في بحث عن قيم الشريعة الإسلامية بين الفقر والغلاء..

الباحثة نوال فكهانتي: هل الفقر يؤثر في عقيدة المسلم؟



علاء الدين مصطفى






في بحث قدمته الباحثة نوال فكهانتي عن الفقر أكدت أن مشكلة الفقر لا تزال التحدي الأكبر الذي تواجهه جميع الأمم على الرغم من التقدم التكنولوجي والاقتصادي الذي يشهده العالم في الوقت الحالي. ولا شك أن مكافحته قضية ملحة، وهي من سبل الانطلاق إلى حياة واعدة أكثر رخاء وأمنا، والخلاص من الفقر من أهم وسائل خلق مجتمع أكثر نماءً وتقدماً وعدلاً، ذلك أن له آثاراً سلبية على الفرد والمجتمع في آن واحد.

آثار الفقر على الفرد والمجتمع

أوضحت الباحثة أن ظهور انحرافات كبيرة على مستوى سلوك الأفراد وأخلاقهم يعود إلى الفقر، حيث إن الفقير إذا كان ضعيف الإيمان قليل التدبير يبيح لنفسه الحصول على حاجاته دون الالتفات إلى مصدرها، أمن حلال جاء بها، أم من الحرام؟ مشيرة إلى أن الفقر يدفع الآباء إلى التخلي عن مسؤولياتهم في تعليم أبنائهم، ما يؤدي إلى انتشار الأمية التي تهوي بالمجتمع إلى أدنى مستوياته، ويؤدي إلى انتشار ظاهرة عمالة الأطفال، ما ينشأ عنه نمو الإجرام في صفوفهم، نظراً لاستغلالهم في أعمال غير مؤهلين لها جسدياً ولا نفسياً وإلى تدهور الوضع الصحي لدى الفقراء، وخصوصاً الأطفال منهم، لعدم الحصول على الغذاء الكافي الذي يتطلبه نمو أجسادهم، وعدم حصولهم على الدواء في حال مرضهم.

وأوضحت الباحثة أن من آثار الفقر ما يدفع الآباء إلى تزويج بناتهم في سن صغيرة لا يكونون معها مؤهلين لبناء أسرة، ففاقد الشيء لا يعطيه.

وأضافت أن جميع هذه الآثار وغيرها الكثير من السلوكيات الخاطئة والتي يتوهم الناس أنهم باتباعها يهربون من الفقر، إنما هي مجرد سلوكيات فعّالة في هدم أي مجتمع وتعطيل بنائه، وهذا يتنافى مع فكرة الاستخلاف التي وجدنا من أجلها، فالإسلام يعتبر الفقر مشكلة تتطلب الحل، بل آفة خطرة تستوجب المكافحة والعلاج، ويبين أن علاجه مستطاع وليس محاربة للقدر ولا للإرادة الإلهية.. فالإسلام يرفض النظرات الحائدة عن الصراط المستقيم، ويتقدم في علاج مشكلة الفقر بخطوات إيجابية ووسائل عملية واقعية.

علاج مشكلة الفقر من منظور إسلامي

وبينت الباحثة أنه لا يجوز في نظر الإسلام أن يعيش فرد في المجتمع الإسلامي جائعاً أو عرياناً أو مشرداً أو محروماً من المأوى أو من تكوين أسرة مستقرة، والذي يحقق للإنسان هذه المكانة في المجتمع عدة وسائل

الأولى: تتعلق بشخص الفقير نفسه

وهي وجوب العمل، أو تغيير العمل إن كان لا يسد حاجاته ويجعله يحيا في وضع كريم يمنعه من السؤال والمذلة، وعلى المجتمع والدولة معاونته بالمال والتدريب وتهيئة الفرص له حتى يستقر في عمل يتلاءم مع وضعه وقدراته، فكل إنسان في المجتمع مطالب بأن يمشي في مناكب الأرض يسعى لطلب رزق الله، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك: 15)، فالعمل هو السلاح الأول لمحاربة الفقر، وهو السبب الأول في طلب الثروة، وهو العنصر الأول في عمارة الأرض التي استخلف الله فيها الإنسان وأمره أن يعمرها.

وقد عالج الإسلام جميع البواعث النفسية والتي تثبط الناس عن العمل والسعي، فمن يعرض عن العمل والسعي بدعوى التوكل وانتظار الرزق من السماء، وهؤلاء خطّأهم الإسلام، فالتوكل على الله لا ينافي العمل واتخاذ الأسباب، فقال النبي[: «اعقلها وتوكل». فالعمل واجب ولا يجوز تركه بحجة الانكباب على الطاعة والعبادة متمسكاً بآية: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56) فالرسول[ قد علمنا أن لا رهبانية في الإسلام، وأن العمل الدنيوي إذا أتقن وصحت فيه النية وروعيت أحكام الإسلام؛ عبادة في حد ذاته، وأن سعي الإنسان هو ضرب من ضروب الجهاد في سبيل الله، وقد قرن الله تعالى في القرآن الكريم العمل بالجهاد فقال: {وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المزمل: 20). فالإنسان بعمله يغني نفسه بنفسه، ويسد حاجته وحاجة أسرته.

وهذا هو الأصل في شريعة الإسلام، أن يحارب كل امرئ الفقر بسلاح السعي والعمل، والذين لا يستطيعون العمل كالأرامل والشيوخ والصغار وأصحاب الاحتياجات الخاصة، أوجد لهم الإسلام وسيلة تعفّهم عن المذلة والسؤال والتسول.

