تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 15 من 15

الموضوع: وقفات مع سورة الكهف

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,443

    افتراضي وقفات مع سورة الكهف



    وقفات مع سورة الكهف (1)









    كتبه/ خالد آل رحيم


    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فسورة الكهف مِن السور العظيمة في كتاب الله، ولها فضائل كثيرة؛ لذلك سيكون لنا معها وقفات للحديث عنها، وبيان عظمتها ومكانتها، والغوص في أعماق معانيها، واستخراج دُررها.

    سورة الكهف مكية، وسُميت بسورة الكهف؛ لأنها ذَكَرَتْ قصة أصحاب الكهف في ثناياها، قال أبو عمرو الداني: وسورة الكهف مكية، وكلمها: 1577 كلمة، وحروفها: 6360 حرفًا، وآياتها: 110 آية كما عند الكوفيين، وترتيبها في النزول 69، وفي المصحف 18، ونزلت بعد الغاشية وقبل الشورى.

    وقد ذكر الألوسي رحمه الله تعالى: أنها نزلت جملة، ونزل معها سبعون ألفًا من الملائكة (روح المعاني).

    وجاء ترتيبها في المصحف بعد سورة الإسراء؛ وذلك لأمورٍ، منها:

    1- أن سورة الإسراء خُتمت بالحمد: "وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرًا"، وبدأت به سورة الكهف: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا".

    ومنها: أن سورة الإسراء حوت الجواب عن الروح، والذي لم يرد في الكهف بقوله تعالى: "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا"، وجاء الجواب عن الرجل الطَّوَّاف، والفتية في سورة الكهف.

    ومنها: أن آخر آية في الإسراء أنكرت على مَن يدعي لله الولد، وكذلك بداية سورة الكهف.

    فضلها:

    جاء عند الإمام مسلم في صحيحه عن النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدركه الدجال؛ فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف"، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن حفظ عشر آيات من سورة الكهف عُصِم من الدجال"، وفي رواية: "من آخر الكهف"، وكذلك أنها مِن السور الخمس التي بدأت بحمد الله تعالى، وهي سور: (الفاتحة، والأنعام، وسبأ، وفاطر).

    وسبب نزولها كما ذكر ابن كثير رحمه الله: "عن ابن عباس رضي لله عنه قال: بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهما: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من عِلْم الأنبياء، فخرجا حتى آتيا المدينة فسألوا أحبار يهود عن النبي صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال: فقالوا لهم: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإلا فرجل متقول فرَوْا فيه رأيكم؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول وما كان من أمرهم فإنهم قد كان لهم حديث عجيب؟ وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها وما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول؛ فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.

    فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط حتى قدما على قريش فقالا: قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمورٍ، فأخبروهم بها، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد، أخبرنا ... فسألوه عما أمروهم به.

    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبركم غدًا ولم يستثنِ، فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يُحدث الله له في ذلك وحيًا، ولا يأتيه جبريل عليه السلام حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: وَعَدَنا محمدٌ غدًا، واليوم خمسة عشر قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه، فشق عليه ما يتكلَّم به أهل مكة، ثم جاء جبريل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف (تفسير ابن كثير).


    وإلى اللقاء في الحلقة القادمة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,443

    افتراضي رد: وقفات مع سورة الكهف



    وقفات مع قصة أصحاب الأخدود (2)

    الغلام بين الساحر والراهب









    كتبه/ سعيد محمود


    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    المقدمة:

    - الإشارة إلى ما سبق في المرة السابقة، والتنبيه على تقسيم القصة إلى مشاهد، سنقف مع كلِّ مشهدٍ بالدرس والعِبْرَة.

    المشهد الأول: الغلام والساحر:

    عن صيب الرومي -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (كانَ مَلِكٌ فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ، وَكانَ له سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ، قالَ لِلْمَلِكِ: إنِّي قدْ كَبِرْتُ، فَابْعَثْ إلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ) (رواه مسلم).


    وقفات وعِبَر من المشهد الأول:

    الأولى: ذم السحر والسحرة:

    - السحر واستعمال السحرة وسيلة الطغاة في تزييف الحقائق، ومحاربة الحق على مرِّ الزمان: "شاهد القصة: حرص الملك على بقاء السحر كأداة ووسيلة للحفاظ على ملكه" (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ) (يونس: 79)(1).

    - والسحر كفر بالله -عز وجل-؛ لأن الساحرَ يوهِم الناسَ أنه قادر على النفع والضر بما يتسبب فيه بسحره(2): قال تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُون َ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُون َ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة: 102).

    - السحرة لا يتوصلون إلى سحرهم إلا بالكفر بالله، وإتيان الأفعال والأقوال الشنيعة: قال شيخ الاسلام بن تيمية: "يكتبون فيها كلام الله بالنجاسة، وقد يقلبون حروف كلام الله -عز وجل-؛ إما حروف الفاتحة، وإما حروف "قل هو الله أحد"، وإما بغيرهما؛ إما بدم وإما بغيره، وإما بغير نجاسة، أو يكتبون غير ذلك مما يرضاه الشيطان، أو يتكلمون بذلك" (مجموع الفتاوى)، ومِن صور وسائلهم الشيطانية (فعل ذلك بدم الحيض أو بالمني!).

    - إتيان السحرة خطر شديد على عقيدة المسلم وإيمانه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَن أتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عن شيءٍ، لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ أرْبَعِينَ لَيْلَةً) (رواه مسلم)، وعنْ عائِشَةَ -رضي اللَّه عَنْهَا- قَالَتْ: سَأَلَ رسُولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- أُنَاسٌ عنِ الْكُهَّانِ، فَقَالَ: (لَيْسُوا بِشَيءٍ)، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، إنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أحْيَانًا بشَيْءٍ فيكُونُ حَقًّا؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: (تِلْكَ الْكَلمةُ مِنَ الْحَقِّ، يخْطَفُهَا الجِنِّيُّ، فَيَقُرُّهَا فِي أذُنِ ولِيِّهِ، فَيَخْلِطُونَ معهَا مِئَةَ كَذْبَةٍ) (متفق عليه)، وقال -تعالى-: (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) (طه: 69)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ) قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ وما هُنَّ؟ قالَ: (الشِّرْكُ باللَّهِ، والسِّحْرُ) (متفق عليه).

    الثانية: التحذير من سحر العصر الحديث:

    - هناك نوع آخر من السحر المعنوي يستميل القلوب كما يستميلها السحر الحقيقي، وهو: سحر الكلام والإعلام العصري بفروعه وأشكاله: عن عبد الله بن عمر -رضى الله عنهما- قال: قدم رجلان من المشْرق فخطبا، فعجب النَّاس لبَيَانِهما، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ من البَيَان لسِحْرًا)، أو: (إنَّ بعْضَ البَيَان لسِحْرٌ) (رواه البخاري).

    - سحر الإعلام القرشي المحدود الإمكانات يؤثِّر على دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فكيف بإعلام العصر؟!: قال الطفيل بن عمرو لما دخل مكة أثناء الحملة الإعلامية القرشية: " ... فجعلتُ الكرسف -القطن- في أذني؛ حتى لا يسحرني محمد!".

    - سحرة العصر الحديث يعضدون مُلْك الطغاة بقلب الحقائق وتزييف الأمور: (التنفير من الدِّين وأهله - تشويه صورة الدعاة والعلماء وتجميل صورة الطغاة والفاسدين - تزيين العري والفجور والغناء واللهو وكل ما يبعد الناس عن دين الله - اعتبار السحر والعرافة وظائف سائغة واستضافة أصحابها في إعلامهم - وغير ذلك ... !)؛ قال الله -تعالى-: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إلى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) (البقرة: 221)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في أمثالهم: (دُعَاةٌ إلى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَن أَجَابَهُمْ إلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا)، قُلتُ: يا رسولَ الله، صِفْهُمْ لنا؟ فقال: (هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُون َ بِأَلْسِنَتِنَا) (متفق عليه).

    المشهد الثاني: الغلام والراهب:

    قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَكانَ في طَرِيقِهِ إذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ، فأعْجَبَهُ، فَكانَ إذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذلكَ إلى الرَّاهِبِ، فَقالَ: إذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وإذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ).

    وقفات مع المشهد الثاني:

    الأولى: ويمكرون ويمكر الله:

    - المَلِك الطاغية يجنِّد كل الطاقات ليكون الغلام ساحرًا، والله يريد له أن يكون داعيًا إليه، وعلى يديه هلاك الملك الطاغية: قال -تعالى-: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال:30)، وقال -تعالى-: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21).

    - الطغاة يمكرون، فيكون مكرهم في نحورهم ... فالفرعون كان يقتل الأطفال من بني إسرائيل اتقاء وجود موسى، فينشأ موسى في بيته، وجمع السحرة لإبطال دعوة موسى، فآمنوا وكانوا دعاة إلى دين موسى: (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) (الشعراء: 19)، وقال -تعالى- عن تحول السحرة: (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ . قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . رَبِّ مُوسَى وهارون) (الأعراف: 120-122)، وقال -تعالى- عن ثباتهم: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (طه: 71-72).

    - كانت عبادة المَلِك الغاشم هي العقيدة السائدة يومئذٍ في الجماهير، وعبادة الملك الواحد الأحد هي العقيدة المضطهدة يومئذٍ، المستتر أصحابها، ولكنها العقيدة السهلة السمحة الموافقة للفطرة السوية؛ ولذا تأثَّر بها الغلام وتأثر بها الناس: قال -تعالى-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم:30).

