائبٍ تاب وأناب إلى ربِّه بعد وفاة عزيز، وكم من تائبٍ تاب بعد أن فَقَدَ نعمةً من نِعَم الله عليه في بَدَنِه، وكم من مسرفٍ ارْعوى عن الإسراف وتبذير المال بعد أن خسر في تجارته، وكم من تائبٍ تاب وأدَّى زكاةَ مالِه بعد أن فَقَدَ جزءً من مالِه!
وكم من تائبٍ تاب وأقلع عن أذى الناس في أعراضهم؛ حينما تعرَّض للأذى في عرضه! فربما صَحَّتِ الأجسادُ بالعِلَل!!
فالله هو الطبيب الذي يُصلِح أدواءَ النُّفوس الحسيَّة والمعنوية؛ فقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأبي رَمْثَةَ حينما قال له: أَرِني هذا الذي بِظَهْرِكَ؛ فإنِّي رجلٌ طبيبٌ؛ قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الله الطبيب، بل أنت رجلٌ رفيقٌ! طَبِيبُها الذي خَلَقَها»؛ رواه أبو داود (4207)، ورواته ثقاتٌ.
منقول