سلامة الأبدان في كمال الصيام (1)
كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالصيام عبادة قديمة فَرَضَها الله تعالى على الأمم السابقة، أدَّاها مَن سبقنا مِن الرسل والنبيين، ومَن سار على نهجهم مِن اتباعهم المؤمنين الصالحين، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون"، ومع أن الصيام عبادة محضة لله تعالى أمر بها ورتَّب عليها الثواب الجزيل، وجعل للصائمين بابًا في الجنة لا يدخل منه إلا أهل الصيام، يُنادَى عليهم منه، فإذا دخلوا أغلق دونهم فلا يدخل منه غيرهم؛ إلا أنه مما لا شك فيه أيضًا: أن للصيام فوائد بدنية ونفسية كثيرة وعظيمة ينالها أهل الصيام إذا أحسنوا صومهم، والتزموا بما ينبغي عليهم فيه، بل يعتبر الأطباءُ الصيامَ مدرسة لتقوية وتنشيط البدن، ومستشفى لعلاج العديد من الأمراض.
ومع التسليم بأن حديث: "صوموا تصحوا" لا يصح؛ فإن معناه صحيح، داخل في عموم قوله تعالى: "وأن تصوموا خير لكم"، وليس غريبًا أو جديدًا على الأسماع أن هناك في عالمنا الكثير من الكائنات الحية من غير البشر، تمارس صورًا من الصيام في حياتها وبصفة دورية، ولا تستغنَى عنه، بل جبلت وفطرت على ذلك؛ فهو غريزة فيها تجد فيه صلاحها ومنفعتها.
ففي فصل الشتاء تنخفض الحرارة ويقل الغذاء، فتمارس أنواعٌ من الكائنات الحية صومًا اختياريًّا، فتسكن بعض الحيوانات في جحورها بضعة أسابيع أو بضعة شهور تمتنع أو تقلل فيها من الحركة وتناول الطعام، ومن أشهرها: "الدب القطبي" الذي ينام ساكنًا قرابة خمسة أشهر مِن كل عام، ومنها: أسماك تدفن نفسها في قاع الماء الذي تعيش فيه لمدة زمنية، ومنها: برمائيات تدفن نفسها في الطين أو الرمل في فترة الشتاء، ومن أشهرها: الضفادع في بياتها الشتوي، وتصوم أنواع عديدة من الأسماك والطيور المهاجرة خلال فترة هجرتها إلى أماكن التزاوج و الدفء، وهناك حشرات تمر بمرحلة من التحوصل أو التشرنق بدون طعام أو حراك.
والعجيب: أن هذه الكائنات على اختلافها تعود -أو تخرج- بعد مدة صيامها تلك، وقد أصبحت أكثر حيوية ونشاطًا؛ فالدببة تخرج من بياتها الشتوي أقل وزنًا وأكثر نشاطًا، وأسرع حركة، والضفادع تخرج من بياتها لتملأ الدنيا انتشارًا ونقيقًا، والطيور المهاجرة ترجع أكثر نشاطًا وصداحًا، والحشرات تخرج من بياتها على صورة فراشات رشيقة تطير في الهواء.
وهذه الأمور المعلومة والمشاهدة في حياتنا بانتظام تعد في حقيقتها أمور فطرية تهتدي إليها وتمارسها هذه الكائنات على اختلافها بالغريزة، وتلعب دورًا مهمًّا في الحفاظ على الحياة واستمرار النوع، أي: أن هذه الصور من الصوم المنتظم عند هذه الكائنات ضرورية لحياتها، ومن هنا يأتي السؤال -والذي بالطبع يحتاج إلى الإجابة عنه-: هل للإنسان نصيب أو حاجة لهذه الصور من الصيام؟
لقد توالت الأبحاث والدراسات العلمية التي أجريت شرقًا وغربًا حول الصيام، وأكَّدت تلك الأبحاث والدراسات بما لا يدع مجالًا للشك: أن هناك فوائد ومنافع للصيام تعود على الإنسان بدنيًّا ونفسيًّا، وبالتالي حاجة الإنسان في كلِّ زمان ومكان للصوم، بل ربما كانت حاجة الإنسان في زماننا للصوم المنتظم أكثر من الأزمنة التي مضت لكثرة المأكولات الدسمة، وكثرة الملوثات.