    الثانية: جواز التعريض عند الضرورة:

    - كان الغلام يفر من بطش الساحر وعقابه، بالتعريض في كلامه، وكذلك من أهله؛ لأنه سيُمنع من سبيل الهداية إلى الله إن أطاع أهله والساحر: "إنَّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب(3)" (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصحح الألباني وقفه).

    - الأصل حرمة الكذب مطلقًا: قال -تعالى-: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (النحل: 105)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا) (متفق عليه)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) (متفق عليه).

    - ولكن يجوز عند الاضطرار والضرورة: فعن أم كلثوم بنت عقبة: أنَّهَا سَمِعَتْ رَسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: (ليسَ الكَذَّابُ الذي يُصْلِحُ بيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْرًا، أوْ يقولُ خَيْرًا)، قالت أم كلثوم: "وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا" (متفق عليه)(4).

    خاتمة:

    - تذكير بمجمل ما جاء في المشهدين، والإشارة إلى المشهد التالي من خلال معنى: "الله يريد هداية الغلام الذي سيكون على يديه هداية أهل المملكة كلها تقريبًا -بإذن الله-.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــ

    (1) وكان الأقوام يتهمون الأنبياء بأنهم سحرة، بما يدل على أن السحر أمره خطير في تزييف الحق، (قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى . فَلَنَأْتِيَنَّ كَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى) (طه: 57-58).

    (2) قال ابن قدامه في الكافي: "السحر عزائم ورقى، وعقد، يؤثِّر في القلوب والأبدان، فيمرض ويقتل، ويفرِّق بين المرء وزوجته، ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه، قال -تعالى-: (فَيَتَعَلَّمُون َ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) (البقرة: 102)" (انتهى)، وانظر: (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد - باب ما جاء في السحر).

    (3) ومن أمثلة التعريض: كأن يقول للظالم: دعوتُ لك أمس، وهو يريد قوله: اللهم اغفر للمسلمين.

    (4) ففي الحرب: لأنَّ الحرب خُدعَة، ومقتضياتها تستدعي التمويه على الأعداء، وإيهامهم بأشياء قد لا تكون موجودة، واستعمال أساليب الحرب النفسية ما أمكن، وفي الصلح بين المتخاصمين: حيث إنَّ ذلك يستدعي أحيانًا أن يحاول المصلِح تبرير أعمال كل طرف وأقواله بما يحقق التقارب ويزيل أسباب الشقاق، وأحيانًا ينسب إلى كل من الأقوال الحسنة في حق صاحبه ما لم يقله، وينفي عنه بعض ما قاله؛ وهو ما يعوق الصلح ويزيد شقة الخلاف والخصام.


    وفي الحياة الزوجية: حيث يحتاج الأمر أحيانًا إلى أن تكذب الزوجة على زوجها، أو يكذب الزوج على زوجته، ويخفي كل منهما عن الآخر ما من شأنه أن يوغر الصدور، أو يولد النفور، أو يثير الفتن والنزاع والشقاق بين الزوجين، كما يجوز أن يزف كل منهما للآخر من معسول القول ما يزيد الحب، ويسر النفس، ويجمل الحياة بينهما، وإن كان ما يقال كذبًا؛ لأن هذا الرباط الخطير يستحق أن يهتم به غاية الاهتمام، وأن يبذل الجهد الكافي ليظل قويًّا جميلًا مثمرًا.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,443

    افتراضي رد: وقفات مع سورة الكهف



    وقفات مع سورة الكهف (2)









    كتبه/ خالد آل رحيم


    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فنواصل في الحديث عن سورة الكهف، والتي تبدأ بقوله تعالى: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ"، وفي حمده نفسه عز وجل على إنزال القرآن على عبده محمدٍ صلى الله عليه وسلم توجيه لعباده الأخيار كي يحمدوه على هذه النعمة العظيمة.

    وقد وَصَف المولى تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالعبودية في ثلاث حالات:

    الأولى: حال إنزال القرآن عليه كما في هذه الآية، وكذلك آية سورة الفرقان: "*تَبَارَكَ *الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا".

    والثانية: حال الدفاع عنه، كما في آية سورة البقرة: "وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ".

    والثالثة: حال الإسراء به، كما في قوله تعالى: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا".

    وفي هذه الآية يتحدَّث المولى تعالى عن إنزال القرآن عليه بقوله: "الْكِتَابَ"، وقد حدثنا المولى تعالى عن هذا الكتاب ببيان صفته، والغاية من إنزاله؛ فصفته: أنه كتاب حق كله؛ ليس فيه خلل في أخباره، ولا أحكامه، والغاية منه: أنه يبشِّر المؤمنين بالأجر العظيم، وينذر مَن لم يؤمن به بالعقاب الأليم.

    قال البقاعي رحمه الله: "وقدَّم المولى تعالى ذكرَ النبي صلى الله عليه وسلم على المنزَّل (القرآن)؛ لأن المراد الدلالة على صحة رسالته بما لا تحتاج قريش إلى سؤال اليهود ولا غيرهم، بما لا يقدر عليه غيره" (انتهى)؛ ولذلك وَصَف المولى تعالى الكتاب بوصفين مشتملين على أنه الكامل من جميع الوجوه، وهما: نفي العوج عنه، وإثبات أنه قَيِّم مستقيم، بقوله تعالى: "وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا".

    ونفي العوج معناه: إثبات الاستقامة؛ فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة مجمع عليها، ومع ذلك مَن يدقق قد يجد أدنى عوج؛ فلما أثبت له الاستقامة أزال شبهة بقاء الأدنى (العوج)، و"عوجًا": نكرة في سياق النفي؛ فهي تعم جميع أنواع العوج.


    ولذلك قال تعالى: "قَيِّمًا" أي: على سائر الكتب يصدِّقها. وقيل: أي ذا اعتدال؛ لا إفراط فيه ولا تفريط في كلِّ ما حواه، ودعا إليه من التوحيد والعبادة، والآداب، والشرائع والأحكام. وقيل كذلك: أنه بمعنى قَيِّم بمصالح الخَلْق الدينية والدنيوية.

    وللحديث بقية إن شاء الله.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,443

    افتراضي رد: وقفات مع سورة الكهف

    وقفات مع سورة الكهف (3)









    كتبه/ خالد آل رحيم



    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    نواصل في الحديث عن وقفاتنا مع سورة الكهف حيث إن هذا الكتاب القَيِّم المنفي عنه كل عوج، إنما جاء بنذارة وبشارة؛ أما النذارة فجاءت أولاً: بإنذار الله عز وجل للناس من بأسه الشديد بقوله تعالى: "لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ"، والإنذار هو: الإعلام من الله تعالى مع الوعيد. وقيل البأس: هو العذاب كما قال: "فجاءها بأسنا" أي: عذابنا، وهنا يُراد به البأس في الآخرة، وبأس عذاب الدنيا، أما عذاب الآخرة فظاهر، وعذاب الدنيا بعضه بالقتل، وبعضه بالأسر، وهي من أفعال الناس، ولكن الله أمر بها؛ فهما مِن لدنه: أي مِن قِبَلِه.

    وأما البشارة: فجاءت للمؤمنين بقوله تعالى: "وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا"، والتبشير هو: الإخبار بما يسر؛ فهو يبشِّر المؤمنين بما يسرهم بشرط عمل الصالحات، وهذا يدل على أنه لا بد مع الإيمان عمل الصالح، وبذلك ينالون الأجر الحسن؛ ليس هذا فحسب، بل يمكثون فيه أبدًا.

    والمكث: الاستقرار في المكان، والمعني: أي: باقين فيه أبدًا إلى ما لا نهاية، فلا مرض ولا موت، ولا جوع ولا عطش، ولا حر ولا برد؛ كل شيء كامل من جميع الوجوه.

    ثم تأتي النذارة الثانية: "وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا"، وهي لمَن ادعى لله الولد، وهم: المشركون، واليهود والنصارى؛ فالمشركون قالوا:( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا"، واليهود: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ"، والنصارى: "وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ"؛ ولذلك نَفَى عنهم تعالى العِلْم بقولهم هذا، بل ونفى عنهم حجتهم باتباع الآباء؛ حتى لا يحتجون بذلك في قوله: "مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ"، فإذا لم يكن لآبائهم حجة على ما يقولون؛ فليسوا جديرين بأن يقلدوهم بهذه الكلمات الشنيعة، والتي وصفها المولى تعالى: "كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا" أي: عظمت في الشناعة والقبح.

    وكيف لأفواههم أن تقول هذه الكلمة، وهم يعلمون أنهم يكذبون؟!

    ولهذا جاء الأمر من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحزن عليهم، ولا يتأسف بقوله تعالى: "فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا"، أي: مهلك نفسك على أثر توليهم وإعراضهم.

    وقوله: "عَلَى آثَارِهِمْ"، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتتبعهم بآثارهم أملًا أن يؤمنوا به؛ ولذلك قال تعالى: "بِهَذَا الْحَدِيثِ".

    قال البقاعي رحمه الله: "لما صَوَّر بُعدهم، صوَّر ما دعاهم إليه، ويسر تناوله بقوله تعالى: "بهذا الحديث" أي: القَيِّم المتجدد تنزيله على حسب التدريج".

