طلبة أفريقيا الشمالية
في سنة1919 تأسست في عاصمة الجزائر جمعية إسلامية باسم (الجمعية الودادية لطلبة افريقية الشمالية), والغرض منها إعانة الطلبة المسلمين الذين ما زالوا يتعلمون في الجامعات الفرنسية بالجزائر وفرنسا إعانة مادية وأدبية, أسسها شبان الجزائر المسلمون الذين حاولوا أن ينضموا إلى الجمعية الفرنسية التي أسسها قبل ذلك الشبان الفرنسيون, واشترطوا في قانونها الأساسي أن لا يدخلها عليهم طالب مسلم إلا أن يتفرنس, فكبر على شباننا أن يروا هذه الجمعية مباحة للطلبة الفرنسيين و الإسبان واليهود وغيرهم ومحرمة على المسلمين, فأيقظ هذا التعصب الأوربي حمية إسلامية في صدور شباب الجزائر المسلمة, فجعلوا لأنفسهم جمعية, كما لزملائهم جمعية, وقد أقبل الناس عليها إقبالا كثيرا, بعث فيها النشاط والحياة.وكان عدد الطلبة المسلمين قليلاً جداً في جامعة الجزائر, واليوم أصبح بفضل هذه الجمعية عدداً غير قليل... وهو في كل يوم يزكو ويزيد.
واطلعت على قانون هذه الجمعية فإذا هو يحتفظ بما في الجزائر من قومية ودين, ويحتفظ بذلك احتفاظا شديدا.
فرجوت أنا لهذه الجمعية المباركة أن تكون مسلمة خالصة لاشية فيها, تربي شباب الجزائر, وتعلمهم الكتاب والحكمة, وتزكيهم وتنشر فيهم خلق القرآن الكريم.و رجوت لها بعد أن تبشر بالإسلام, وتدعو إلى سبيل المؤمنين.
وكان أكثر هؤلاء الشبان أصدقائي ومعارفي, فاجتمعت بكثير منهم, وفاوضتهم في هذا الأمر, واقترحت عليهم أن يتخذوا لجمعيتهم نادياً إسلاميا تلقى فيه المحاضرات عن الإسلام وعن عظماء الإسلام, باللغة العربية وبالفرنسية...
وقمت فيهم بمحادثات كثيرة, وألقيت عليهم عدة محاضرات, حتى أقنعتهم بان اتخاذ هذا النادي الإسلامي أمر واجب على هذه الجمعية مفروض لا بد منه.
وكنا قررنا كل شيء, وعينوني محاضراً بالعربية, على أن تترجم محاضراتي كلها إلى الفرنسية.فاقترح أنا عليهم أن يعينوا الأستاذ الشيخ عمر راسم محاضراً بالفرنسية, فانه رجل من أبر الناس بالإسلام, ومن أكثرهم علماً به, وأنا لست أعرف عن الإسلام أكثر مما يعرف الأستاذ راسم. وقد فسر الجزء الأول من القرآن الكريم تفسيراً إذا أنت قرأته عرفت أن العلم موهبة يهبها الله من يشاء من عباده, وهو يعد من قادة الفكر في الجزائر, جاهد في سبيل الجزائر المسلمة, وأوذي في الله, ودخل السجن, ولبث فيه سبع سنين.وهو أول رجل في الجزائر (فيما نعلم) حارب التفرنج والإلحاد بما كتبه بلغة القرآن, وبلغه الفرنسيس.فاستبش وا بهذا الاقتراح وكاديتم كل شيء, ولكن الأشياء مرهونة بأوقاتها, فسافر من الجزائر بعض من كان الأمل معقوداً بهم في نجاح هذا المشروع, وسافرت أنا أيضا من غير أن أحادث الأستاذ الشيخ عمر راسم في هذا الموضوع.
وقد كاتبني اليوم بعض أولئك الأصدقاء في هذا الشأن, وطلب إلي (بعد ما انتهى من الطلب والدراسة إلى الحياة العملية) أن أعيد عليه تلك المحادثات.وراجع ي فيها وألح في المراجعة, حتى ذكرني بأكثرها من بعد ما نسيت.
وفي الحق أن هذه المحادثات كانت كلها نقضا وتزييفاً لما في أيدي أعداء الإسلام من مطاعن ومفتريات حتى استطاعوا أن يخدعوا بها كثيراً من شباب الجزائر عن دينه الحق, لأنهم كانوا يلبسون على أبنائنا الحق بالباطل, ويخرجون لهم الكذب الجبريت في صورة الواقع الذي لا ريب فيه, ويزعمون أن ما ينتهون إليه إنما هو ثمرة البحث العلمي الذي لا يتعصب ولا يحابي!وأهم هذه المطاعن والمفتريات جاء في محاضرة حاضرنا بها احد هؤلاء الشبان المغرورين في بهو من أبهاء الجزائر التي أعدت للاجتماعات والمحاضرات.
وخلاصة محادثاتي أنها جاءت في المحاضرة التي حاضرتهم بها جوابا عن محاضرة ذلك الشاب المغرور في تلك الليلة وفي التي تليها.
قام صاحبنا فما حمد الله ولا أثنى عليه, بل حمد الحاضرين وأثنى عليهم, وفرح بي وشكر لي أن حضرت هذا الاجتماع الذي لا يحضره عادة علماء الإسلام (يعني الفقهاء الذين ما زالوا يفضلون البقاء في ظلمات الجمود!ثم قال:ومن جمود هؤلاء "الفقهاء" أيها السادة؟ أنهم يؤمنون إيمانا جازما أن محمداً- صلى الله عليه وسلم- أمي لا يقرأ ولا يكتب وذلك ليكون القرآن من عند الله لا من عمل محمد- صلى الله عليه وسلم- ونحن نعتقد أن محمداً- صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ ويدرس الكتب القديمة, ونعتقد أن القرآن كان من عمله هو, وما أنزل الله على بشر من شيء.
ثم قال: وينبغي لنا أن ننبذ التعصب الديني ظهريا, فلا نترك- تعصباً-هذه الحضارة الغربية اللامعة, وما فيها من زخرف وزينة, الى حضارة قديمة يقال أنها كانت لآبائنا القدماء المسلمين.فلنتمس بهذه الحضارة الغربية المغرية,ثم أن وافقت حضارة الإسلام القديمة فذلك ما كنا نبغي, وان خالفتها فحاجتنا إلى حضارة عاجلة هي زينة الحياة الدنيا, لا إلى حضارة إسلامية غابرة نجهلها ولا نعرفها.ثم تكلم عن حركة التجديد المتحرك في مصر وفي بلاد الشرق,وتمنى لها أن ينتصر السفور فيها على الحجاب, ثم استنهض إلى تحرير المسلمة الجزائرية حتى تكون كالمرأة الفرنسية حريةً وسفورا وأخيراً طلب إلي أن أقول كلمتي في هذا الأمر, وكان يحسبني سأصادق على ما قال.ولكني نهضت فنقضت أقاويله هذه نقضاً حتى لم أبق منها على شيء, وحتى اقتنع الناس ببطلان تلك المفتريات, بل هو نفسه قد اقتنع وسلم تسليما.
وجملة ما قلته يومئذ:إن قادة الفكر في الجزائر أيها الإخوان فريقان: فريق متفرج متخرج من المدارس الفرنسية, يحتقر أمته, ولا يحترم دينها ولا عوائدها ولا تاريخها, وكل ما يقدمه لها أنه يرميها بالجهل والجمود.وفريق آخر من"الفقهاء" يحذرون الأمة من هؤلاء المتفرنجين, ويصمونهم بالكفر والمروق من الإسلام.وهكذا ضل هؤلاء الفريقان دهراً طويلاً, ما يكلم أحد منهم أحداً, ولا يرأم الرجلُ منهم أخاه, ولا فكروا في تكوين وحدة إسلامية تنتفع بها أمة الجزائر.حتى بعث الله هذه الفئة المباركة من شبان الجزائر, وهي جماعة" الإصلاح الديني " فجعلت دستورها القرآن الكريم الذي هو خير جامعة تجمع أشتات الجزائر المتناثرة.وقد وفقت إلى أن تحطم بالقرآن العظيم كثيراً مما لصق بالإسلام من خرافات وأضاليل, وهي ترجو أن يهيئ الله لها من أمرها رشدا, فيرجع بالمسلمين إلى الدين الخالص, والإسلام الصحيح, ويخرجهم من الظلمات إلى النور.وترجو كذلك أن توفق إلى أن تهدي بالقرآن العظيم أبناءنا المتفرنجين الذين ضلوا صراط الله المستقيم, فحسبوا أن الإسلام إنما هو ما يعمه فيه جهلة المسلمين من الجهل والضلال.فكان ذلك عوناً للاستعمار على أن يحتل عقول أبنائنا, ويبث فيهم الزيغ والتفرنج, ولو أن أبناءنا اهتدوا بهدي النبي محمد-صلى الله عليه وسلم- وتخلقوا بخلق القرآن, لما غلبنا الاستعمار على أفئدتهم وأسماعهم وأبصارهم حتى صاروا ولهم قلوب لا يفقهون بها إلا ما يرضي الاستعمار, ولهم آذان لا يسمعون بها إلا ما يرضي الاستعمار, ولهم أعين لا يبصرون بها إلا ما يرضي الاستعمار.
إن الاستعمار أيها السادة يقول:ما منع المسلمين أن يندمجوا فينا إلا القرآن الذي جعلهم يندمجون في الأتراك ويرضون بهم سادة حاكمين عليهم.ولذلك فان في رجال الاستعمار من يحاربون القرآن, ويصدون عن سبيل الله, حتى لا يكون هناك دين يمنع المسلمين أن ينسوا أنفسهم, ويتهافتوا على التفرنج والاندماج, ويومئذ لا تكون فتنة, ويكون الأمر كله للاستعمار(لا قدر الله).
ويحارب الاستعمار القرآن أيها السادة بهذه المدارس التي ينشرها في سائر بلاد الإسلام, يفترى فيها على الله الكذب, ويتقول فيها على الإسلام الأقاويل, فيزعم أن القرآن من عمل الرسول- صلى الله عليه وسلم- لا من عند الله, لكي يهون من أهمية هذا الكتاب العظيم, ويزعم أن محمد - صلى الله عليه وسلم - كان يعرف القراءة والكتابة, ويدرس الكتب القديمة, لكي يصح أن يكون هو الذي عمل القرآن.
وهذه أيها السادة مفتريات قد افتراها العرب المشركون في عهد النبي-صلى الله عليه وسلم- من قبل أن تتمضمض بها ألسنة هؤلاء المستعمرين.وقد دحضها القرآن وزيفها تزييفا.
ومع أني قد أعددت محادثة ألممت فيها بهذا الموضوع من جميع نواحيه, وسأطلب إليكم أيها السادة أن تستمعوا لها في ليلة قادمة, فإني أقول الآن: إن القرآن الكريم, أيها السادة, وإن كان المنطق الإنساني يقصر عن وصفه, وعن الإحاطة بكماله, الذي لا يحد ولا ينتهي, فإن من يتدبر- ولو قليلا - يعلم أنه منزل من الله ما فيه من شك, وأنه ما يقدر عليه من أحد غير الله بتناول القرآن ما يسمونه ( الفلسفة الإلهية )أو"الإلهيات" ونسميه نحن"غيب السموات والأرض" فيذكر لنا من ذلك ما يمكن أن تؤمن به الفطرة البشرية كلها, أو ما يجب على الفطرة البشرية كلها أن تؤمن به إيمانا فيه الرضى, وفيه الهدؤ والاطمئنان. وما لم يذكره القرآن في هذا الباب أيها السادة, فهو فوق ما تتناوله هذه الفطرة البشرية, والناس قد اختلفوا فيه اختلافاً كثيرا, ولا يزالون فيه أبد الدهر مختلفين لا يتفقون, ثم لا يهتدون فيه إلى شيء من اليقين.إن هم إلا يظنون, وان الظن لا يغنى من الحق شيئا وألممت إلمامة مجملة بقواعد التشريع, وأحوال الحكم في القرآن.ثم قلت:
و يتناول القرآن إصلاح هذه الإنسانية من ناحية التربية والتهذيب فيضع لها المثل الأعلى للفضيلة والخلق الكريم.ويدعوك القرآن إلى هذا المثل الأعلى من الفضيلة والخلق الكريم, ويشوقك إليه, ويغريك به إغراء كثيرا, حتى يصل بك- إذا أنت تخلقت بخلقه- إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه امرؤ من الكمال.وليس في الكلام ما ترى فيه الفضيلة رائعة مغرية على أتم ما يكون فتنة وجمالا, ويريك الرذيلة قبيحة شوهاء على أشد ما تكون قبحاً وبشاعة, مثل كلام الله الذي يعلم ما تكن الأنفس, وما تخفي الصدور.ولو أن هذه الإنسانية قد توفقت إلى أن نتربى بتربية القرآن, وتتأدب بآدابه, لاستراحت مما هي فيه من إثم وفساد, ومما تعانيه من شرور وموبقات.
ثم ذكرت أهم عدة آيات كريمة تنطق بالحق, وتشهد بما أقول ثم قلت: هل لكم يا سادتي أن تقرؤا بأنفسكم بعض سور من القرآن فتعلموا يقينا أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم, وأنه تنزيل العزيز الحكيم, لا من عمل الرسول- صلى الله عليه وسلم-.
ولو أن هذا القرآن كان من عند رسول الله, لكان حقيقا أن ينسبه-صلى الله عليه وسلم- إلى نفسه, لا إلى الله.
وبسطت هذا الموضوع بسطا اقتنع به الحاضرون.وانتقل منه إلى الأمية التي كانت شائعة يومئذ بين العرب أجمعين.واثبت لهم بالشواهد التاريخية التي لا تقبل مناقشة ولا جدالا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب.
وبعد ذلك قلت:وهب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان يعرف الحروف الهجائية العربية, ويقرؤها ويكتبها, فما هي هاته الحروف؟ هي بلا شك تلك الحروف التي كانت يومئذ في أول نشأتها، يلتبس فيها كل حرف بكل حرف, ولا يتبين فيها شيء من شيء.ولا يمكن بحال أن تكون حروفا نكتب بها كتب, وتدون بها دواوين.
وأين هذه (الكتب القديمة) التي يزعمون أنها كانت مكتوبة بالحروف العربية, ويزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرؤها ويدرسها؟..وما هي أسماء هذه الكتب؟ومن هم الذين ألفوها؟ وهل كانت في بلاد العرب جامعات علمية تدرس باللغة العربية, وتكتب بالحروف العربية, حتى يمكن أن يقال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعلم فيها الكتاب والحكمة.وهاته العلوم التي ذكرها الله في القرآن العظيم؟ ويح هؤلاء القوم المستعمرون!يقول ن إن الأبجدية العربية على حالتها الحاضرة اليوم قاصرة لا تفي بالمراد, ولا تماشي علوم العصر ولا آدابه ثم يزعمون أن العرب في الجاهلية كانوا أولي علم وفلسفة وكتب قديمة مكتوبة بالحروف العربية التي وفت لهم بكل ما كان عندهم من حكمة وأدب!فهل معنى هذا أن الأبجدية العربية كانت في الجاهلية أرقى منها في هذا العهد الأخير؟!"قاتلهم الله أنى يؤفكون".
ولو كنت أعجب من شيء في هذه الحياة لعجبت من أمركم أنتم أيها الإخوان, انتم مسلمون, وآباؤكم مسلمون, لا ترضون إذا وصفتم بغير الإسلام, ومع ذلكم فإنكم لا تعرفون شيئا عن الإسلام إلا ما جاءكم عن طريق أعدائه, أفمن أعداء الإسلام تتعلمون الإسلام؟
أليس في استطاعة أدناكم علماً بالإسلام أن يأخذ الإسلام عن أبويه أو ذوي قرباه, أو عن أي مسلم آخر؟ فإن هؤلاء العامة من المسلمين-مهما بلغوا في الجهل- فإنهم أحق من الأجانب وأجدر أن يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله.إنه ليس من عجب يا سادتي أعجب من أمركم هذا!
* * *
تقول يا سيدي فلان ( أعني المحاضر ) "ينبغي لنا أن ننبذ التعصب الديني ( الإسلامي ) ظهريا, فلا يحملنا التعصب على ترك هذه الحضارة الغربية اللامعة, إلى حضارة إسلامية يقال أنها كانت في القديم لآبائنا المسلمين..."وهذا هو نفس ما يقول الاستعمار(كما قدمته لكم آنفا ) الذي يريد أن يرزأنا في كل شيء, يريد أن يرزأنا في قوميتنا وأن يرزأنا في ديننا, حتى لا يكون هنالك عندنا ما يعصمنا من أن يلتهمنا الاستعمار التهاما, ويأكلنا أكلا لما, فنندمج فيه يومئذ اندماجا لا يبقى منا معه شيء, فإذا نبذنا هذا التعصب الديني، أعني إذا تركنا ديننا ونبذناه ظهريا وانسلخنا من عوائدنا وأخلاقنا, وأنكرنا كل صلة تربطنا بآبائنا الأولين, ثم تهافتنا على هذه الحضارة الغربية, فتفرنجنا واندمجنا, وأسرفنا في التفرنج والاندماج, حتى يغمر التفرنج والاندماج منا كل شيء, وحتى لا تكون علينا سمة من سمات الإسلام, وحتى لا يبقى عندنا ما يصح أن نتسمى به مسلمين, فهل نكون يومئذ بعدما خرجنا من ذاتيتنا, ومسخنا عن أنفسنا, قد تمدنا وترقينا؟وهل يعترف العالم الغربي يومئذ بان لنا في هذه الحياة مركزا ممتازا؟
والجواب أننا لا محالة نصير يومئذ إلى الموت والاضمحلال و بئس المصير.
والشيء السخيف, المضحك, أيها السادة, هذه الدعاية التي تدعونا إلى أن نترك حضارة آبائنا المسلمين, إلى هذه الحضارة الغربية اللامعة...فان مثلنا- اذا فعلنا ذلك وانخدعنا- مثل من لا يعجبه أبوه الذي ولده, فيتركه, ويتخذ لنفسه أباً آخر لامعاً جميلا!أروني أيها السادة رجلاً واحداً يستطيع أن يخرج عن الطبيعة, فيرضى بأبيه بديلا, أو قل فيرضى إن يكون ابنا لا أب له فالذين يدعوننا إلى ترك حضارة آبائنا إنما يدعوننا إلى أن نعلن على الملأ:إننا مالنا من أباء.
يعجبني منكم أيها السادة ذلكم الشاب الذي استعار اسم"كامل بن سراج"حين يقول:"..وهل من مصلحة العالم أن يكون كله أوربوياً غربياً؟وقد استبدلت اليابان منازل باريس بمنازل اليابان الخشبية, ولكن هل أغناها ذلك من الزلزال شيئاً؟..."يقول هذا ردا على لويس بيرتران الذي يقول:"..الشرق مريض بالتعصب الديني الذي يحرمه من الحضارة الغربية, ومن الاندماج في الغرب.."و أنا أرجو لكم أيها الشبان أن تكونوا كلكم مثل هذا الشاب الذي تعرفونه وإن كان يستعير اسم (ابن سراج) وكلكم تعجبون به إعجاباً كثيراً, وتقدمونه عليكم إماما وزعيما سادتي وإخواني, إن في هذه الحياة الغربية زينة ولمعانا وإن فيها لحبائل وخدائع"فلا تغرنكم الحياة الدنيا, ولا يغرنكم بالله الغرور"ولا يفتننكم شياطين الاستعمار, فيفسدوا عليكم دينكم, ويخرجوكم من كل ما بقي لديكم من شرف واستقامة, كما أخرجوكم من دياركم وأموالكم بغير حق.
و ليس في التعصب أكبر مقتاً من تعصب هؤلاء الغربيين, فهم يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم"وان فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون"يعلمون أن من الحق أن نحتفظ بكرامتنا وبقوميتنا وبديننا, ولكنهم لتعصبهم الغربي يعدون ذلك علينا"تعصباً دينياً ممقوتا".
أخبرني أحد أصدقائي أنه كان عرف أحد الصحفيين الفرنسيس في مدينة بسكرة الجميلة, وأن هذا الصحفي أعجبته بسكرة هذه بحسنها وجمالها, فأقام فيها دهراً طويلا, عاشر فيه المسلمين, وعرف أخلاقهم وعوائدهم, فأعجبه ما رأى فيهم من فطرة سليمة, وخلق كريم.وعلل ذلك بأن هؤلاء المسلمين ( في بسكرة ) وان كان أكثرهم من العامة البسطاء فإنهم مازالوا على الفطرة الإسلامية, فهذه الأخلاق الكريمة الباقية فيهم هي من فضيلة الإسلام التي مازالت بعيدة عن مساويء هذه الحضارة الغربية الآثمة.
قال صديقي الراوي:وزارني هذا الصحفي مرة في يوم قائظ شديد الحر, لا يزور فيه المرء ولا يزار.قال:فحياني بتحية الإسلام, فرددت عليه بأحسن منها, ثم قال لي:يا فلان, أتدري فيم أتيتك في هذه الساعة؟ قلت الله أعلم قال: القلق واضطراب البال هما اللذان حملاني على أن أزورك الآن.قلت:وهل حدث مكروه؟ قال لا,ولكني رجل قد مللت حياة العزوبة والانفراد, وأصبحت أشعر بالحاجة إلى زوج صلحة أسكن إليها, وتخفف عن كاهلي أعباء هذه الحياة, وتهون علي همومها وأحزانها وتقاسمني حلو الحياة ومرها, وسراءها وضراءها.وقد نظرت في هذا الأمر, وقلبته على كل وجه, فإذا الزواج عسير علي غير يسير.فهؤلاء النساء الأوربيات السافرات وإن كن متأنقات متمدنات فهن إنما يصلحن للهو واللعب,وقليل منهن( إن لم أقل ليس فيهن ) من تصلح أن تتخذها حرماً مصونا.
