ليلة القدر وإحياؤها


محمد عدنان كاتبي




بعضنا يبحث عن علاماتها في صباح لطيف، وشمس صفراء، ومطر يبلل الأرض، وحلم جميل.

وبعضنا يجد صدق علاماتها في نقاء قلوبهم، وصفاء نفوسهم، سكينة ذاقوها، ورحمة عاشوها، ودمعة سكبوها.

إنها ليلة القدر حين نعيشها كل ليلة.

إنها ليلة اختارها الله سبحانه من بين ليالي الدهر كله، ليتجلى فيها على عباده بالرحمة والمغفرة، وجعلها مخفية بين ليالي رمضان المبارك ليجتهد المؤمن في تحرّيها بمزيد من العبادة والدعاء، وليحظى بها من بين هذه الليالي الفاضلة، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أكد لنا وقوعها في العشر الأواخر من رمضان، وفي أوتارها وقوعها آكد، وكان هذا من الخير العميم لهذه الأمة.

ولئن اختلف الناس في تحديد وقتها، وفي السبب في تسميتها، أو في معناها، فلقد اتفقوا على فضلها وعظم شأنها عند الله سبحانه، فمن أفضالها:

1. إنها ليلةً مباركةً، أي كثيرة الفضل، والخير، والثواب، يقول الله سبحانه وتعالى في مُحكم كتابه الكريم: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ)،

2. إنّ الله عزّ وجلّ، أنزل فيها القرآن العظيم، وهو أعظم الكتب منزلةً وقدراً، حيث قال: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ).

3. أنّ الله عزّ وجلّ، يقدّر فيها أرزاق العباد وأعمارهم، وأقدارهم، يقول الله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ).

4. أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بشر محي هذه الليلة بالعبادة والدعاء وأصناف الطاعات، برضوان الله سبحانه، ورفعة قدره في الدنيا والآخرة، وغفران ذنوبه، والسعادة في الدارين، فقال صلى الله عليه وسلم: (ومَن قامَ ليلةَ القَدرِ إيمانًا واحتِسابًا غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ من ذَنبِهِ).

5. إنّ الملائكة تتنزل إلى الأرض في ليلة القدر بالرحمة والغفران والخير العظيم، مصداق قول الله تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ).

6. إنها ليلة الأمن والسلام وعموم الخير والبركة، وذلك لنزول الملائكة فيها، ولسلامة المؤمنين فيها من العذاب، بسبب تقرّبهم إلى الله تعالى بعملهم الصالح، حيث قال الله تعالى: (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ).

7. يعدّ العمل الصالح في ليلة القدر خيراً من العمل في ألف شهرٍ، وذلك بقول الله سبحانه وتعالى: ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)، وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: (أتاكم شهرُ رمضانَ، شهرٌ مبارَكٌ، فرض اللهُ عليكم صيامَه، تفتحُ فيه أبوابُ الجنَّةِ، و تُغلَق فيه أبوابُ الجحيم، وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشياطينِ، وفيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألف شهرٍ، من حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ) .

ومما لا شك فيه أنّ التماس ليلة القدر، وإحياؤها بالصلاة والذكر والاستغفار والدعاء، مما ينمي عقيدة الإيمان بالله في نفس المؤمن الصائم في شهر رمضان، ويقوي صلته بربه، فما كثر سؤال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الليلة، إلا لإيمانهم بأنها من الليالي الفاضلة، التي يتجلى فيها الرب سيحانه وتعالى على عباده بالعفو والمغفرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).

وكان من حكمة الله سبحانه وتعالى، أن أخفى وقتها عن العباد، وجعلها في رمضان، أو في العشر الأواخر منه، أو في ليالي الوتر من العشر الأواخر، ليربي عباده على الاستمرار في الطاعة، والتقرب إليه في معظم أو قاتهم، وفي هذا تربية للنفوس على الاستمرار في طاعة الله سبحانه، وطلب رضاه، لأنها عند المؤمن الصادق ليلة الأنس بمولاه وخالقه، فلو علم المسلمون وقت ليلة القدر تحديداً، لخفّت عزائمهم طوال شهر رمضان، واقتصر جهدهم وقيامهم بإحياء هذه الليلة، وعليه فإنّ إخفاء وقتها تحديداً يُعتبر حافزاً مُشجّعاً لقيام الليل، والمداومة على العمل الصالح طوال الشهر كله، ومن ثمّ مضاعفة هذا العمل في الليالي العشر الأواخر، وبهذا يعود الخير على المسلمين أفراداً وجماعات، ونرى الأمر يتكرّر بإخفاء وقت ليلة القدر، كما هو الأمر في ساعة الاستجابة يوم الجمعة، وذلك ليجتهد المسلم في الدعاء طوال اليوم.

ولهذا كان أفضل العمل فيها الصلاة والدعاء، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، تسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت إن وافقت ليلة القدر، ماذا أقول فيها ؟... قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني).

و(العفو) اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى، ويعني المتجاوز عن سيئات عباده، الماحي لآثارها عنهم في هذه الليلة المباركة، التي نزل فيها القرآن الكريم، يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ، سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ).


فالتماس ليلة القدر وإحياؤها بالطاعات والدعاء والاقبال على الله، منهج تربوي فريد، يجعل المؤمن دائم الإقبال على ربه، ومن أقبل على ربه، أقبل ربه عليه، ومن سارع اليه، كان الله اسرع منه، ففي الحديث القدسي: (ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعا، تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة).