الدَّين همٌ بالليل ومذلة بالنهار









كتبه/ ماهر السيد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن الله -تعالى- قد قسم بين العباد أرزاقهم: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَه َا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)(هود:6).

وقد جعلهم ربنا -تبارك وتعالى- متفاوتين في ذلك تفاوتًا له فيه الحكمة البالغة، والآيات الباهرة: (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)(الإسراء:30)، وكما في قوله -تعالى-: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)(الزخرف:32).

ومن رحمة الله -تعالى- بالعبد أن يرزقه القناعة والرضا، وأن يوفقه لتدبير معيشته والاستغناء عن مد يده لغيره، وهذا من المنجيات كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاث منجياتٌ: خشية الله تعالى في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغني، وثلاث مهلكات: هوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه) رواه الطبراني والبيهقي وأبو الشيخ، وحسنه الألباني. فعد منها: (القصد في الغنى والفقر).

لكن بعض الناس لا يقنع، وبعضهم لا يحسن تدبير معيشته وفق ما رزقه الله من مال؛ فينفق أكثر مما يأتيه، فيلجأ إلى الدَّين بسب سوء تدبيره، وهو في غمرة الحياة غافل عن الآثار الوخيمة للدين.

النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعوذ بالله من الدَّين:

لأن الدَّين حمل ثقيل، وهم عظيم؛ فقد استعاذ منه خير البرية -صلى الله عليه وسلم- حين دعا بهذا الدعاء الجامع: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ -شدته-وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ) متفق عليه.

إن أدلة الشرع المطهر لتدل على خطورة أمر الاستدانة، فها هو الشهيد الذي يغفر له عند أول قطرة من دمه، ويؤمَّن من عذاب القبر وفتنة القبر، ويشفع في سبعين من أهله، وروحه في حواصل طير خضر في الجنة تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، يغفر له كل شيء إلا الدَّين، كما جاءت بذلك السنة الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلاَّ الدَّيْنَ) رواه مسلم.

وفيما رواه مسلم أيضا أن رجلا قال: (أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّى خَطَايَايَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: نَعَمْ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ إِلاَّ الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ لِي ذَلِكَ).

ومما يدل على خطورة الدين على من تساهل فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أتي بجنازة وعلى صاحبها دين لم يصلِ عليه حتى تقضى عنه ديونه أو يتحملها أحد الأحياء، فلما فتح الله عليه وجاءه المال كان يقضي عن موتى المسلمين.

وينبغي أن يـُعلم أن التأخر في سداد الدين عن الميت يعد بلاء عليه؛ فقد روى جابر -رضي الله عنه- قال: (توُفِّىَ رَجُلٌ فَغَسَّلْنَاهُ وَحَنَّطْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ ثُمَّ أَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّى عَلَيْهِ فَقُلْنَا تُصَلِّى عَلَيْهِ. فَخَطَا خُطًى ثُمَّ قَالَ: أَعَلَيْهِ دَيْنٌ. قُلْنَا: دِينَارَانِ. فَانْصَرَفَ فَتَحَمَّلَهُمَ ا أَبُو قَتَادَةَ فَأَتَيْنَاهُ فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: الدِّينَارَانِ عَلَىَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: أُحِقَّ الْغَرِيمُ وَبَرِئَ مِنْهُمَا الْمَيِّتُ. قَالَ: نَعَمْ. فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ: مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ. فَقَالَ إِنَّمَا مَاتَ أَمْسِ. قَالَ َفعَادَ إِلَيْهِ مِنَ الْغَدِ فَقَالَ قَدْ قَضَيْتُهُمَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: الآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدُهُ) رواه أحمد، وصححه الألباني. أي: الآن برد جلد ذلك الميت بسبب كونه مرهونًا بالدين قبل ذلك.