قال الراوي:فقلت إنكم تشكون نساءكم, ونحن نشكو نساءنا وجهلهن.وأنتم تشكون السفور, ونحن نشكو الحجاب فقال:قولوا الحمد لله على نعمة الإسلام, وما بثه بينكم من خلق متين, وقولوا "الحمد لله الذي هدانا لهذا, وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله".فالمسلمات قد أدبهن الإسلام, فإذا هن حور مقصورات في الخيام, قاصرات الطرف على بعولتهن, طائعات لأزواجهن, لا يعصينهم في معروف, مقتنعات بالقليل الذي قسم الله لهن, مكنونات في خدورهن, غير متبرجات بزينة, حافظات للغيب بما حفظ الله.فماذا تريدون من نسائكم المسلمات, بعد هذه الصفات الفاضلة؟هل تريدون أن تعلموهن في هذه المدارس الفرنسية, فلا يتعلمن فيها بدل حسن الخلق إلا التمرد والعصيان, و إلا التفنن في الشهوات إلى حد من الاستهتار بعيد, و إلا الإسراف في النفقات على الأحذية وطلائها, وعلى الجوارب والمساحيق حتى يعجز أزواجهن أو آباؤهن عن تسديد نفقاتهن, وحتى لا يكفيهن من النفقة قليل ولا كثير؟
إياكم- أيها المسلمون, أن تغتروا بأكاذيب هؤلاء الغربيين الذين لم يعترفوا من شدة تعصبهم بكرامة المسلمة ولم يقدروها حق قدرها.فهم يسمون حجابها سجنا, وحياءها جموداً, وطاعتها لزوجها حيوانية وجهلا.ومن تعصبنا نحن الغربيين أننا لا نسمح لأنفسنا أن ننتقد ما عليه مجتمعنا من نقص وفساد, بل بلغ بنا الرضى عن أنفسنا أننا نسمي استهتارنا حرية وإسرافنا في امرنا تنفيذ إرادة, وهكذا نستر عيوبنا وضعفنا تحت لمعان الألفاظ, وخداع العناوين.
قال الراوي:ثم قال لي هذا الصحفي الفاضل:- هل تدري يا فلان لماذا أتيت إلى بسكرة؟ قلت:لا أدري.
قال:جئت مندوبا من بعض كبريات الصحف بباريس, لأضع لها "رواية" عن العائلة الإسلامية تنشرها تباعا.وتأخذ منها خلاصة تمنحها دور السينما ( الصور المتحركة ),وكانت هذه الجريدة تنتظر مني, وكان الناس ينتظرون مني, أن أضع روايتي هذه, وأصور فيها العائلة المسلمة أو بالحري المرأة المسلمة على أشد ما يمكن أن تكون توحشاً وانحطاطا ولكني بحثت هذا المجتمع الإسلامي فوجدته طاهراً بسيطا,لم يتشوه بالحضارة الغربية, وآثامها. ففاوضت الجريدة وراجعتها في موضوع الرواية وأسلوبها فرضيت, ولكن على شرط لم أرض به أنا..
بحثت عن الإسلام في هذه العائلة الإسلامية الطاهرة الخالصة فإذا هو دين الحق الذي يجب على من في الأرض أن يؤمنوا له كلهم جميعا. وأحببت أن اسلم وجهي للذي فطر السموات و الأرض حنيفا وما أنا من المشركين, وأحببت أن أذيع إسلامي بين الناس, وأحببت يومئذ أن أتزوج بامرأة مسلمة مؤمنة, ولكني خشيت أن يزدربني هؤلاء الغربيون المتعصبون الفضوليون.
لو كنت من نطلق الناس ودهمائهم لا سلمت ولسعدت بإسلامي, ولكني صحفي يعرفني جميع الناس ويهتمون مني بكل صغيرة وكبيرة, فإذا أعلنت إسلامي فسيمطرونني وابلا من الشتائم, وسيصورونني صوراً هزلية لاذعة مرة تذهب بكل مالي من صبر واحتمال.
قال الراوي:ثم قال لي:هل تدري ماذا أريد منك الآن؟
فقلت:لا أدري, ولكني أتشرف بان أكون طوع إشارتك.
فقال:أريد منك أن تفتيني أو أن تستفتى لي أحد علماء الدين ( الإسلامي ) في رجل يؤمن بالله واليوم الآخر, ويهتدي بهدى محمد-صلى الله عليه وسلم- ثم يكون كذلك في خاصة نفسه, لا يهيج على نفسه فضول الناس ولا تعصبهم.فهل يكون عليه من سبيل وهل يقبل الله منه عدلا أو صرفا...
فقلت له:إن الله أرحم وأكرم من أن لا يقبل من رجل مؤمن يكتم إيمانه.
فقال:فاشهد لي إذن بأني"أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً رسول الله". وبأني من المسلمين.
* * *
سادتي, هل رأيتم تعصباً أشد مقتا من تعصب هؤلاء القوم؟وهذا رجل صحفي آمن بالله وبرسوله, وكتم إيمانه مخافة أن ينال منه قومه, ويصموه بالتأخر والتدين, تعصباً منهم وفضولا.يصموننا بالتعصب إذا نحن استمسكنا بديننا, واحتفظنا بما عندنا من طربوش وعمامة, ولكنك إذا رجوت من أكثر فلاسفتهم حرية فكر وإرادة أن ينتزع قبعته من على رأسه ويضع مكانها عمامة أو طربوشاً, فلا تراه إلا محتفظاً بقبعته ويعتز بها اعتزازا.
واذا كان الغربي المستعمر لا يعجبه أن يرى على رأسي طربوشاً, أو يستقبح منظر عمامتي, فهل ألام أنا إذا هو لبس قبعة سوداء أن أراها على رأسه غراباً أقبح ما يكون شؤماً وسواداً؟!