ومن المعلوم: أن الجسم يقوم بإحراق المواد الغذائية المهضومة؛ للحصول على الطاقة اللازمة للحركة والعمل، وينتج عن هذا الاحتراق ذرات حرة من الأكسجين لها تأثير سيئ على جدران الخلايا وعلى الدهون في الجسم؛ إذ تسبب الكثير من الأمراض، وتبدي مظاهر الشيخوخة خاصة التجاعيد.
ويزيد الأمر سوءًا: أننا صرنا نأكل يوميًّا كميات كبيرة من أطعمة أغلبها دسمة مليئة بالدهون والمقليات، والحوادق والتوابل، ونتعرض إلى كميات ليست بالقليلة من الملوثات في الخضروات والفواكه بتأثير المبيدات والأسمدة، إلى جانب تلوث الهواء عبر أدخنة المصانع والشركات، وعوادم المركبات المتنوعة، والسيارات ووسائل النقل المختلفة، بل وتلوث مياه الشرب نتيجة إلى تزايد تلوث مصادرها.
ويقوم الجهاز الهضمي للإنسان يوميًّا، ولساعات طويلة بعمليات الهضم والامتصاص والإفراز، بدءًا من طحن الطعام في الفم، ونقله وتحريكه حتى إخراج فضلاته، وعمليات الهضم والتمثيل الغذائي لكل هذه المواد تستهلك جزءًا كبيرًا من طاقة الكبد الذي يلعب دورًا كبيرًا في مقاومة الأمراض من خلال تطهير الجسم من السموم الضارة من خلال معادلة سميتها وتسهيل عمليات إخراجها من الجسم حفاظًا عليه من أضرارها المدمرة.
كما أن هناك أنواعًا من المأكولات تحدث مشاكل عديدة في الجسم كالتي تسبب الحساسية: كالأسماك والبيض، والمانجو والفراولة، والموز والشكولاتة، وهناك وجبات كثيرة فيها دهون تضر الجلد حيث تتسبب في ظهور حب الشباب والدمامل والبثور والتهابات الجلد، وتزيد فرص حدوث ذلك بزيادة كميات المأكول منها، وتقل وتنقص احتمالات الإصابة بذلك بالتقليل منها.
ومما يزيد الأمر سوءًا: أن السموم التي تدخل الجسم مع تناول الأطعمة واستنشاق الهواء الملوث تظل داخل الجسم عادة ذائبة، وملتصقة بالدهون، وتتصف بكونها في تزايد وتراكم مستمر، تزيد بزيادة الدهون في الجسم وتنقص بنقصها.
ويزيد الأمر سوءًا: حال مرض الجسم فيصبح كثرة الطعام -خاصة غير المناسب لطبيعة المرض- عبئًا على الجسم حيث يستهلك من الجسم طاقة يحتاجها المريض في مقاومة المرض، ويستهلك الهضم والتمثيل الغذائي جزءًا من طاقة الجسم، ويقلل من دور الكبد الكبير في مقاومة أمراض الجسم؛ إذ إنه ينقي الدم ويطهره من السموم الضارة -كما ذكرنا-.
وتتسبب الأطعمة كثيرة الأملاح والكوليسترول في زيادة ضغط الدم في الشرايين، كما أن للإكثار من تناول المنبهات: كالشاي والقهوة تأثيره أيضًا على الشرايين، ويحدث اضطرابات في ضربات القلب، ولا ننسى أن الإكثار من الطعام عامة يسبب البدانة والسمنة بكل ما تجلبه من أمراض ومضاعفات سيئة على البدن، كما أن الإكثار من السكريات والنشويات يضر البدن عادة، ويضر مرضى السكر خاصة، ويزيد كذلك من العبء والحمل الملقى على البدن عامة وعلى البنكرياس خاصة.
