فرصة ثلاثية!









كتبه/ سامح بسيوني


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فشهر رمضان من الشهور التي لها خصائص كبيرة جدًّا، فهو شهر تغيير حقيقي على مستوى الأفراد والأُسر والمجتمعات، وهو شهر أسري بامتياز يسهل فيه تصويب المسارات المتعددة داخل الأسرة المسلمة؛ ولذلك يجب أن ننظر لشهر رمضان نظرة أعمق من مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، فالصيام في رمضان شُرِع لغاية عظمي، وثمرة كبرى منشودة هي تحقيق التقوى كما قال الله عز وجل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ".

والتقوى بمفهومها الشامل تشمل:

- ضبط المفاهيم على ما يرضي الله عَزَّ وَجَلَّ.

- تعديل السلوك الخاص بنا طبقًا لما يحبه الله عَزَّ وَجَلَّ.

- التحلي بالقيم التي ترقينا عند الله عَزَّ وَجَلَّ.

لذلك لو ركزنا في رمضان سنتعامل مع رمضان تعاملًا مختلفًا؛ تعاملًا نحقق به التغيير المنشود في أنفسنا وفيمن حولنا؛ ابتداءً من مستوى الأسرة إلى مستوى العائلة إلى ما هو أوسع، حيث يمثِّل رمضان فرصة كبيرة لثلاثة أشياء، وهي:

- ضبط المفاهيم المنحرفة.

- تعديل السلوكيات المعوجة.

- غرس للقيم المفتقدة.

فالثوابت والمفاهيم صارت مضطربة في هذا الزمان، وأصبحت مهتزة عند الكثير من أبناء هذا الجيل، والكثير منا صارت عجلة الحياة الملهية مؤثرة في سلوكه، وأصبحت القيم العالية التي يرضاها الله عَزَّ وَجَلَّ، ويرتقي بها العبد عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- خارج اهتمامات الكثير منا، وأصبح الكثير منا همه في أكله وشربه، وتحقيق شهواته المادية في تلك الدنيا الفانية.

لذلك فنحن في حاجة إلى التأمل في عبادات وأعمال اليوم والليلة في شهر رمضان بطريقة مختلفة تحقق نجاح الأسرة المسلمة في هذه المناحي الثلاثة اللازمة لتحقيق التقوى بمفهومها الشامل.

ولو تأملنا معًا في أول عبادات رمضان، وهو الصيام لوجدنا أنه يبرز مفهوم من أعظم المفاهيم اللازمة والحاكمة، والمستدامة في تلك الحياة الدنيا، وهو مفهوم (العبودية)؛ فامتناع الإنسان عن الأكل والشرب، وسائر المفطرات من أذان الفجر إلى أذان المغرب في هذه المدة الطويلة، ولا يستطيع أن يتناول قطرة ماء أو كسرة خبز قبل أذان المغرب، وفي ذات الوقت يباح له الطعام والشراب، وسائر المفطرات إلى قبل الفجر بدقائق، ومع أذان الفجر يمتنع؛ هذا مفهوم كبير جدًّا نحتاج أن ننتبه إليه ونرسخه في أنفسنا، وفي أبنائنا ومَن هم في ولايتنا؛ ألا وهو مفهوم العبودية لله.

أنت تفعل ذلك؛ لأن الله أمرك بذلك، وتمتنع عن ذلك؛ لأن الله أمرك أن تمتنع عن ذلك.

وأنت عبد لله والله عز وجل هو الخالق، وهو الذي له حق الأمر والنهي، وهو أدرى بما ينفعك كما قال تعالى، "ألا له الخلق والأمر"، "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير".

فهو مالك هذا الكون، وهو المتصرف فيه فله المُلك والمِلك التام كنا، قال تعالى: "تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير"، "الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين"، فالله هو الملك ونحن عبيد له، نأتمر بأمره حتى وإن لم نفهم الحكمة من هذا الأمر.