    ونهاه تعالى عن الأسف الذي هو الحزن والغضب معًا. وقيل: الجزع. وقيل: الندم والتلهف والأسى.

    والحزن هنا نوعان: نوع يحزن؛ لأنه لم يقبل، ونوع يحزن؛ لأن الحق لم يقبل، والثاني ممدوح؛ لأن الأول دعا لنفسه، والثاني دعا لله، وحُزن النبي صلى الله عليه وسلم كان من النوع الثاني، وقد نهى المولى تعالى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحزن في آيات كثيرة، منها: قوله تعالى: "فلا تذهب نفسك عليهم حسرات"، وقوله تعالى: "وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ"، وقوله تعالى: "فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ".


    والفائدة من هذه الآيات كما قال السعدي رحمه الله: "إن المأمور به هو التبليغ، والسعي بكل سبب يوصل للهداية، وسد طريق الضلال والغواية، مع التوكل على الله في ذلك؛ فإن اهتدوا فبها ونعمت، وإلا فلا يحزن ولا يأسف".

    وللحديث بقية إن شاء الله.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,443

    افتراضي رد: وقفات مع سورة الكهف



    وقفات مع سورة الكهف (4)









    كتبه/ خالد آل رحيم


    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فنواصل الحديث عن سورة الكهف بقوله تعالى: "إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا"، فبعد أن أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه لا ينبغي أن يحزن عليهم؛ لأن ما يفعلونه في هذه الدنيا ما هو إلا متاع زائل، بل الدنيا ذاتها زائلة، بل وكل ما عليها من زينة فهو زائل، وما جعلنا ذلك إلا ابتلاء لهم: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا" أي: أيهم أصلح عملًا. وقيل: أيهم أترك للدنيا، وبعد كل ذلك سيذهب هذا المتاع وهذه الزينة.

    وقوله تعالى: "وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا" أي: الزينة التي كانت عليها من الحيوانات والجمادات والنباتات والمباني، وغيرها، وستصير "صَعِيدًا جُرُزًا"، وهو التراب المستوي من الأرض. وقال الزجاج: هو الطريق الذي لا نبات فيه.

    قال السعدي رحمه الله: "لقد اغتر بزخرف الحياة الدنيا وزينتها الذين نظروا إلى ظاهرها دون باطنها، فصحبوا الدنيا صحبة البهائم، وتمتعوا بها تمتع السوائم، همهم تناول الشهوات من أي جهة حصلت؛ فهؤلاء إذا حضر أحدهم الموت قلق لخراب ذاته، وفوات لذاته؛ لما قدَّمت يداه من التفريط والسيئات" (انتهى).

    ثم انتقل الحديث عن الفتية فقال تعالى: "أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا"، وأصحاب الكهف: الفتية، والكهف: الغار الواسع في الجبل. والرقيم: نوع من الحجارة، أو غيرها كُتِبت فيه قصتهم. وقيل: أسماؤهم.

    وقوله تعالى: "إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ" أي: اتخذوا الكهف منزلًا، وذكر ابن كثير رحمه الله عن كثيرٍ مِن المفسرين: أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وكان الناس يجتمعون في يوم عيدٍ لهم يعبدون الأصنام ويذبحون لها، وكان لهم ملك جبار يُدْعَى (دقيانوس)، وكان يأمر الناس بذلك، فلما خرج الناس وخرج معهم الفتية ونظروا إلى صنيعهم علموا أن هذا لا ينبغي إلا لوجه الله، فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه حتى جلسوا إلى شجرة، وكان لا يعرف كلُّ واحد منهم الآخر، وإنما جمعهم الإيمان.

    فلما اجتمعوا قالوا: "رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً" أي: هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها، وتسترنا عن قومنا. وقيل: المقصود الهداية في الدين. "وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا" أي: الخير وإصابة الحق والنفع والصلاح، فكانت الإجابة من الله تعالى: "فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ"، قال الشنقيطي: "وعَبَّر بالضرب؛ ليدل على قوة المباشرة واللصوق واللزوم". والمراد: قوينا قلوبهم بالصبر على هجر الأوطان، والفرار بالدِّين إلى الكهف والغبران، وافتراش صعيدها، وجسرناهم على قول الحق والجهر به أمام الملك الجبار (دقيانوس).

    وخص تعالى الآذن؛ لأنها الجارحة التي منها عظم فساد النوم، وقلما ينقطع نوم نائم إلا من جهة آذنه، ولا يستحكم النوم إلا مع تعطل السمع؛ ولهذا كان النوم كما ذكر تعالى: "سِنِينَ عَدَدًا"، قال البغوي رحمه الله: "وذكر العدد على سبيل التأكيد، وذلك يدل على الكثرة؛ فإن القليل لا يُعد في العادة".

    ثم كان البعث والذي فيه المعجزة: "ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ"، وسَمَّى الله تعالى الاستيقاظ من النوم بعثًا؛ لأن النوم وفاة؛ قال الله تعالى: "وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى"، وكان هذا اختبارًا لقومهم.

    وقوله تعالى: "لِنَعْلَمَ" أي: لنعلم ذلك موجودًا واقعًا؛ وإلا فإن الله تعالى يعلم كل شيء قبل وجوده، ولا يخفي عليه منه شيء، قال العثيمين رحمه الله: "(لِنَعْلَمَ): الأول: أي: علم رؤية وظهور ومشاهدة، أي: لنرى؛ لأن عِلْمَ الله بالشيء قبل وقوعه علم بأنه سيقع، ولكن بعد وقوعه علم أنه وقع. والثاني: أنه العلم بالذي يترتب عليه الجزاء أي: لنعلم علمًا يترتب عليه الجزاء".


    وقوله تعالى: "أَيُّ الْحِزْبَيْنِ" قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الملوك الذين تداولوا المدينة مُلكًا بعد مُلك". وقوله: "أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا" أي: أضبط، والأمد: هو الغاية، وهي نهاية المدة التي لبثوها في الكهف.

    والى اللقاء في الحلقة القادمة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,443

    افتراضي رد: وقفات مع سورة الكهف

    وقفات مع سورة الكهف (5)




    كتبه/ خالد آل رحيم


    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فنواصل وقفاتنا مع سورة الكهف، ووقفتنا اليوم مع قوله تعالى: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ" أي: بالصدق، والباء للملاصقة، أي: القصص المصاحب للصدق لا التخرصات.

    - "إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ" أي: شباب، وهم أقبل للحق وأهدي للسبيل من الشيوخ الذين عتوا وانغمسوا في دين الباطل؛ ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شبابًا، وأما المشايخ من قريش؛ فعامتهم بقوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل.

    وكأنها رسالة للنبي صلى الله عليه وسلم، ودعوة للاهتمام بالشباب؛ لأنهم عَصَب الأمة وعمادها، وبهم وعلى أكتافهم تقوم الدول والمجتمعات؛ ولأنهم أقبل للحق.

    - قال تعالى: وَزِدْنَاهُمْ هُدًى" أي: زدناهم إيمانًا إلى إيمانهم، وبصيرة بدينهم حتى صبروا على هجران دار قومهم، والهرب من بين أظهرهم بدينهم إلى الله، وفراق ما كانوا فيه من خفض العيش ولينه إلى خشونة المكث في كهف جبل.

    وفوق ذلك أعطاهم المولى تعالى مزية أخرى بقوله: "وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ" أي: ثبتنا قلوبهم وقويناها على الصبر؛ حتى لا يجزعوا ولا يخافوا أن يصدعوا بالحق، ويصبروا على فراق الأهل والنعيم، والفرار بالدين في غار بجبل لا أنيس به، ولا ماء ولا طعام.

    قال ابن القيم رحمه الله: "والربط على القلب عكس الخذلان، فالخذلان حله من رباط التوفيق فيغفل عن ذكر ربه ويتبع هواه، ويصير أمره فرطًا، والربط على القلب: شده برباط التوفيق، فيتصل بذكر ربه، ويتبع مرضاته، ويجتمع عليه شمله".

    قال الشنقيطي رحمه لله: "وفي الآية: أن مَن كان في طاعة الله يقوي قلبه، ويثبت على تحمُّل الشدائد والصبر الجميل"، ولأنهم فتية آتاهم الله هدى وربط على قلوبهم صدعوا بالحق.

    - "إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا" أي: بين يدي الملك الذي كان يدعو لعبادة الأوثان، وجمعوا بين الإقرار بتوحيد الربوبية وتوحيد الإلهية، والتزام ذلك، وبيان أنه الحق وما سواه باطل، وهذا دليل على كمال معرفتهم بربهم وزيادة الهدى من الله لهم، وإقرارهم كذلك بتوحيد الربوبية والإلهية ردًّا على الكفار الذين كانوا يؤمنون بالربوبية دون الإلهية.

    وذكروا هنا "لَن نَّدْعُوَ" قال ابن عاشور رحمه الله: "وذكروا الدعاء دون العبادة؛ لأن الدعاء يشمل الأقوال كلها من إجراء وصف الألوهية على غير الله، ومن نداء غير الله عند السؤال".

    وعلموا أن تلك الأقوال من الشطط، "لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا"؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "جورًا"، وقال قتاده رحمه الله: "كذبًا"، وأصل الشطط: مجاوزة القدر والإفراط. وقيل: الإفراط في مخالفة الحق والصواب؛ ولذلك أكدوا كلامهم كما قال العثيمين رحمه الله: "والجملة هنا مؤكدة بثلاث مؤكدات وهي: (اللام - قد - القسم".