فإذا صام الإنسان صيامًا منتظمًا لعدة أسابيع متتالية؛ فهو بذلك يسدي لجسمه خدمة جليلة، لها مردودها النافع على البدن كله، من جهة تقليل مرات وكميات الطعام التي يتناولها يوميًّا، ومن جهة إعطاء أجهزة وأعضاء الجسم المختلفة الراحة لساعاتٍ طويلةٍ يوميًّا؛ لاستعادة حيويتها ونشاطها الطبيعي من جديد، وهذا ظاهر وواضح.
وقد أجريت دراسات وأبحاث عديدة في الغرب على صيام المرء صيامًا كليًّا بالامتناع عن الطعام والشراب بالكلية، أو صيامًا جزئيًّا بالامتناع عن الطعام كلية، والاقتصار على شرب الماء فقط، لمدة 12 ساعة متصلة يوميًّا، ولمدة 4 أسابيع متتالية، فتوصل العلماء على فوائد ومنافع لهذا الصوم لا يسع المرء تجاهلها، وتؤكد على أهمية أن يصوم الإنسان بانتظام على فتراتٍ من العام؛ حفاظًا على صحته العامة وسلامته، وتجديدًا لحيوية أجهزة الجسم، واستعادة كمال نشاطها وقدراتها من حين لآخر.
فالإنسان إذا صام لساعات طويلة أثناء اليوم يبدأ الجسم في استهلاك وحرق المواد الغذائية المخزنة فيه، مثل: الجليكوجين والدهون؛ للحصول على الطاقة اللازمة للحركة والعمل، ثم يتجه إلى بعد ذلك إلى حرق واستهلاك أنسجته الداخلية، وعادة يبدأ الجسم باستهلاك الخلايا التالفة أو المريضة أو الهرمة، فإذا عاد لحالته الطبيعية من تناول الطعام عوَّض الجسم هذه الخلايا التالفة أو الضعيفة التي أحرقت واستهلكت بخلايا جديدة قوية نشيطة، فالصيام هنا أشبه بجراح يستأصل من الجسم خلال فترات الصيام الطويلة الخلايا الميتة والضعيفة، ويستبدلها عند العودة لتناول الطعام بخلايا صحيحة قوية، وفي هذا فائدة أيما فائدة للجسم.
وأثناء فترة الصيام لساعات طويلة يستريح الجسم خلالها من عمليات الهضم والتمثيل الغذائي، ويتوقف فيها بالتالي إنتاج ذرات الأكسجين الحرة ذات التأثير المدمر على خلايا الجسم؛ مما يساعد على الوقاية من الأمراض، ويؤخر من الدخول في مظاهر الشيخوخة، ويفقد الجسم بعضًا من وزنه الزائد، مع استعادة نشاط الجسم وحيويته من جديد.
ففي بعض التجارب وُجِد أن: تقليل الطعام لبعض الفئران بنسبة الثلث يزيد في أعمارها بنسبة تصل إلى 40 %، وتتأخر لديها علامات ومظاهر الشيخوخة وتتحسن حالتها الصحية البيولوجية بصورة أفضل، فتستطيع أن تعمل بعد ذلك بمعدلات عمل أعلى، ولفترة عمل أطول مقارنة في ذلك كله بالفئران الأخرى التي ظلت طوال فترة التجارب تأكل طعامها المعتاد كاملًا.