هذا معنى لا بد من أن نغرسه ونضبطه في أبنائنا الذين يتعرضون لحملات تشكيك كبرى تحت دعاوى النظرة العقلية والضرورة الإقناعية، والعجيب: أن أصحاب حملات التشكيك هذه من الليبراليين أو اليساريين أو التنويرين -كما يزعمون لأنفسهم- لا يقبلون هذا المفهوم في وسائل حياتهم المادية، فنجدهم يسلمون أنفسهم لصاحب الـ know-how الذي يضع لمعدته كتالوج تشغيل، واضح التعليمات والأوامر الملزمة لمشغل المعدة حتى يضمن جودة أدائها على النحو المطلوب لها، وبدون أن يبرر للمشغل الحكمة مِن تلك التعليمات التشغيلية؛ لأنه يعدها حقوق ملكية خاصة؛ فكتالوج التشغيل عند هؤلاء أمر مقدس لا يجب مناقشته مع عدم الفهم لسبب أوامره، مع أنك في ذات الوقت تجد هؤلاء الأشخاص تصيبهم حالة من الشيزوفرانيا حينما يتعلَّق الأمر بطرح ضرورة الالتزام من الخلق بأوامر الرب الخالق سبحانه وتعالى في كلِّ مناحي الحياة كونه أعلم بما يصلح خلقه، ويضمن سلامتهم في حياتهم، وما هو نافع لهم، وما لا يناسبهم وما يضرهم، وهذا أمر يجب أن يسلم به كل المسلمين، بل وأي عاقل يؤمن بوجود الخالق، بينما تجد هؤلاء للأسف يجادلون في ذلك في صورة شيزوفرنية عجيبة.

المقصود أن مفهوم العبودية والإيمان بمعاني الانقياد والتسليم يتجلى عمليًّا في مظهر الإمساك والإفطار في رمضان، وهو يجب أن يكون ديدن المسلم في كل مظاهر حياته طيلة العام؛ فالزوجة تطيع زوجها؛ لأن الله أمرها بذلك بعيدًا عن أفكار النسوية المدمرة للأسر المسلمة.

والزوج يؤدي حق القوامة في بيته بالإنفاق على الأولاد والزوجة، والاحتواء، وتأدية حق زوجته؛ لأن الله أمر بذلك بعيدًا عن مفاهيم الأنانية والتسلطات الذكورية.

وليست هذه الحقوق من باب المقابلة أو المنفعة المتبادلة، بل من أجل أنها أوامر الخالق سبحانه وتعالى، فمفهوم العبودية من المفاهيم التي نحتاج إلى الطرق عليها كثيرًا؛ لا سيما في هذه الأزمنة التي طغت فيها المادية وأصبح البشر ينظرون لكل شيء في الحياة نظرة مادية على قدر عقولهم القاصرة، وصار الكل الآن يغرس مفهوم المنفعة؛ مفهوم لماذا هذا؟ ما الفائدة التي ستعود عليَّ من ذلك؟

وكأنهم لا يعلمون أن أعظم فائدة من أفعال العبد أن تكون طبقًا لما يرضي الرب، بل أعظم فائدة من أفعاله أن يحقق بها الوظيفة التي من أجلها خُلق، "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ".

تحقيق وظيفة العبودية هذه هي أعظم منفعة للإنسان في الدنيا والآخرة، والصيام يعلمنا درسًا مهمًّا جدًا، درس الخضوع، والذل، والانكسار لأوامر الله سبحانه وتعالى الذي خلقنا والذي هو أعلم بما يصلحنا؛ لذلك كان أجر الصيام كبيرًا جدًّا، وعظيمًا جدًّا لا يمكن تصوره؛ لما فيه من الامتناع عن الشهوات عبوديةً لله عز وجل وحده كما جاء في الحديث القدسي أن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".


فاللهم ارزقنا تمام العبودية وكمال العبودية، ولذة العبودية لك يا ذا الجلال والإكرام.