    ثم أكمل المولى تعالى الحديث على ألسنتهم بقولهم: "هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ"، والسلطان هو: الحجة والبرهان، والبيِّن أي: الواضح.

    وفي هذا تبكيت لهم؛ لأن الإتيان بالسلطان على عبادة الأوثان محال، وهو دليل على فساد التقليد، وأنه لا بد في الدِّين من الحجة حتى يصح ويثبت.

    قال العثيمين رحمه الله: "والسلطان المطلوب أولًا: أن يثبِتوا أن هذه آلهة. والثاني: أن يثبتوا أن عبادتهم لها حق، وكلا الأمرين مستحيل".

    ولهذا وصف المولى تعالى هذا الأمر بأنه افتراء عظيم، فقال تعالى: "فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا"، أي: لا أحد أظلم ممَّن افترى على الله الكذب بادِّعاء أن له شريكًا، وهو استفهام إنكاري، والمراد: أنه أظلم من غيره، وليس المساواة بينهما.


    وإلى اللقاء في الحلقة القادمة.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,443

    افتراضي رد: وقفات مع سورة الكهف



    وقفات مع سورة الكهف (6)









    كتبه/ خالد آل رحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فلا زلنا مع سورة الكهف المباركة، ونبدأ وقفاتنا اليوم بقوله تعالى: "وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوه ُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ"، أي: فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضًا بأبدانكم؛ ولأن العزلة لمَن خشي الفتنة في دينه خير من الخلطة؛ فإن الفتنة في الدين أشد مِن القتل، وذكر المولى تعالى هنا "إِلاَّ اللَّهَ"؛ لبيان أن الفتية تركوا عبادة آلهتهم وعبدوا الله وحده، واعتزلوا عبادة تلك الآلهة ولم يعتزلوا عبادة الله، وهذا دليل على وجوب البراءة من القوم الكافرين كما تكون البراءة من معبوداتهم.

    ثم توافقوا بعد ذلك على الذهاب إلى الكهف وكأنهم كانوا يعرفونه مِن قَبْل أو أنهم أعدوا ذلك مسبقًا فقالوا لبعضهم البعض: "فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِه ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا"، أي: اختفوا فيه يبسط لكم من رحمته.

    وتأمل قولهم في السابق: "رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا"؛ فالدعاء هنا كان قبل دخول الكهف، ومع ثقتهم بالله أنه سيفعل قالوا: "فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِه".

    قال السعدي رحمه الله: "ولا جرم أن اللهَ نَشَر لهم من رحمته، وهيأ لهم من أمرهم مرفقًا، فحفظ أديانهم وأبدانهم، وجعلهم آياته على خلقه، ونشر لهم من الثناء الحسن، وحتى المحل الذي ناموا فيه كان في غاية ما يمكن من الصيانة" (انتهى).

    وصار ذاك الكهف على ضيقه أفسح من قصور الأرض، وأرحب من بساتين الدنيا؛ وذلك حين انتشرت فيه رحمته تعالى، والعبرة بطاعة الله وتعلُّق القلب به لا بسعة المكان أو ضيقه.

    وقولهم: "ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا" أي: ما تنتفعون به؛ ولذلك سَخَّر الله لهم كل ما يخدمهم ويحفظهم؛ ولأن مَن فَرَّ بدينه مِن الفتن سلَّمه الله منها، وسخَّر له الكون يخدمه على غير طبيعته؛ ولذلك قال تعالى: "وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ" أي: إذا طلعت تميل، وإذا غربت تتركهم وتعدل عنهم وتتجاوزهم، وانظر إلى لطف الله بهم فلا الشمس تؤذيهم، ولا ضيق المكان يزعجهم، وكان مرقدهم في فجوة منه، والفجوة الشيء الداخل في الكهف وليس بابه مباشرة؛ لأن ذلك أحفظ لهم. وقيل: الفجوة: أي متسع مِن الكهف ينالهم برد الريح ونسيمها.

    ولما كانت هذه معجزة عقَّب تعالى بقوله: "ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا"، أي: لا سبيل إلى نيل الهداية إلا مِن الله، فهو الهدي المرشد لصالح الدارين، وأنه لا راد لأمر الله، فمن أعمى بصيرته وأضل عن الهدى قلبه لم يُفلح، ولو أعانه أهل الأرض جميعًا، ثم قال تعالى: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ".

    قال ابن كثير رحمه الله: "ذكر أهل العلم أنهم لما ضُرب على آذانهم بالنوم لم تنطبق أعينهم؛ لئلا يسرع إليها البلى، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقي لها" (انتهى).

    وهذه نعمة مِن النعم التي نشرها لهم المولى تعالى حيث حفظهم مِن أي أحدٍ يقترب منهم، أو يريد ملامستهم، وتأمل هذه النعمة العظيمة أن يلقي عليهم النوم في هذه المحنة العظيمة، فإذا كان النوم حال الأمن نعمة؛ فكيف به حال الشدة والاضطراب، فسبحان مَن له الدوام.

    وقوله تعالى: وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ"، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كانوا يُقلَّبون في السنة مرة من جنب إلى جنب؛ لئلا تأكل الأرض لحومهم"، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: "كان لهم في السنة تقلبان"، وقيل: كان تقلبهم يوم عاشوراء.

    وتأمل لماذا الله تعالى يقلِّبهم؟!

    أجاب على هذا السؤال الشيخ السعدي رحمه الله قائلًا: "الله تعالى قادر على حفظهم من الأرض من غير تقليب، ولكنه تعالى حكيم أراد أن تجري سننه في الكون ويربط الأسباب بمسبباتها" (انتهى).

    وقوله: "وكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيد" أي: جلس على بطنه وقد مدَّ ذراعيه، وقد كان الكلب على مثل حالهم في النوم وهو في رأي العين منتبه، وقد كان كلب صيد لأحدهم، وهنا لفتة قرآنية فالكلب حين ينام يستلقي على جنبه، لكنه هنا باسط ذراعيه حتى إن مَن يراه يظنه منتبهًا وليس نائمًا، وهذا من لطف الله تعالى بالفتية وزيادة في الحفاظ عليهم. والوصيد: فناء الكهف كما قال: مجاهد والضحاك، وقال عطاء: عتبة الباب، وقال السدي: الباب

    قال القرطبي رحمه الله رحمه الله: "إذا كان بعض الكلاب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبته ومخالطته الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله بذلك في كتابه، فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخالطين للأولياء والصالحين" (انتهى).


    وقوله: "لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبً" أي: يا محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: أيها الرائي لو رأيتهم لملأك الرعب من ذلك المشهد.

    قال البغوي رحمه الله: "إن الله تعالى منعهم بالرعب؛ لئلا يراهم أحد" (انتهى).

    وإلى اللقاء في المقال القادم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,443

    افتراضي رد: وقفات مع سورة الكهف



    وقفات مع سورة الكهف (7)









    كتبه/ خالد آل رحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فلا زلنا نتواصل في الحديث عن سورة الكهف ووقفتنا السابعة مع قوله تعالى: "وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ"، والبعث التحريك عن سكون، أي: كما أنمناهم قرونًا بعثناهم، وفيه لطيفة جميلة؛ لأن في الإفاقة آية على عظيم قدرة الله تعالى مثل آية الإنامة؛ ولذلك لما أفاقوا تساءلوا: لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ".

    قال المفسِّرون: لأنهم دخلوا الكهف غدوة وبعثهم الله سبحانه آخر النهار؛ ولهذا قالوا لبعضهم البعض: "لَبِثْنَا يَوْمًا"، ولما رأوا لشمس قالوا: "أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ".

    قال الزمخشري: "وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب وأن لا يكون كذبًا، وإن جاز أن يكون خطأً؛ ولهذا الأمر ولأنهم غير متيقنين بذلك أرجعوا الأمر لله تعالى، "قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ".

    قال السعدي رحمه الله: "والأدب فيمَن اشتبه عليه العلم أن يرده إلى عالمه وأن يقف عند حده".


    وعندما انتهى نقاشهم أرادوا الطعام قائلين: "فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ"، والمدينة هي طرطوس، والورق هي الفضة المضروبة.

    "فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ"، ولفظة أذكي تعني: أطيب الطعام وأحله مكسبًا، وقيل: المراد أطهر ذبيحة، وكان غالب أهل المدينة كفار يذبحون لغير الله، والرزق القوت والطعام الذي تأكلونه.

    ومع طلب الطعام لا بد من الحذر حتى لا يُكتشف أمرهم نصحوا من يذهب لشراء الطعام قائلين: وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا"، أي: يتعامل بخفية؛ لئلا يُشعر به فيؤذونه، والسبب "إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ"، أي: بالحجارة، وذلك من أشنع أنواع القتل. وقيل: يرجموكم بالشتم والقذف؛ ليس هذا فحسب، بل ربما يكون العقاب، "أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ" أي: إلى ملة الكفر التي فررتم منها ودخلتم الكهف بسببها، وهذا أشنع من الرجم والسب والقذف.

    وذلك يؤدي بكم إلى أنكم "وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا"، وها دليل على شدة إيمان الفتية ورغبتهم في الدِّين وفرارهم من كلِّ الفتن التي واجهتهم، وعدم الفلاح هنا يُقصد به عدم الفلاح في الدنيا والآخرة، ثم كانت المعجزة الخالدة.