(وهنا ضحك الحاضرون, واستغرقوا في الضحك, ونزع المتقبعون منهم قبعاتهم التي على رؤسهم).
هم يحتفظون بعوائدهم وقوميتهم, ويعتزون بأنفسهم, فلماذا لا نتعلم منهم – على الأقل- هذه الخصلة, فنحتفظ بديننا وقوميتنا ونعتز بأنفسنا؟
و بماذا تريدون أن أستشهد لكم على تعصب هؤلاء الناس, بعدما حرموا عليكم- وهم إخوانكم وزملاؤكم في طلب العلم- أن تدخلوا معهم في جمعيتهم التي أسسوها باسم ( جمعية التلاميذ ) فاضطررتم أنتم أن تؤسسوا جمعية لأنفسكم, ونعم ما فعلتم.
سادتي, أريد أن أذكر لكم في هذا المقام مسألة ينبغي لكل مسلم أن يهتم بها اهتماماً كبيرا, وهي مسألة فيها شرح وبيان لما نحن فيه:
نرى كل يوم من هذه الجاليات الغربية في بلاد المغرب ناساً يدخلون في دين الله, ويعتنقون الإسلام.حتى صاروا الآن عدة آلاف, وهم كل يوم يزيدون والنساء منهم نحو ثمانين في المائة.وقد بحثت هذه المسألة واستقصيتها, فانتهيت إلى أن الأسباب التي تحمل هؤلاء المسيحيين على اعتناق الإسلام ترجع في صميمها إلى الدعاية الفعلية التي يقوم بها العامة المسلمون ضمناً من غير قصد منهم وذلك حين ما يذكرون دينهم على سبيل الفخر والاعتزاز فيؤثرون على من يستمع لهم من المسيحيين. و كانت المسيحيات اللاتي أسلمن أكثر عددا ًمن المسيحيين الذين أسلموا, لأن نساءنا المسلمات أكثر احتفاظاً بالإسلام من الرجال المسلمين.وأشد منهم مناضلة عن دينهن وأخلاقهن وعوائدهن.
كنت مرة ضيفاً عند احد أصدقائي في ضاحية من ضواحي الجزائر (العاصمة), وإننا لنتحدث بمثل هذا الحديث إذ سمعت امرأة من وراء حجاب تقول:وأنا الأخرى كنت امرأة مسيحية,ثم أسلمت بسبب من مثل ما تقول يا سيدي.كنت اشتريت ثوباً حريريا أنيقا, ولبسته ذات يوم من أيام الصيف, وكانت لي جارة مسلمة فدخلت عليها في ذلك الثوب الجديد.وما هي إلا أن رأتني, ورأت أعضائي بادية, ونهودي عارية,حتى قامت تؤنبني وتستقبح مني أن ألبس مثل هذا الثوب الذي لا تتبين به كاسية من عارية!فأثرت نصيحتها في نفسي تأثيراً بليغا:فانتزعته منذ ذلك اليوم,ثم لم ألبس بعده ثوبا قصيفاً خليعا,واكتسبت من الإسلام ثوباً سابغاً عفيفا.فالحمد لله على الستر,وراحة الخدر...
فالمسلمة الجزائرية- أيها السادة- أصلح حالا من الرجل, لأنها ما زالت أبعد منه عن التفرنج.
وأخرى, فان العامة المسلمين الذين يتزوجون بالأجنبيات يتمسكون بدينهم تمسكا حبب الإسلام إلى نسائهم, وزينه في قلوبهن,وكره إليهن الكفر والفسوق والعصيان, ففررن إلى الله,ودخلن في الإسلام.وأكثر هؤلاء المسلمين الذين يتزوجون بالأجنبيات,ويهد نهن إلى الإسلام هم من أهالي جبال زواوة الذين يذهبون إلى فرنسا عملة كاسبين,ويرجعون إلى الجزائر متزوجين.
والحقيقة المرة أيها السادة بأنني لم أجد شخصا واحداً قد اهتدى إلى الإسلام على يد شاب متنور منكم.
وأمر من ذلك وأدهى أننا نرى العامي المسلم يتزوج بالأجنبية, فلم يزل بها يدعوها إلى الله,حتى تسلم ويحسن إسلامها.وإننا نرى الشاب المهذب من هن هؤلاء الذين تعلموا في مدارس الفرنجة يتزوج بالإفرنجية, فلم تزل هي به حتى يتفرنج ويكفر.
هذه حقيقة مرة مؤلمة, ولكن يجب الاعتراف بها وإعلانها بين الناس.
يجب أن يذع في القريب والبعيد أن هؤلاء الشبان المتنورين أصحاب الشهادات العلمية الاوربوية العالية الذين عقد الوطن بهم الأمل في أن يجلبوا إليه خيراً كثيرا, قد ولوا الأدبار, واندمجوا في الفرنجة اندماجا, على أيدي أزواجهم الأجنبيات, على حين أن هؤلاء الأجنبيات يخرجن من الظلمات إلى النور على أيدي أزواجهن من العامة المسلمين, فيعدن مسلمات مؤمنات صالحات.
ويجب علينا- أيها السادة- أن نعترف ونذيع في الناس أن سبب هذا الأمر هو هذه المدارس الإفرنجية التي أطفأت في صدور الشبان حب الاحتفاظ بالقومية, وأضعفت في نفوسهم الشعور الإسلامي الذي يشعر به المسلمون.
على أن التزوج بالأجنبيات هو أمر ضرره فادح جداً على القومية الإسلامية, وليس فيه أدنى خير, فالشبان الذين يتزوجون بالأجنبيات يتركون بنات أعمامهم بلا بعولة ولا أزواج يعولونهن ويقومون على ضرورياتهن , وربما أداهن الفقر والحاجة إلى أن يصبحن خطراً على المجتمع الإسلامي وعلى ما فيه من الحشمة ومكارم الأخلاق.