وأثبتت تجارب أخرى: أن الجهاز الهضمي يستريح طوال ساعات الصيام الطويلة من طحن الطعام وتحريكه ونقله ومن الإفراز والهضم والامتصاص، وهذه الراحة تعد بالفعل ضرورية للجهاز الهضمي -ولفترة طويلة نسبيًّا- تتاح للجهاز الهضمي فيها صيانة وترميم نفسه، وتتاح أيضًا: الفرصة لأجزائه المريضة أن تتداوي وتقاوم مرضها؛ هذا إلى جانب استفادة الجسم من الطاقة المتوفرة التي كان يبذلها الجهاز الهضمي طوال ساعات الأكل، إلى جانب تفرغ الكبد لتطهير الجسم من السموم في الدم حيث تزيد نسبة تطهير الكبد لسموم الجسم خلال ساعات الصيام بنحو (25 – 30) %، حيث إنه مع الصيام يتوفر جزء كبير من الدم الذي كان يذهب إلى الجهاز الهضمي عقب تناول الطعام.
كما وجد أيضًا: أن كثيرًا من حالات الأرق والقلق واضطرابات النوم التي تصاحب البعض؛ بسبب الإفراط في الطعام أو تناول أطعمة غير مناسبة، والتي قد تصل إلى حدِّ الحرمان من النوم الهادئ ليلًا بسبب حموضة في المعدة أو انتفاخ ومغص في الأمعاء ناتج عن عسر الهضم.
وبالطبع يساعد تلاشي ذلك كله بالصيام على أن ينام الإنسان في هدوء، كما تقل معاناة القلب؛ خاصة عند مرضى القلب حيث يقل العبء على القلب بقلة تعاطي السوائل والشاي والقهوة والماء، والتي تزيد من حجم الدم وتؤدي إلى زيادة العبء على القلب واضطراب ضرباته.
ولهذه المنافع والفوائد تبلورت فكرة استخدام الصوم كعلاج طبي خاصة للأشخاص الذين يعانون من السمنة والبدانة، وأمراض الجهاز الهضمي المختلفة، وأمراض الجهاز العصبي والسمنة، وأدَّى تراجع هذه الأمراض، بل والشفاء منها بالصيام إلى انتشار المصحات في الغرب التي تعد الصيام المنتظم وسيلة من وسائل علاج الحالات المذكورة، وغيرها.
ومع كل ما ذكرناه فيما سبق -وذكره كثيرون حول فوائد ومنافع الصيام للأبدان؛ السليمة منها والسقيمة، كل بحسبه- فإننا ننبه على: أن كمالَ هذه الاستفادة مرهون بكمال هذا الصيام، وكمال ما جاء في الإسلام من أحكام وآداب تناول الطعام عامة، وأحكام وآداب الصيام خاصة؛ لذا فعلى كل صائم أن يعلم أن صلاحه الدنيوي والديني هو في التزامه في صيامه بما جاء في الكتاب والسنة في هذا الشأن، مع الاقتداء في ذلك بما ورد من هديه صلى الله عليه وسلم في كل ما يتعلق بهذا الموضوع جملة وتفصيلًا؛ فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم: (زاد المعاد) في (فصل: في هديه صلى الله عليه و سلم في الصيام) وكأنه معنا الآن وبيننا: (وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة، وحمايتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة، التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة له من صحتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات).
ويضيف: (والمقصود أن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة والفِطَر المستقيمة شرعه الله لعباده؛ رحمة لهم، وإحسانًا إليهم، وحمية وجُنَّة. وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أكمل الهدي، وأعظم تحصيل للمقصود وأسهله على النفوس).
وعن هديه صلى الله عليه وسلم في الانتظام في الصيام طوال العام إضافة إلى صيام شهر رمضان يقول ابن القيم رحمه الله: (كان صلى الله عليه وسلم يصوم حتى يقال لا يفطر، ويفطر حتى يقال لا يصوم، وما استكمل صيام شهر غير رمضان، وما كان يصوم في شهر أكثر مما يصوم في شعبان، ولم يكن يخرج عنه شهر حتى يصوم منه).
وللحديث بقية إن شاء الله.