دائرة الفهلوة!
كتبه/ غريب أبو الحسن
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
- ففي أحد الليالي الصيفية، وعلى شاطئ عروس البحر المتوسط، جلستُ مع مجموعة من الصحب والأحباب في أحد النوادي التي تطل على البحر، وزاد الجو جمالًا ذلك النسيم اللطيف، وتبادل أطراف الحديث الذي لا يخلو من مزاح الخلان.
- ثم طلب كلٌّ منا مشروبًا؛ ولأننا لسنا من أنصار العصائر؛ فقد تنوعت الطلبات بين النسكافيه والأسبرسو.
- وظلت الجلسة هادئة وممتعة حتى حضرت المشروبات، وبعد أول رشفتين فوجئ مَن طلب الأسبرسو أن المشروب هو نسكافيه بلاك، فاللون لون الأسبرسو، والطعم طعم النسكافيه!
- طلبنا الشاب الذي قدَّم لنا المشروبات لعله أخطأ، فأصر أن هذا أسبرسو، وغني عن الذكر أن سعر كوب الأسبرسو ضعف سعر النسكافيه أو ثلاثة أضعاف.
- ومع إصراره طلب منه أحد الأصدقاء أن نرى علبة الأسبرسو الذي أعد منها المشروب، غاب كثيرًا ثم عاد بقليل من النسكافيه رديء الصنع قائلًا: "هذا هو الأسبرسو!"، قلنا له: يا صَدِيق، هذا نسكافيه! فلم يحر جوابًا!
- غاب صاحبنا ثم عاد بفاتورة الحساب لنفاجأ أنه يطلب منا حساب الأسبرسو، ولا ندري: لماذا نقاشنا لم يؤثِّر فيه؟!
- عندها طلبنا منه أن نتحدث مع المسئول، غاب كثيرًا ثم جاءنا شاب ألصق في وجهه ابتسامة عريضة يشوبها قلق واضح، وبعد سماع القصة زادت ابتسامته وهز رأسه بطريقة توحي ببساطة الموضوع، ثم قال: أنا سأوضح لكم نظام الشغل عندنا! وتكلم بثقة: "إحنا بنضع النسكافيه في الماكينة، ولما بنضغط مرتين نعتبره أسبرسو!"، ووسط ذهول الأصدقاء وصدمتهم من إبداعه في التبرير! لم يجد صديقي ردًّا سوى أن قال له: "يعني أنت راضي عن نفسك كده!".
- والأعجب أني سألته: طالما أنت مسمي النسكافيه البلاك عندكم أسبرسو! طيب لو طلبت منك نسكافيه بلاك هتعمل إيه، فرد بسرعة وبثقة: لا والله معنديش نسكافية بلاك!
- صمتُّ قليلًا ثم قلتُ له لأنهي الحوار: خد الفاتورة، إحنا شربنا نسكافيه، خدها واضبطها وهاتها، وبالفعل أخذ الفاتورة وعاد الشاب بها سريعًا، وقد خصم ثلثي قيمة الفاتورة!
- ما حدث هو نموذج صارخ لـ"الفهلوة"، والفهلوة هو مصطلح جديد لأكل أموال الناس بالباطل.
- الفهلوة هي: محاولة الحصول على المال من غير طريق حلال، وبلا عمل ولا كد.
- الفهلوة: تقابلها حيث وجهت وجهك، تقابلها وأنت تركن سيارتك في أي مكان لتجد ذلك الرجل الذي يظهر فجأة، فيغلق لك مرآة السيارة، ويرفع المساحات ثم يطلب منك مقابلًا لتلك الخدمات التي لم يقدِّمها لك، والذي أصبح بعضهم يشعر باستحقاق كامل، وله تسعيرة معينة! وربما طلب منك حقه المدَّعى بمجرد نزولك من السيارة؛ لأن عنده مشوارًا، ولن يكون موجودًا عند عودتك.