تدبير المعيشة خير من الاستدانة:

إن العاقل اللبيب لهو الذي يستعين الله -تعالى- على أموره كلها ولا يلجأ إلى الدَّيْن ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وقد أمر الله عباده أن يراعوا في نفقاتهم ما يرزقهم الله -تعالى- إياه: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً)(الطلاق:7)، فهذا أمر من الله -تعالى- بالإنفاق على قدر الرزق، ووعدٌ منه -سبحانه- للفقير باليُسر بعد العسر إذا أنفق على قدر رزقه، وهو وعد حق؛ لأن من أنفق على قدر رزقه ولم يستدِن ليجاري الأغنياء فإنه سيستغني؛ لأن تدبيره نفقتَه وعدم استدانته تؤول به إلى غناه بكسبه، فينفقه على نفسه وعياله، لا لسداد دينه فيبقى معسرا.

أنزل حاجتك بالله وخذ بالأسباب:

إن العبد المؤمن ينزل حاجته بربه فيعلن لله -تعالى- الفقر والحاجة مع يقينه بغنى ربه وجوده وكرمه وسعة فضله، وهو في نفس الوقت يأخذ بأسباب الكسب الحلال الطيب: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)(الملك:15).

إذا ابتليت بالدين فبادر بالقضاء:

ينبغي على العبد إذا ابتلي بالحاجة فاستدان أن يجتهد في قضاء دينه سريعًا حتى تبرأ ذمته، ويلقى ربه خاليا من الديون، وإذا كان العبد عند استدانته ينوي الخير ويعزم على السداد فإن الله -تعالى- سيوفقه لذلك، أما من يريد أكل أموال الناس بالباطل والمماطلة فإن عاقبته أليمة في الدنيا والآخرة، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ) رواه البخاري.

وعن ميمونة -رضي الله عنها- قالت: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ أَحَدٍ يَدَّانُ دَيْنًا فَعَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يُرِيدُ قَضَاءَهُ إِلاَّ أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا) رواه النسائي، وصححه الألباني.

والله -عز وجل- يقول: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)(البقرة:188)، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ) رواه مسلم.

فنظرة إلى ميسرة:

وعلى الجانب الآخر فإننا نوجِّه دعوة لمن وسَّع الله عليهم أن يتصدقوا ويوسعوا على عباد الله مستحضرين أنه: (مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ) رواه مسلم، وإذا أنزل بهم فقير أو محتاج حاجته أن يكونوا عونًا له عليها، وإذا لم تـَجُد نفوس بعض الأغنياء بالصدقة فلا أقل من أن يقرضوا من احتاج وأن يصبروا عليه إذا أعسر، لقوله -تعالى-: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة:280).

وليعلم إخواننا الأغنياء أنهم بصبرهم على المدين المعسر ينالون أجرًا عظيمًا كما دل عليه ما رواه أحمد -رحمه الله- عن بريدة -رضي الله عنه- قال: (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلُهُ صَدَقَةٌ. قَالَ: ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ. قُلْتُ: سَمِعْتُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَقُولُ: مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلُهُ صَدَقَةٌ. ثُمَّ سَمِعْتُكَ تَقُولُ: مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ. قَالَ: لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ) رواه أحمد، وصححه الألباني.

وروى مسلم -رحمه الله- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ).

وعن أبي قتادة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ غَرِيمِهِ أَوْ مَحَا عَنْهُ كَانَ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه أحمد، وصححه الألباني.

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في تعليل هذا الحديث: "لأنه لما جعله في ظل الإنظار والصبر، ونجاه من حر المطالبة، وحرارة تكلف الأداء مع عسرته وعجزه؛ نجاه الله -تعالى- من حر الشمس يوم القيامة إلى ظل العرش".

وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ تَجَاوَزُوا عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ).

تيسيرك على المدين تيسير عليك في الآخرة:

فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة.

وصية أخيرة:

أوصي بها نفسي والمسلمين أن نجتهد ما استطعنا في تجنب الاستدانة، وأذكـِّر بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي فيه: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ. فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنَ الْمَغْرَمِ! قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ) متفق عليه.

وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو بهؤلاء الكلمات: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الْعَدُوِّ وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ) رواه النسائي، وصححه الألباني.


وجاء عن معاوية -رضي الله عنه- أنه قال: "رق الحر الدَّيْن".


ويكفي في ذم الدَّيْن ما اشتهر عند الناس من أن الدَّيْن: "همٌّ بالليل وذل بالنهار".
عافانا الله وإياكم.