الثانية: كفالة الموسرين من الأقارب: لقد وضع الإسلام – بإيجاب النفقة على الفقير من قريبه الغني- اللبنة الأولى في بناء التكافل الاجتماعي، وليس هذا الأمر على سبيل الاستحباب، بل هو حق أمر الله به، فقد عمل الإسلام على إنقاذ الفقراء من الفقر والمهانة، فشرّع لذلك تضامن أعضاء الأسرة الواحدة يشد بعضهم أزر بعض، ويعين قويهم ضعيفهم، ويكفل غنيهم فقيرهم، فقد قال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الأنفال: 75)، والآية تشمل جميع القرابات مهما ابتعدت درجة قراباتهم، وليس أصحاب الفروض فقط. وقد أكد الإسلام على حق ذوي القربى، وحثت آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي[ على برهم وصلتهم والإحسان إليهم، ووعد من قطع رحمه أو أساء إلى ذوي قرباه بالعذاب الشديد، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل: 90). وقال أيضاً: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (النساء: 36). وقال: {فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الروم: 38).

وأمر النبي[ ببر الوالدين والأقارب فقال: «أمك وأباك، وأختك وأخاك، ومولاك الذي يلي ذاك، حق واجب ورحم موصول».

ولا معنى لصلة الرحم بغير النفقة على المحتاج، فأي قطيعة رحم أعظم من أن يرى الغني قريبه الفقير يتلظى جوعاً وعطشاً ولا يطعمه أو يسقيه! يراه محتاجاً ولا يمد له يد العون والمساندة! فإن لم تكن هذه قطيعة رحم، فما هي القطيعة المحرمة والصلة التي أمر الله بها. وقد قال النبي[: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذوي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك فهكذا وهكذا». وبعد ما ذكر عن حل مشكلات الفقر، فإن بقي هناك في المجتمع من لايزال في حالة عوز فتأتي الزكاة والصدقات لتسد النقص الذي سيكون سببه قدرات الفرد المحدودة، وبهذا يبنى مجتمع متكامل.

الثالثة: الزكاة: ليس لكل فقير قريب قادر لينفق عليه، فلم يترك التشريع الإسلامي مثل هؤلاء الناس يتخبطون بين فقرهم وجوعهم، بل فرض لهم في أموال الأغنياء حقاً معلوماً، وفريضة مقررة ثابتة هي الزكاة والتي تهدف أساساً إلى إغناء الفقراء. والفقراء والمساكين هم أول من تصرف لهم، بذلك أمر النبي[ معاذاً عندما أرسله إلى اليمن، أن يأخذ الزكاة من أغنيائهم ويردها على فقرائهم، وإن مانع الزكاة لا يستحق الدخول في ولاية الله ولا ولاية رسوله[ ولا ولاية المسلمين، فقد قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}. (المائدة: 55). كما لا يستحق مانع الزكاة النصر الذي وعد به الله تعالى حين قال: {وَلَيَنْصرن اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور} (الحج: 40-41).

الرابعة: كفالة خزينة الدولة للفقراء: وهي الوسيلة الرابعة من وسائل مكافحة الفقر في المجتمع، ففي أملاك الدولة التي تديرها وتشرف عليها إما باستغلالها أو بإيجارها أو بالمشاركة عليها، وذلك كالأوقاف العامة وثروات الدولة الطبيعية التي يوجب الإسلام ألا يحتجزها الأفراد لأنفسهم، بل تكون في يد الدولة، ليكون الناس كافة شركاء في الانتفاع بها في ريع ما تدره من دخل للخزينة، مورد للفقراء والمساكين حين تضيق حصيلة الزكاة عن الوفاء بحاجاتهم.

إن بيت المال هو الموئل الأخير لكل فقير وذي حاجة، لأنه ملك الجميع وليس ملكاً لفئة دون الأخرى، وليست هذه الكفالة مقصورة على فقراء المسلمين فحسب، بل لأهل الذمة من غير المسلمين والذين يعيشون في ظل دولة الإسلام حق الكفاية والمعونة من بيت المال كالمسلمين.

الخامسة: الصدقات: قال النبي[: «إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أصناف»، وهذه الأصناف قدم فيها الفقراء بنص الآية الكريمة لأنهم أحوج ما يكونون إليها، وهذه الصدقات فريضة من الله، فقد قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 9/ 60).

وهذه الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة كانت المصابيح الهادية لتربية أزكى المشاعر وأصدق العزائم الراغبة في عمل الخير ولإنفاق على الفقراء والمحتاجين.


السادسة: في إيجاب حقوق أخرى تكافح الفقر: فهناك حقوق مالية تجب على المسلم أن يؤديها، وقد غفل عنها الكثيرون، مثل: حق الجوار والذي أمر الله تعالى برعايته في آيات القرآن الكريم حين قال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ.} (النساء: 36)، وقال النبي[: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره». وقال أيضاً: «مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه»، وقال: «ليْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَشْبَعُ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ».

بالإضافة إلى ما قررته قواعد الشريعة الإسلامية في كفارة الأيمان والنذور وأول ما أوجبت فيها إطعام الفقراء والمساكين. فهذه بعض من الطرق التي كافح بها الشرع الحنيف الفقر لينشئ مجتمعا يشد بعضه أزر بعض.