    "وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ": أي: أطلعنا الناس عليهم، وسُمي الإعلام إعثارًا؛ لأن مَن كان غافلًا عن شيء فعثر به نظر إليه وعرفه، فكان الإعثار سببًا لحصول العلم؛ ولذلك قال تعالى: "لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا"، أي: لبعض أهل البلد بعد أن كان حصل لبعضهم الشك في حشر الأجساد؛ لأن اعتقاد اليهود والنصارى أن البعث إنما للروح فقط، فلما عثروا عليهم حصل التنازع فيهم بينهم، "إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ"، والتنازع: الجدال القوي، والمعني: تنازع أهل المدينة بينهم في شأن أهل الكهف، مثل: أكانوا نيامًا أم أمواتًا؟ أيبقون أحياء أم يموتون؟ أيبقون في ذلك الكهف أم يرجعون إلى سكنى المدينة؟ وكذلك في مدة مكثهم، فلما ماتوا تنازعوا في أمرهم، "فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ" قاله المشركون: نبني عليهم بنيانًا فإنهم أبناء آبائنا نعبد الله فيه، وعلى الجانب الآخر: "قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا" قاله: ولاة الأمر بالمدينة، وقيل: هم المسلمون. قالوا: بل نحن أحق بهم منكم نبني عليهم مسجدًا نصلي فيه ونعبد الله فيه.

    ولا بد هنا من التطرق لفائدة مهمة من هذا النقاش حيث قال ابن تيمية رحمه الله: "اعلم أن أكثر أهل القبور من الأنبياء والصالحين يكرهون ما يُفعل عند قبورهم كل الكراهة، فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن سنة ذلك المقبور وطريقته، مشتغلين بقبره عما أمر به ودعا إليه".


    وذكر ابن كثير رحمه الله أنه روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يُخفى عن الناس.

    وللحديث بقية إن شاء الله.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,443

    افتراضي رد: وقفات مع سورة الكهف

    وقفات مع سورة الكهف (8)






    كتبه/ خالد آل رحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فلا زلنا نواصل الحديث عن سورة الكهف، ووقفتنا الثامنة مع قوله تعالى: "سَيَقولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ"، وهؤلاء القائلون بأنهم ثلاثة أو خمسة أو سبعة، هم بعض المتنازعين في عددهم في زمن الرسول صلى لله عليه وسلم من أهل الكتاب والمسلمين. والأقرب للصواب أنهم سبعة بدلالة عدم إدخالهم في سلك الراجمين بالغيب.

    قال ابن القيم رحمه الله: "إن عدة أصحاب الكهف سبعة؛ لأن الله تعالى عطف عليهم الكلب بحرف الواو، فقال: (وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ)، ولم يذكر الواو فيما قبل مِن كلامهم، والواو تقتضي تقرير الجملة الأولى" (انتهى).

    قال العثيمين رحمه الله: "(رَجْمًا بِالْغَيْبِ) أي: ليس عندهم يقين، وهذا يدل على أن عددهم سبعة وثامنهم كلبهم؛ لأن الله عندما أبطل القولين الأولين وسكت عن الثالث؛ صار الثالث صوابًا" (انتهى).

    ولذلك قال تعالى: "قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ"، قال عطاء: "يعني بالقليل أهل الكتاب. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا من ذلك القليل، هم سبعة، إن الله عدهم حتى انتهى إلى السبعة"؛ ولهذا أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: "فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاء ظَاهِرًا"، والمراء هو الجدال، وإن كان فلا بد أن يكون ظاهرًا، أي: بحجةٍ واضحةٍ.

    قال العثيمين رحمه الله: "أي: في شأنهم ومكانهم ومآلهم"، وكذلك "وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا": من يهود، أي: لا تسأل يهودًا عن أمر أصحاب الكهف؛ إلا ما قد أخبرتك مِن أمرهم.

    ثم جاء العتاب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: "ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ"؛ فهذا عتاب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم عندما سُئِل من قريش فقال: "أخبركم غدًا"، فامتنع الوحي عنه، وهذا تأديب من الله تعالى لنبيه؛ فعهد إليه أن لا يجزم على ما يحدث من الأمور أنه كائن لا محالة إلا أن يصله بمشيئة الله؛ لأنه لا يكون إلا بمشيئته.

    قال الشنقيطي رحمه الله: "والمقصود بالغد ما يستقبل من الزمان لا خصوص الغد، ومن أساليب العربية إطلاق الغد على المستقبل من الزمان".

    وقوله تعالى: "وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ"؛ قال ابن الجوزي رحمه الله: "إذا نسيت الشيء؛ فاذكر الله ليذكرك إياه"، وقال ابن كثير رحمه الله: "أن تقول: إن شاء الله".

    وقال ابن عاشور رحمه الله: "وقد جمعت هذه الآية كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم من ثلاث جهات:

    الأولى: أنه أجاب سؤله؛ فبيَّن لهم ما سألوه إياه على خلاف عادة الله مع المكابرين.

    الثانية: أنه علَّمه علمًا عظيمًا من آداب النبوة، وهو (الاستثناء).

    الثالثة: أنه ما علمه ذلك إلا بعد أن أجاب سؤله استئناسًا لنفسه".

    أي: لم يعاتبه ابتداء، ولكنه أجابه أولًا.

    وقوله: "وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا" أي: إذا سئلت عن شيء لا تعلمه؛ فاسأل الله تعالى فيه، وتوجَّه إليه أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك، والرشد نوع من الهداية.

    وإلى اللقاء في الحلقة القادمة.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,443

    افتراضي رد: وقفات مع سورة الكهف



    وقفات مع سورة الكهف (9)









    كتبه/ خالد آل رحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فنواصل الحديث عن وقفاتنا مع سورة الكهف؛ قال الله تعالى: "وَلَبِثوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا"، أي: مكثوا ثلاثمائة سنة شمسية وازدادوا تسعًا بالهلالية؛ فإن تفاوت كل مائة سنة قمرية إلى الشمسية ثلاث سنوات؛ ولهذا قال تعالى: "وَازْدَادُوا تِسْعًا"، ولما سألوه أيامًا أو شهورًا أو سنين، قال تعالى: "سِنِينَ".

    ولما قالت نصارى نجران: أما الثلاثمائة؛ فقد عرفنا، وأما التسع فلا علم لنا بها، فنزلت: "قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ"، فرد قول أهل الكتاب وذكر تعالى قوله: "أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ"؛ لأنهما مناط العلم السمع والبصر.

    قال الطبري رحمه الله: "وذلك بمعنى المبالغة في المدح كأنه قيل: ما أبصره وما أسمعه" (انتهى)، أي: يستوي في علمه الغائب والحاضر، والخفي والظاهر، والصغير والكبير، فما أبصر الله لكل موجود وأسمعه لكل مسموع لا يخفى عليه من ذلك شيء؛ ولذلك عقَّب تعالى بقوله: "مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ"، وقيل: الضمير عائد لأهل السموات والأرض. وقيل: لأهل الكهف. وقيل: لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار.

    قال السعدي رحمه الله: "أخبر عن انفراده بالولاية العامة والخاصة؛ فهو الولي الذي يتولى تدبير جميع الكون الولي لعباده المؤمنين يخرجهم من الظلمات إلى النور، وييسرهم لليسرى ويجنبهم العسرى" (انتهى)؛ ولذلك "وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا"، وهذا شامل لكل ما يقتضيه جل وعلا، ويدخل في ذلك التشريع دخولًا أوليًّا، ولا يدخل في ذلك أحد يستشيره أو يستأمره، ولا يشرك في علم غيبه أحدًا، ثم جاء الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم: "وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ"، أي: على وجه الملازمة والاتباع والاستمرار، ولأن الكفار كانوا يقولون له: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، فكان الجواب الواضح: "لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ"، أي: لا مغيِّر لما أوعد بكلماته التي أنزلها عليك أهل معاصيه، والعاملين بخلاف هذا الكتاب الذي أوحينا إليك، وانتبه: "وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا" أي: ملجأ أو موئلًا. وقيل: أحد تميل إليه.

    "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم" أي: احبسها وثبتها في تلاوته وبيان معانيه. وقيل: نزلت في فقراء المهاجرين كعمار، وصهيب، وبلال، وابن مسعود، ونحوهم؛ لما أراد صناديد قريش من النبي صلى الله عليه وسلم أن يطردهم عنه ويجالسهم بدون حضور أولئك الفقراء المؤمنين؛ لأن هؤلاء "يَدْعُونَ رَبَّهُم ِبالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ"، فهم يدعون ربهم أول النهار وآخره لا يريدون به عرضًا من عرض الدنيا، وفيها إثبات الوجه له تعالى وأمره تعالى بأن "وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" أي: لا تجاوزهم إلى غيرهم، وكأنه يؤمر بأن تكون عينيه ثابتتان في الرنو إليهم.

    وقيل: أي: لا تتجاوزهم عيناك، وتنبو عن رثاثة زيهم محتقرًا لهم طامحًا إلى أهل الغنى والجاه والشرف بدلًا منهم، "وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ"، وانظر إلى بلاغة التعبير القرآني فلم يقل: لا تطع من أسكتنا لسانه، بل قال: "أغفلنا قلبه"، وفيها نهي عن الالتفات للغافلين.