وما من شاب مسلم ترك بنت عمه المسلمة العربية المحتشمة وتزوج بأجنبية من اللائي لا يعرفن الحياء إلا وقد ندم على زواجه من حيث لا ينفعه الندم, وكان عاقبة أمره خسرا,ولم يكن زواجه موفقاً ولا سعيدا. وذلك لأنه لا يكاد يقضي أيام العرس الأولى حتى يجد بجانبه امرأة تزدريه ولا تحترمه,ولا تعرف له قيمة أو اعتبارا, وهي تحمل لجنسه العربي الكراهية والبغض, وتعتقد أن زواجها به عليها مصاب عظيم, وتعتقد أنها كانت تطلب فيه زوجا كريما فوجدت فيه عبداً لئيما.
ويجد هو نفسه قد غلط وأخطأ التقدير فقد طلب فيها وردة تفوح وتعبق فإذا هي أفعى يلعو فحيحها وصريرها.
وما من فرنجية تزوجها شاب مسلم من هؤلاء وولدت منه ولداً إلا وتسمى أولادها بأسماء فرنجية غير عربية ثم لا يكبر هؤلاء إلا وهم فرنجة ليسوا عرباً ولا مسلمين.
وكان شاب مسلم عربي من هؤلاء- وهو طبيب- قد تزوج بأجنبية فولد لهما ولد ذكر فسماه أبوه"صالحا"وسمته أمه"موريس" فقال فيه كاتب الجزائر الفكه وشاعرها المبدع الأستاذ محمد الأمين العمودي الكاتب العام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين هذه الأبيات الحلوة:
حيي الطبيب ولا تنس قرينته ... فهو سليمان و"المدام" بلقيس
له غلام أطال الله مدته... تنازع العرب فيه والفرنسيس
لا تعذلوه إذا ماخان ملته... فنصفه"صالح"والنص ف"موريس"
وفي الحق أن هاته الأبيات هي منطبقة على جميع هؤلاء الشبان المغرورين الذين يتركون قريباتهم العربيات ويتزوجون بالأجنبيات البعيدات.
كيف يتفرنج المتفرنجون من شبابنا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق, وجاءهم البينات؟ فان فعلوا ذلك ليرضى عنهم الاستعمار, فالله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين.(وهنا هاج الحاضرون وصاحوا:لا نرضي الاستعمار.نرضي الله ورسوله.ليَعلُ الاسلام...)
* * *
وتستبشر يا سيدي ( المحاضر ) بحركة التجديد في مصر, وبلاد الشرق, وتتمنى أن ينتصر فيها السفور على الحجاب, وتستنهض إلى الأخذ بيد المسلمة الجزائرية حتى تكون كالمرأة الفرنسية حرية وسفورا.وأحسبك يا سيدي تعني بكلمة حركة التجديد في الشرق تلك الحركة التي هي أحرى أن تسمى حركة "الإلحاد والتقليد"منها أن تسمى حركة "تجديد" لأن غايتها التفرنج والاندماج في الغرب اندماجا تاماً بكل معنى الكلمة.و يقوم بهذه المشاغبة ناس تعلم أكثرهم في المدارس أجنبية غير إسلامية أسست لمثل هذه الغاية في الشرق.ثم خرجوا منها"يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم, ويأبى الله الا أن يتم نوره".
إنها إن تكن فتنة ( الإلحاد والتقليد) يقوم بها كثير من أعوان الاستعمار في الشرق,فإننا لا نخاف منها خوفاً شديداً.لولا فتنة التجديد والإلحاد هذه لما قام أعلام الأدب العربي ورجال الإصلاح الإسلامي يجاهدون في الله حق جهاده ويقومون حقاً بحملة"الإصلاح والتجديد"مثل العلامة السيد رشيد رضا وأمير البيان الأمير شكيب أرسلان, والأديب الإمام السيد مصطفى صادق الرافعي و...ورجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه عرفناهم في "الزهراء" و"المنار" و"الفتح" المبين.
وكل هذه الجلبة التي نسمعها في الشرق( غير الجزائر ) تحوم حول ما تكلم به آنفا سيدي ( فلان ) في هذه البلاد ( الجزائر ).فالتجديد كله هو"تحرير" المرأة المسلمة وسفورها, أو قل هو كشف المرأة المسلمة وهتك سترها, ثم ليس هنالك في"التجديد" شيء آخر غير هذا.
الحجاب أيها السادة فريضة فرضها الله على أزواج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمهات المؤمنين وقال في كتابه العزيز:(يا نساء النبي....وقرن في بيوتكن, ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى..." ثم اقتدت المؤمنات بأمهات المؤمنين, ثم أخذ الحجاب يفشو بين المسلمات على مقدار ما تستبحر الحضارة بين المسلمين.فالحجا أثر من آثار التمدن الإسلامي, بقي بأيدينا تراثا عن آبائنا الأولين.فهل إذا أضعناه نكون قد أحسنا لأجدادنا, وبررنا بهم برورا, أم نكون أسأنا إليهم وعققناهم عقوقا؟
إن الحجاب أيها السادة هو فصل ما بين الرجل والمرأة لتنقطع هي إلى منزلها تصلحه وتربي أولادها, وينقطع هو إلى العمل والاكتساب خارج البيت ثم ماذا تريدون من سفور المرأة المسلمة الجزائرية؟ تقولون إنكم تريدون لها أن تخرج إلى حياة العمل والجهاد.ولكن هل نسيتم أنكم في بلد أكثر أبنائه في عطلة وبطالة؟ فهل تريدون لنسائنا أن يعشن أيضا عاطلات متشردات؟ يذرعن الطرقات جيئة وذهابا طول النهار وزلفا من الليل.