- تقابل الفهلوة مع سائق الميكروباص الذي يقسم مسافته لثلاثة وأربعة أجزاء ليأخذ أجرته مضاعفة!
- تقابل الفهلوة مع الصنايعي الذي يشتري قطعة الغيار، ويعطيها لك بضعف ثمنها، ويستغل جهلك بذلك.
- تقابل الفهلوة عند تذهب لاستخراج توكيل مثلًا حين يتعاون موظف فاسد مع سمسار توكيلات فهلوي يستقبلك على باب السجل، ويعدك بإنهاء التوكيل بأسرع وقت، فإن أبيت وقررت تخوض التجربة وتسبح في طوفان البشر لتصل لذلك الموظف تفاجأ بمهارات الموظف في أن يجعلك تندم على خوض التجربة، فيطلب منك المستندات واحدًا تلو الآخر، وفي كل مرة تخوض غمار ذلك النهر البشري، لتجد نفسك تبحث عن السمسار لتشارك في دائرة الفهلوة! والنماذج لا تنتهي.
فلماذا ترعرعت الفلوة في مجتمعنا؟!
الفهلوة هي بنت الفساد والقهر، وضعف مراقبة الله سبحانه وتعالى؛ فالفساد لا يهدر مصالح الناس، ولا يهدر أموال الدولة فقط، بل الفساد يجرئ الناس على الفهلوة، والفساد يبرر للناس أن تسترد الحق أو المال الذي ضاع منها بالفهلوة والتحايل.
وحينما ينتشر الفساد وتغيب المحاسبة، ولا يجد مَن يشعر بالظلم مَن ينصفه يتحول الشعور بالظلم لشعور بالقهر؛ ليجد بعض الناس مبررًا ليستخرج المال الذي أُخِذ منه بغير طيب خاطر بالفهلوة لتنشأ دائرة الفهلوة.
فالسائق الفهلوي سيصلح غسالته عند صنيعي فهلوي، والصنايعي الفهلوي سيعطي ابنه درسًا عند مدرس فهلوي، والمدرس الفهلوي سيركب مواصلاته عند السائق الفهلوي، وهكذا.
ودائرة الفهلوة أشبه بالدوامة الكبيرة التي تبتلع كلَّ مَن اقترب منها، وكلما اقتربت زادت قوتها، وقلَّت مقاومتك.
والناس في مقاومة الدخول في دائرة الفهلوة درجات، وكلما تربَّى الإنسان على مراقبة الله وتعظيم حرمات الله كان أكثر مقاومة على الدخول في دائرة الفهلوة.
وإنك لتعجب من فقير عفيف لا يطعم أولاده إلا الحلال ويربي أبناءه على العفة وأكل الحلال، وتعجب كذلك من غني يدخل دائرة الفهلوة دون مقاومة؛ رغم عدم حاجته، وإنما هو فقط يريد أن يتمتع بتكديس رصيد سيتركه لورثته، وربما كان هو مَن ينشئ دوائر الفهلوة.
- ولكي نكسر دائرة الفهلوة لا بد من محاربة الفساد بكلِّ صوره: كالواسطة، والمحسوبية، والرشا؛ ليعلم أبناء المجتمع أن الفاسد ليس له مكان آمن بين الناس.
- الحل هو كسر دائرة القهر بأن نسمع جيدًا لمَن يشكو مِن الفساد، وأن تجد شكواه مَن يسمع لها، ويُحقق فيها ويعاقب عليها.
- الحل هو: تربية المجتمع على مراقبة الله، وتعظيم خطورة أكل أموال الناس بالباطل.
- الحل هو: تعظيم الكتاب والسنة في نفوس الناس، وتعليم النشء أن الامتثال لأمر الله بترك الحرام فيه سعادة الدنيا والآخرة.
- الحل هو: أن يقاوم المجتمع بؤر الفساد في جسده ويحاصرها؛ لذلك أمر الله سبحانه وتعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالمضاد الحيوي لجسد المجتمع، والذي يعينه على التخلص من أمراضه: كمرض الفهلوة.