    ولأن اللسان قد يكون ذاكرًا، لكن القلب يكون غافلًا؛ فلا يستفيد من ذلك شيئًا، وإذا كان القلب غافلًا فلا سبيل له؛ إلا أن يُقاد عن طريق هواه؛ ولذلك عقب بقوله: "وَاتَّبَعَ هَوَاهُ"، "وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا"؛ لأن مَن غفل قلبه عن ذكر الله، واتبع هواه وخالف الحق ضائع هالك لا محالة، ويُستفاد من هذه الآية: "عدم طاعة من جُمعت فيه هذه الصفات من الغفلة واتباع الهوى ومخالفة الحق".

    وإلى اللقاء في الحلقة القادمة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,443

    افتراضي رد: وقفات مع سورة الكهف

    مشاهد وعبر من سورة الكهف (10)
    - قـصـة صاحب الجنتين (4)
    المشهد الثاني: حقائق الكون وأهوال يوم القيامة




    قصة صاحب الجنتين هي إحدى قصص سورة الكهف؛ حيث يبين لنا ربنا -سبحانه وتعالى- فيها الصراع بين الحق والباطل، وطرفا الصراع هنا رجلان: أحدهما كافر: وهو الذي نعته القرآن بـ(صاحب الجنتين)، والطرف الآخر: مؤمن، وهو الذي يمثِّل جانب الحق، والخير والصلاح، وقد احتوت هذه القصة على ثلاثة مشاهد، المشهد الأول: العطية الإلهية والحوار الكاشف، والمشهد الثاني: البوار الكامل، واليوم نتكلم عن المشهد الثالث: حقائق الكون وأهوال يوم القيامة.

    رسائل مِن قلب المشهد

    لما كانت الفتنة الأساسية التي قامت عليها قصة صاحب الجنتين هي فتنة التعلق بالدنيا، كان مِن المناسب أن يعرض القرآن حقيقة الدنيا مقارنةً بمشاهد يوم القيامة، وهو اليوم الذي تتضح فيه الحقائق، وتتكشف فيه الأسرار، فكما أعرض صاحب الجنتين عن سماع الحق واتبع هواه، ثم ندم وتحسر بعد أن أهلك الله له بستانه وثمره، كذلك يفعل المجرمون والكافرون يوم القيامة، فإنهم يعضون أناملهم من الغيظ ويتحسرون على فوات الطاعة، ولكنه ندم لا يفيد؛ لأنه بعد فوات الأوان، وكأنَّ القرآن ضرب لنا مثل صاحب الجنتين ثم انتقل بنا إلى مشهد ندم الكافرين يوم القيامة؛ لكي يحذرنا مِن أن يؤول بنا الحال إلى هذا المصير.

    (1) الحياة الذابلة

    قال الله -تعالى-: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}، قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: «يقول -تعالى- لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أصلًا، ولمَن قام بوراثته بعده تبعًا: اضرب للناس مثل الحياة الدنيا ليتصوروها حق التصور، ويعرفوا ظاهرها وباطنها، فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية، ويؤثروا أيهما أولى بالإيثار.

    وأن مثل هذه الحياة الدنيا، كمثل المطر ينزل على الأرض، فيختلط نباتها، تنبت من كل زوج بهيج، فبينا زهرتها وزخرفها تسر الناظرين، وتفرح المتفرجين، وتأخذ بعيون الغافلين، إذ أصبحت هشيمًا تذروه الرياح، فذهب ذلك النبات الناضر، والزهر الزاهر، والمنظر البهي، فأصبحت الأرض غبراء ترابًا، قد انحرف عنها النظر، وصدف عنها البصر، وأوحشت القلب.

    كذلك هذه الدنيا، بينما صاحبها قد أعجب بشبابه، وفاق فيها على أقرانه وأترابه، وحصل درهمها ودينارها، واقتطف من لذته أزهارها، وخاض في الشهوات في جميع أوقاته، وظن أنه لا يزال فيها سائر أيامه؛ إذ أصابه الموت أو التلف لماله، فذهب عنه سروره، وزالت لذته وحبوره، واستوحش قلبه من الآلام وفارق شبابه وقوته وماله، وانفرد بصالح، أو سيئ أعماله.

    يوم يعض الظالم على يديه

    هنالك يعض الظالم على يديه، حين يعلم حقيقة ما هو عليه، ويتمنى العود إلى الدنيا، لا ليستكمل الشهوات، بل ليستدرك ما فرَّط منه من الغفلات، بالتوبة والأعمال الصالحات، فالعاقل الجازم الموفق يعرض على نفسه هذه الحال، ويقول لنفسه: قدّري أنك قد مت، ولا بد أن تموتي؛ فأي: الحالين تختارين: الاغترار بزخرف هذه الدار، والتمتع بها كتمتع الأنعام السارحة، أم العمل لدار أكلها دائم وظلها، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين؟! فبهذا يُعرف توفيق العبد مِن خذلانه، وربحه من خسرانه».

    مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

    وهذه الآية نظير قول الله -تعالى-: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس:24).

    درس بليغ في مقاومة الغرور وطول الأمل

    قال القرطبي -رحمه الله-: «قالت الحكماء: إنما شبَّه -تعالى- الدنيا بالماء؛ لأن الماء لا يستقر في موضع، كذلك الدنيا لا تبقى على واحدٍ؛ ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة كذلك الدنيا؛ ولأن الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى؛ ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل، كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها؛ ولأن الماء إذا كان بقَدَرٍ كان نافعًا منبتًا، وإذا جاوز المقدار كان ضارًّا مهلكًا، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع، وفضولها يضر»، وهذا درس بليغ في مقاومة الغرور وطول الأمل، والركون إلى زينة الدنيا الظاهرة، فإن الأمور سرعان ما تتبدل وتنقلب من حالٍ إلى حالٍ، فالله هو الذي بيده مقادير الخلائق، وهو القدير الذي لا يعجزه أحد، فلا تغتر بكثرة مال فقد يذهب المال، ولا بكثرة أنصار فقد ينصرفون عنك، ولا بالجاه والسلطان، فقد تتبدل المواقع، ويصير المحكوم حاكمًا، والحاكم مسجونًا، والقصص في تبدُّل حال الدنيا وتنكرها لأهلها كثيرة ومؤلمة، فإياك أن تكون واحدًا من هؤلاء الضحايا، بل علِّق قلبك بالله وثق به، واحتمِ بجنابه؛ يحفظك الله مِن فتن الدنيا، وسوء عواقبها».

    (2) المتاع الزائل والأمل الباقي

    قال الله -تعالى-: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}، اختصرت الآية السابقة الحياة بكل ما فيها مِن زينةٍ وزخرفٍ في جملةٍ واحدةٍ، وفي خطواتٍ سريعةٍ متلاحقةٍ: «كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ» ف»اخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ» ف «أَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ»؛ هذه هي صورة الحياة، يعرضها القرآن بهذا الاختزال، وهذا الاختصار ليكشف عن جوهرها وحقيقتها، فكما ينزل الماء فينبت الزرع ثم لا يلبث أن يبور ويهلك، كذلك الإنسان يولد ثم يعيش حياة قصيرة ثم يموت.

    فتن الحياة وملذاتها

    ولكن في الحياة فتن وملاذ تتزين للناظرين، وتتزخرف في أعين المغترّين، فأخبرنا -تعالى- أنَّ المال والأولاد زينة الحياة الدنيا، وأنَّ الذي يبقى للإنسان وينفعه ويسره في آخرته هو الباقيات الصالحات، وهذا يشمل الطاعات الواجبة والمستحبة جميعها من حقوق الله، وحقوق عباده، مِن: صلاة، وزكاة، وصدقة، وحج، وعمرة، وتسبيح، وتحميد، وتهليل، وتكبير، وقراءة، وطلب علم نافع، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وصلة رحم، وبر والدين، وجميع وجوه الإحسان إلى الخلق، كما قال -عز وجل- في موضع آخر: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} (مريم:76).


    الإسلام يعطي المتعة القيمة التي تستحقها

    مع أنَّ الإسلام لا ينهى عن الزينة الحلال، ولا يمنع مِن المتع الطيبة المباحة، ولكنه يعطيها القيمة التي تستحقها؛ فلا يسمح الإسلام لأتباعه أن تختل لديهم الموازين، أو أن يضطرب في حسهم ترتيب الأولويات، فتصبح الزينة والمتاع هي معيار التقييم والتفاضل بين الناس، أو أن يحتل الانشغال بالدنيا المرتبة المتقدمة على غيرها من واجبات الدين، أو أن يصبح اللهو -مع كونه مباحًا- أصلًا وركيزةً يُنفق عليها الإنسان وقته أو ماله أو جهده، فكل هذه انحرافات عن القاعدة القرآنية المحكمة: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}.

    الرد على المشركين

    والآية ترد على المشركين الذين ظنوا أن في استكثارهم من الأموال والأولاد في الدنيا نجاة لهم من عذاب يوم القيامة، وهذه هي النظرة المادية التي تحكم معتقدات الكفار في كل زمان ومكان، فجاء القرآن ليصحح هذه النظرة المنحرفة وليقول لهم: إن كل هذه المظاهر التي يتفاخرون بها إنما هي زينة دنيوية لا علاقة لها بالميزان الأخروي، فالميزان عند الله هو ميزان الأعمال الصالحات، وهذا هو الأمل الحقيقي الذي يجب على العباد أن يعلِّقوا قلوبهم به، أما غير ذلك فهي آمال زائلة، لا تستقر ولا تدوم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,443

    افتراضي رد: وقفات مع سورة الكهف

    وقفات مع سورة الكهف (10)









    كتبه/ خالد آل رحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فنواصل الحديث عن سورة الكهف، ونبدأ بقوله تعالى: (*وَقُلِ *الْحَقُّ *مِنْ *رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) (الكهف: 29).