كتب كاتب مسلم في إحدى الصحف الإفرنسية فصلا يدعو فيه المرأة المسلمة إلى السفور, فأجابته فتاة مسلمة في الصحيفة نفسها, وسمت نفسها "فاطمة الزهراء"جوابا حقا, ما ينبغي لأحد بعده أن يدعو المسلمات إلى السفور.وتقول له في هذا الجواب:(..ولا يعزب عن بالك يا سيدي إذا أنت دعوتنا إلى السفور أننا معشر المسلمات لا نفهم عنك إلا أنك تدعونا إلى أن نقضي نهارنا في البارات, أو في الطرقات نفتش على أصحاب من الرجال نقودهم من أنوفهم إلى المسارح والمراقص فنبيت نرقص حتى نتعب ونظمأ, فإذا عطشنا عجنا بالبار(الحانة) نشرب ونستجم (نستريح).ثم نعود كمثل ما كنا فيه, "وهكذا, دواليك..."هذا هو ما تفهمه المسلمة الجزائرية عنكم إذا أنتم دعوتموها إلى السفور.فهل فهمتم أنتم أيها الشبان؟ إنه مهما بالغ دعاة السفور في دعوى أن العفة ليست في الحجاب,فما هم بقادرين على أن ينكروا أن الحجاب هو أعون على العفاف,وأنه هو أقرب للتقوى.
في أي جو من أجواء السفور تستطيعون أن تجدوا العفاف أيها السادة الإخوان؟ أتجدونه في هذه الحضارة اللامعة التي تسيل خلاعة واستهتار؟ أم أين تجدونه إلا حيث لا يكون سفور؟ أو حيث لا يكون اختلاط بين الرجال والنساء! ما أريد أن أنبهكم يا سادتي إلى هذه الملاعب والمراقص والملاهي والمسارح الحمراوات ( جمع الحمراء )وما يكون فيها من إثم وغي. ولا إلى هذه الروايات التي تمثلها دور السينما ( الصور المتحركة ) فتمثل فيها الغواية والضلال, تمثيلاً يغري الزوجة بالغدر والخيانة, ويزين لها ذلك تزيينا وهل أكثر هذه الروايات التي يسمونها روايات حب وغرام إلا روايات غدر وخيانة وإثم, سميت بغير أسمائها تلبيساً وتضليلاً, ودعاية إلى الشر والفساد.
وإنما أريد أن أذكر لكم أن في الجنوب الجزائري الشرقي( من عمالة قسنطينة ) ولاية صغيرة,اسمها:"سوف" واسم قاعدتها "الوادي" وكلكم فيها أظن تعرفونها.و"سوف" هذه هي من أكثر بلاد الله ديناً وصلاحا, ومن أكثر بلاد الله طهراً وعفافا.ومع ذلكم فإن فيها مدينة آهلة بما يناهز العشرين ألفا من السكان اسمها:(كمار).واخت صت (كمار) هذه من دون بلاد"سوف" كلها بسفور النساء وتحريرهن, حتى لا تتزوج فتاة في (كمار) إلا بعد أن تتعرف بخطيبها, وتختار لنفسها الزوج الذي تريد, على العادة الجارية بين الفرنجة اليوم.مع أن أهالي (كمار) ما زالوا على حالة بداوة وبساطة في كل أساليب العيش, ولكن هل في (كمار) حيث السفور, واختلاط الرجال بالنساء تجد العفاف الشديد الذي تجده فيما حولها من بلدان "سوف"حواضرها وقراها؟
إن"الوادي"و"البه مه"و"الزكم"و"كوي ين"وغيرها من مدائن"سوف"وقراها من أشد بلاد الله تمسكاً بالحجاب, ومن أشد بلاد الله عفة واستقامة. "وكمار"وحدها ( وهي في وسط سوف, وأهاليها سوافة ) ترتكب فيها كبائر الإثم, أو تقع فيها حوادث الحب والغرام (كما يقولون) وكان أعيان (كمار) وأهل الفضل فيها حجبوا النساء, ومنعوهن من السفور, والاختلاط بالرجال, ولكن شيخ طريقة صوفية دعا بالشر على كل امرأة تبقى في خدرها, ولعن كل فتاة تحتجب, لعناً كثيرا, فعاد النساء إلى السفور وتركن الخدور.
وكذلكم جبل ( آوراس ) حيث السفور والاختلاط, وجبل ( العمور ) أيضا.
فهذه الشواهد أيها السادة تدل دلالة واضحة على أن السفور المختلط-بدوياً كان أو مدنيا- هو دون الحجاب من حيث اشرف والعفاف.
ينبغي أن تحتجب المرأة الدميمة فتستر على نفسها قبحها ودمامتها, وينبغي أن تحتجب المرأة الجميلة حتى لا يفتتن بها الناس.
وختمت حديثي بهذه الكلمة:
سادتي, هل أدلكم على النجاة مما نحن فيه؟: تؤمنون بالله ورسوله, وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم, وتتخذون لكم معهداً إسلامياً تتعلمون فيه الاسلام, وتدرسون فيه كتاب الله, وسيرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- .فإن فعلتم فعسى أن تكونوا من المهتدين, وإن لم تفعلوا فلن تفلحوا إذن أبدا.
وما انتهيت من حديثي إلى هنا حتى كاد القوم يطيرون فرحاً وسرورا.
يتبع بإذن الله تعالى في الحلقة التالية بعنوان:" في أحد متنزهات وهران"...