    فقوله تعالى: (*وَقُلِ *الْحَقُّ *مِنْ *رَبِّكُمْ) أي: قل لهم ولغيرهم؛ لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا: أيها الناس، الحق من ربكم، ومنه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضلال، ولست بطارد المؤمنين لهواكم؛ فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا؛ ولذلك قال تعالى (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)، وهذا على سبيل التهديد وليس على سبيل الاختيار، ولتعلموا: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا) أي: هيئنا بما لنا من العظمة تهيئة قريبة جدًّا، وأحضرنا على وجه ضخم شديد تام التقدير. ولفظ: (أَعْتَدْنَا) يلقي ظل السرعة والتهيؤ والاستعداد، والأخذ المباشر إلى النار المعدة المهيئة للاستقبال.

    قال ابن عاشور رحمه الله: "وتنوين (نَارًا) للتهويل والتعظيم" (انتهى).

    ثم شرع المولى تعالى في وصف تلك النار المُعدة سلفًا، فقال: (أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) أي: حائطها الذي يُدار حولها كما يُدار حول الخيمة من جميع الجوانب؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "حائط من نار". وقال السعدي رحمه الله: "سورها المحيط بها؛ فليس لهم منفذ ولا طريق، ولا مخلص منها" (انتهى).

    وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سُرادق النار أربعة جدران كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة"، وبعد ذلك شرع المولى تعالى في ذكر شرابهم، فقال: (وَإِن يَسْتَغِيثُوا) أي: مِن حر النار، فيطلبوا الغيث، وهو ماء المطر والغوث بإحضاره لهم، (يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ)، فهم يغاثون، ولكن ليس بماء مثل الذي يحيي الأرض بعد صيرورتها جرزًا، بل هو (كَالْمُهْلِ)، وهو القطران الرقيق، وما ذاب من صفر أو حديد، أو الزيت أو درديه. وقيل: هو كل ما أُذيب بالنار من معادن الأرض من حديد ورصاص ونحاس. وقيل: هو عكر الزيت. قال الضحاك: "ماء جهنم أسود، وهي سوداء وشجرها أسود، وأهلها سود" (انتهى).

    ولتبيكتهم سُمي أعلى أنواع العذاب إغاثة، والإغاثة هي الإنقاذ من العذاب، وهذا الماء (يَشْوِي الْوُجُوهَ) أي: إذا قرب من الفم؛ فكيف بالفم أو الجوف؟!

    قال ابن كثير رحمه الله: "من حره إذا أراد الكافر أن يشربه وقرَّبه من وجهه شواه حتى تسقط جلدة وجهه فيه!" (انتهى)؛ ولذلك عقب تعالى بقوله: (بِئْسَ الشَّرَابُ)؛ لأنه أسود منتن غليظ حار وعطف عليه ذم النار المعدة لهم، فقال تعالى: (وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) قال ابن عباس رضي الله عنهما: منزلًا. وقال مجاهد: مجتمعًا، وقال عطاء: مقرًّا. وقال القتيبي: مجلسًا.

    قال ابن عاشور رحمه الله: "وأصل المرتفق: المتكأ، وشأن المرتفق أن يكون مكان استراحة؛ فإطلاق ذلك على النار تهكم" (انتهى).

    ومن خلال هذه الآيات، أعلم تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم ثلاث حقائق كبرى، لها أثر عظيم في حياة البشرية على مدار التاريخ:

    الأولى: أن الحق الذي لا باطل فيه هو الذي جاء من عند الله، (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ).

    الثانية: أن الإنسان له كامل الحرية في اختيار الدين، (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ).

    الثالثة: أن الإنسان الذي يختار الكفر بإرادته؛ عليه أن يتحمل عاقبة كفره، (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا).

    وإلى لقاء في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,443

    افتراضي رد: وقفات مع سورة الكهف

    وقفات مع سورة الكهف (11)






    كتبه/ خالد آل رحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فلما كان الحديث عن تذكير الناس بأن الحق هو من الله تعالى لا غيره، وتم إخبارهم بأن لهم الاختيار إما الإيمان أو الكفر على سبيل التهديد، وأنه ينبغي لمن اختار الكفر أن يتحمَّل عاقبته، وهو ما تحدثنا عنه في الحلقة الماضية، كذلك لمَن آمن جزاءً عظيمًا، وهو محور حديثنا، قال تعالى: (*إِنَّ *الَّذِينَ *آمَنُوا *وَعَمِلُوا *الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ *أَجْرَ *مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) (الكهف: 30).

    ولما كان الإيمان هو الإذعان للأوامر عطف عليه ما يحقق ذلك، فقال: (وَعَمِلُوا)، والإيمان في معتقد أهل السنة والجماعة قول وعمل؛ قول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان، وأعلمهم تعالى أنه لا يضيع ذلك فقال: (إِنَّا لَا نُضِيعُ *أَجْرَ *مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)، أي: لا نترك أعماله تذهب ضياعًا، بل نجازيه عليه بالثواب، وكذلك قال تعالى للمؤمنين عند تحويل القبلة: (*وَمَا *كَانَ *اللَّهُ *لِيُضِيعَ *إِيمَانَكُمْ) (البقرة: 143)، ثم شرع تعالى في ذكر الثواب فقال: (أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) (الكهف: 31).

    قال ابن عاشور رحمه الله: "( لَهُمْ): اللام لام الملك" (انتهى).

    وعدن تعني الإقامة، فيُقال: عدن فلان بالمكان إذا أقام به، وسُمِّيت عدنًا لإقامة المؤمنين وخلودهم فيها.

    وقيل: أي: إقامة لا رحيل بعدها ولا تحول. ومكانها: قيل: إنها سرة الجنة، أي: وسطها، وسائر الجنان محدقة بها. وذُكِرَت بلفظ الجمع؛ لسعتها؛ لأن كلَّ بقعة منها تصلح أن تكون جنة.

    ثم انتقل تعالى لوصفها فقال جل وعلا: (تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ)، قال ابن كثير رحمه الله: "أي: مِن تحت غرفهم ومنازلهم"، وكذلك قال البقاعي رحمه الله. وقال الطبري رحمه الله: "تجري من دونهم ومن أيديهم الأنهار" (انتهى). والأنهار: جمع نهر، وهي أربعة ذكرها تعالى في سورة محمد، فقال جل وعلا: (مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى) (محمد:15).

    ثم انتقل تعالى للحديث عن حليهم، فقال تعالى: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ)، والتحلية تكون للرجال والنساء، ومعناها: التزيين، والحلية: الزينة.

    قال ابن عاشور رحمه الله: "وأسند الفعل للمجهول (يُحَلَّوْن)؛ لأنهم يجدون أنفسهم محلين من الله تعالى" (انتهى).

    ولما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور في اليد والتيجان على الرؤوس جعل الله ذلك لأهل الجنة.

    قال سعيد بن جبير رحمه الله: "يحلى كل واحد منهم بثلاث من الأساور، واحد من فضة، وواحد من ذهب، وواحد من لؤلؤ ويواقيت" (انتهى).

    ثم انتقل الحديث عن لباسهم، فقال تعالى: (وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ)؛ ولماذا خضرًا؟ قال العثيمين رحمه لله: "واللون الأخضر أشد ما يكون راحة للعين؛ ففيه جمال، وفيه راحة للعين" (انتهى).

    والسندس رقيق الديباج والاستبرق ثخينه، وهو من الحرير، ثم ذكر تعالى جلستهم: مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ"، والاتكاء جلسة الراحة والترف، والأرائك: جمع أريكة، وهي: اسم لمجموع سرير وحجلة، والحجلة هي قبة مِن ثياب تكون في البيت تجلس فيها المرأة أو تنام فيها.

    وقال السعدي رحمه الله: "هي السرر المزينة المجملة بالثياب الفاخرة، فإنها لا تسمى أريكة حتى تكون كذلك" (انتهى).

    وقال الشوكاني رحمه الله: "هي أسرة من ذهب مكللة بالدر والياقوت" (انتهى).

    هذا جزء من نعيم أهل الجنة، قال فيه تعالى: (نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) أي: مجلسًا؛ فكيف بباقي نعيم الجنة؟! نسأل الله من فضلة.

    وتأمل هنا ختامه بهذه الآية في الحديث عن أهل الجنة: (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا)، ولما تحدَّث عن أهل النار، قال: (وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا).

    وإلى اللقاء في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,443

    افتراضي رد: وقفات مع سورة الكهف



    وقفات مع سورة الكهف (12)









    كتبه/ خالد آل رحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فنتابع الحديث عن سورة الكهف والتي انتقل فيها المولى تبارك وتعالى إلى ضرب الأمثال، فقال تعالى: (*وَاضْرِبْ *لَهُمْ *مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَ ا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا. كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا. وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا. وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا. وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا. قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا. لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا. وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا. فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا. أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا. وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا. وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا) (الكهف: 32-43).

    قال البقاعي رحمه الله: "كشف تعالى بضرب المثل أن ما فيه الكفار من الارتفاق العاجل ليس أهلًا لأن يُفتخر به؛ لأنه إلى زوال، (وَاضْرِب لَهُم) أي: لهؤلاء الضعفاء المتجبرين الذين يستكبرون على المؤمنين، ويطلبون طردهم لضعفهم وفقرهم".

    ومِن أغمض علوم القرآن -كما ذكر العلماء-: عِلْم الأمثال، والناس في غفلة عنه. وكان المثل: (رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَ ا بِنَخْلٍ) قيل: كانا أخوين من بني إسرائيل أحدهما مؤمن والآخر كافر. وقيل: هما أخوان من بني مخزوم من أهل مكة. ولم يعيِّن الله تعالى الرجلين؛ لأنه ليس هناك أهمية لذلك.

    قال السعدي رحمه الله: "أي: هاتان الجنتان حففناهما بأشرف الأشجار (العنب والنخل)، فالعنب في وسطها والنخل قد حف بذلك ودار به".

    وقال ابن عاشور رحمه الله: "ومن محاسن الجنات أن تكون محاطة بالأشجار المثمرة".

    والحف: الإحاطة بالشيء.

    ثم قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا)؛ لئلا يتوهم أن الانتفاع قاصر على النخيل والأعناب. (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) أي: لم تنقص من أكلها على خلاف ما يُعهد في سائر البساتين، ونسب الظلم لصاحبها؛ لأنه كان متكبرًا. (وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا) أي: أجرينا وشققنا وسط الجنتين نهرًا ليسقيهما دائمًا من غير انقطاع.

    قال العثيمين رحمه الله: "كان خلال الجنتين نهر من الماء يجري بقوة، فكانت في الجنتين كل مقومات الحياة من أعناب ونخيل وزرع، ثم بينهما هذا النهر المطَّرِد".

    ثم ينتقل الحديث عن تفصيل ما في الجنتين؛ قال تعالى: (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ) أي: لذلك الرجل ثمر عظيم، وقد استكملت جنتاه ثمارها ولم تعرض لها آفة أو نقص؛ فإن قيل: ما الفائدة من ذكر الثمر بعد ذكر الجنتين وقد عُلم أن صاحب الجنة لا يخلو من ثمر؟

    قال ابن الجوزي رحمه الله: "فيه ثلاثة أجوبة: الأول: أنه لم يكن أصل الأرض ملكًا له، وإنما كانت له الثمار، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما. الثاني: أن ذكر الثمار دليل على كثرة ما يملك من الثمار في الجنتين وغيرها، وهذا قول ابن الأنباري. الثالث: أن المراد بالثمر الأموال من الأنواع، وأنها الذهب والفضة".

    وقوله تعالى: (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ): المراد بالصاحب المعنى اللغوي، فلا ينافي القول بأنهما كانا أخوين، والمحاورة مراجعة الكلام بين المتكلمين. وقوله: (أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا): قال قتادة: خدمًا وحشمًا وولدًا. والعزة ضد الذل، وهي: عدد عشيرة الرجل وشجاعته، والنفر: عشيرة الرجل الذين ينفرون معه، وأراد هنا بهم الولد. قال قتادة: "والله هذه أمنية الفاجر: كثرة المال وعزة النَّفَرِ".

    وقوله تعالى: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ): أفرد الجنة هنا؛ لأن الدخول إنما يكون لإحداهما قبل أن ينتقل منها للأخرى. وقيل: أخذ بيد أخيه فأدخله جنته يطوف به فيها ويريه عجائبها. (وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ) أي: وهو مشرك مكذب بالبعث، بطر بنعمة الله تعالى.

    قال الكافر مقالات شنيعة، وهي: قوله: (أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا)، وعندما دخل جنته متكبرًا مزهوًا ظالمًا لنفسه، قال -وقد ذبحه الغرور-: (مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا) ثم أتبع بقوله: (وَمَا أ َظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً)؛ أنكر فناء الدنيا وفناء جنته، وأنكر البعث والجزاء، بل وسخر من صاحبه بقوله: (ولَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا) أي: كما تزعم أنت؛ إن كان البعث حقًّا سيعطيني خيرًا منها، كما أعطاني في هذه الدنيا. والمنقلب المكان الذي ينقلب إليه، أي: يرجع إليه.

    وهذا ما قاله العاص بن وائل لخباب بن الأرت رضي الله عنه لما أخذ ماله: "ليكونن لي مال -أي: في الآخرة- فأقضيك دينك منه!"، فنزلت فيه هذه الآية: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ *مَالًا *وَوَلَدًا) (مريم: 77).


    قال ابن القيم رحمه الله: "مَن ظن بالله أنه يُنال ما عنده بمعصيته ومخالفته كما يُنال بطاعته والتقرب إليه؛ فقد ظن به خلاف حكمته".

    وكان الرد من صاحبه المؤمن الواثق بربه: (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا)، يعني: خلق أباك آدم ثم من نطفة خلقك.

    قال الشوكاني رحمه الله: "أي: صيرك ذكرًا وعدَّل أعضاءك وكملك، وفي هذا تلويح على البعث، وأن القادر على الابتداء قادر على الإعادة".

    وللحديث بقية إن شاء الله.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,443

    افتراضي رد: وقفات مع سورة الكهف

    وقفات مع سورة الكهف (13)









    كتبه/ خالد آل رحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فنتابع الحديث عن سورة الكهف والتي انتقل فيها المولى -تعالى- إلى ضرب الأمثال، فقال: (*وَاضْرِبْ *لَهُمْ *مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَ ا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا . كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا . وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا . وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا . وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا . قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا . لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا . وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا . فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا . أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا . وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا . وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا) (الكهف: 32-43).

    وكنا توقفنا في المقال السابق عند تنبيه المؤمن الموحِّد لصاحبه بقوله: (لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا)، أي: لا أرى الغني والفقر إلا منه، وأنت لمَّا اعتمدت على مالك كنت مشركًا به، وقد كفر قبل ذلك بإنكار البعث والقيامة.

    ثم شرع في نصحه قائلًا له: (وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ).

    قال ابن عاشور: "ولولا للتوبيخ".

    وذكر ابن كثير عن بعض السلف قولهم: "إن مَن أعجبه شيء من ماله أو ولده؛ فليقل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله".

    (إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالا وَوَلَدًا)؛ لأن ما عند الله خير وأبقى، (فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ)؛ لأن جنتك معرَّضة للهلاك من قِبَل الله -لكفرك به- بأنواع من العقوبات، منها: (وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء) أي: عذابًا ترمى به، فتؤول إلى أرض زلقة لا تثبت عليها قَدَم.

    وقال ابن كثير: "والظاهر أنه مطر عظيم مزعج يقلع زرعها وأشجارها".

    وقال ابن عثيمين: "وخص السماء؛ لأن ما جاء من الأرض قد يُدافع، لكن ما نزل من السماء يصعب دفعه أو يتعذر".

    وقال البقاعي: "ولما كانت المصابحة بالمصيبة أنكى، قال -تعالى-: (فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا)".

    وقال مجاهد: "رملًا هائلًا. وقيل: ترابًا أملس لا ينبت زرعًا، ولا تثبت عليه قَدَم.

    قال ابن قتيبة: "الأملس المستوي، والزلق الذي تذل عنه الأقدام".

    ثم انتقل للحديث عن عقوبة أخرى: (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا) أي: غائرًا في الأرض لا يُستطاع الوصول إليه بالمعاول، ولا بغيرها، ثم جاءت عقوبة أخرى: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) أوقعت الإحاطة بالهلاك، والإحاطة الأخذ من كل جانب، مأخوذ من إحاطة العدو بالقوم إذا غزاهم .

    وهنا فائدة مهمة: أن إحاطة العذاب به لا لمجرد الكفر؛ لأن الله قد يمتع كافرين كثيرين طوال حياتهم، ويملي لهم ويستدرجهم، وإنما أحاط به هذا العقاب؛ جزاءً على طغيانه، وجعله ثروته وماله وسيلة إلى احتقار المؤمن الفقير!

    فكانت النتيجة: (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ).

    قال ابن كثير عن قتادة: "يصفق كفيه متأسفًا متلهفًا على الأموال التي أذهبها عليه"، (عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا): هذا يدل على أنه أنفق فيها شيئًا كثيرًا، فصارت (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) هامدة على عروشها، والعرش هو ما يوضع لتتمدد عليه أغصان الأعناب، وغيرها، وهنا أدركه الندم حين لا ينفع ندم، (وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا) تمنيًا لاعتماده على الله من غير إشراك.


    (وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ) أي: لم يكن له عشيرة أو ولد ينصره، كما افتخر بهم ولو نصروا، (وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا)، فلن يستطيع الامتناع عن عذاب الله؛ لأن (هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) أي: في مثل هذه الشدائد العظيمة النصرة والسلطان لله الذي له الكمال كله الحق الثابت الذي لا يحول يومًا ولا يزول، ولا يغفل ساعة ولا ينام، ولا ولاية لغيره بوجه، ولذلك قال: (هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا) فالأعمال التي تكون لله -عز وجل- ثوابها خير، وعاقبتها حميدة رشيدة، وكلها خير.

    وإلى لقاء في حلقة قادمة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •