موقف الصحابة من مبتدعة زمانهم
النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يفتَتِح خُطَبَه أحيانًا بهذه الخطبة التي فيها التحذيرُ من البِدَع والمبتَدِعة، فكلُّ ما أُحدث في دين الله على خلاف ما كان عليه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابُه في الاعتقاد أو العمل، فهو من البِدَع، والمبتَدِع هو الذي يتعبَّد الله بعملٍ أو اعتقادٍ خلاف ما كان عليه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه، وقد تقدَّم الكلام قريبًا على البدعة في خطبةٍ سابقةٍ، فسيكون الكلام في هذه الخطبة عن المبتَدِعة والتعامُل معهم.
المبتدع يَحمِله على بدعته الهوى مع شبهة دليل، فتجد المبتدعة حينما يستَحسِنون بعقولهم بدعةً، يستدلُّون بأدلَّةٍ لتَسوِيغ بدعتهم، وهذه الأدلَّة إمَّا إنها عامَّة محتملة، ويَترُكون الأدلَّة المحكَمة في ذمِّ البِدَع، فهم يعمَلون بالمتشابه من الأدلَّة، ومَن هذه صفتُه فهو زائغٌ؛ قال - تعالى -: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، أو يستدل المبتدعة لتَسوِيغ بِدَعِهم بما لا يصلح دليلاً؛ إمَّا لعدم ثبوته، أو لأنه لا وجه له في باب بدعتهم.
البدعة في الجملة أعظمُ من كبائر الذُّنوب، فالعاصي يُقارِف المعصية وهو خائف من الله يَشعُر بالتأثُّم، فتجده يُحدِّث نفسه بالتوبة، بخلافِ المبتَدِع، وهنا مكمن الخطَر؛ فهذه الشُّبَه التي يستدلُّ بها تجعَلُه يأتي بدعته ويظنُّ أنَّه يتقرَّب إلى ربِّه بها، فيستمر عليها، فالعاصي يُوفَّق للتوبة، بخلاف المبتدع، فغالبًا لا يُوفَّق للتوبة.
مَعاشِر الإخوة:
يتَّفِق المُسلِمون على أنَّه لا أكمَلَ من هدي الصحابة - رضِي الله عنْهم - بعدَ هدي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما يتعلَّق بالدين؛ فهم أعلَمُ الناس بشرع الله، وأتقى الناس لربهم، وأنصح الخلق للخلق، وأخبَرَ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنهم خيرُ هذه الأمَّة بعده، ثم التابعون، ثم أتباع التابعين، فهذه هي القُرُون المفضَّلة الذين عدَّلهم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بإخباره أنَّهم خيرُ الناس، وقد ظهَر في عهد الصحابة من المبتَدِعة الخوارجُ والقدرية الذين يَنفُون القدر، والمرجئةُ الذين يرَوْن أنَّ الإنسان مجبر؛ لذا هم يعتَقِدون أنَّه لا يضرُّ مع الإيمان معصيةٌ، فكيف كان الصحابة - رضِي الله عنْهم - يَتعامَلون مع مبتَدِعة زمانهم؟
فأقول - مستعينًا بالله -: الذي ظهَر لي من هدي أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم ورضِي الله عنْهم، والعلم عند الله -: أنَّ مَن اعتَقَد بدعةً بسبب شبهةٍ عارضة، ولم يشرب قلبه هذه البدعة ويدعُ إليها، فإنَّ الصحابة يُناظِرونه ويُبيِّنون له خطأه؛ ليَعُود عن بدعته ويلزَم السنَّة؛ كما فعَل جابر بن عبدالله - رضِي الله عنهما - مع بعض مَن رأَوْا رأيَ الخوارج بسبب خطأٍ في فهمهم لبعض النصوص الشرعية؛ فعن يزيد الفقير قال: كنت قد شغَفَنِي رأيٌ من رأي الخوارج، فخرجنا في عصابة ذوي عددٍ نُرِيد أن نحجَّ ثم نخرج على الناس، قال: فمرَرْنا على المدينة فإذا جابر بن عبدالله - رضِي الله عنهما - يُحدِّث القوم عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: فإذا هو قد ذكر الجهنَّميين، قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله، ما هذا الذي تحدِّثون؟ والله يقول: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192]، و{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20]، فما هذا الذي تقولون؟ -
ففهموا من هذه الآيات وغيرها تخليد أهل الكبائر وكفرهم - قال: فقال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قال: فهل سمعتَ بمقام محمد - عليه السلام - يعني: الذي يبعثه الله فيه؟ قلت: نعم، قال: فإنَّه مقام محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - المحمود الذي يُخرِج الله به مَن يخرج، قال: ثم نعت وضعَ الصراط ومرَّ الناس عليه... قال يزيد: فرجعنا، قلنا: ويحكم أترَوْن الشيخ يكذب على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فرجعنا، فلا والله ما خرج مِنَّا غير رجل واحد؛ رواه مسلم (191).
أمَّا إذا كان المبتَدِع قد أُشرِب قلبُه هذه البدعة، ولم ينتَفِع بالنُّصح، وأصبح داعِيًا للبدعة، مع ضعفه وقلَّة أتباعه وقوَّة الحق، فإنَّ الصحابة - رضِي الله عنْهم - كانوا يتبرَّؤون من المبتدعة، ويُظهِرون هذه البراءة للناس؛ تحذيرًا لهم منه؛ فعن يحيى بن يعمر قال: كان أوَّل مَن قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبدالرحمن الحميري حاجَّينِ أو معتمرَيْن، فقلنا: لو لقينا أحدًا من أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فسألناه عمَّا يقول هؤلاء في القدر، فَوُفِّقَ لنا عبدُالله بن عمر بن الخطاب داخِلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخَر عن شماله، فظننت أنَّ صاحبي سيكل الكلام إليَّ فقلت: أبا عبدالرحمن، إنَّه قد ظهَر قِبَلَنا ناسٌ يقرَؤُون القرآن، ويتقفَّرون العلم، وذكَر من شأنهم، وأنهم يَزعُمون أنْ لا قدر وأنَّ الأمر أُنُف، قال: فإذا لقيتَ أولئك فأخبرهم أنِّي بريء منهم وأنهم بُرَآء مِنِّي؛ الحديث رواه مسلم (8).
وكان الصحابة - رضِي الله عنْهم - يهجرون المبتَدِعة ويَطرُدونهم من مجالسهم؛ زجرًا لهم، وتحذيرًا لغيرهم ممَّن تُسوِّل له نفسه مخالفةَ هدي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الاعتِقاد أو العمل؛ فعن الوليد بن مسلم قال: جاء طَلْقُ بن حبيب، إلى جندب بن عبدالله فسأله عن آيةٍ من القرآن، فقال له: أحرِّج عليك إن كنت مسلمًا لما قمت عنِّي، أو قال: أن تجالسني؛ رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (1/80) بإسناد صحيح.
وطَلْقُ بن حبيب من العبَّاد؛ لكنَّه يعتَقِد بدعة الإرجاء؛ وهي: أنَّه لا يضرُّ مع الإيمان معصيةٌ، وذكَر البخاري في "التاريخ الكبير" (4/359) بإسناده عن أيوب السختياني قال: ما رأيت أحدًا أعبد من طلْق بن حبيب، فرآني سعيد بن جبير جالسًا معه فقال: ألم أرَك مع طلق؟ لا تجالس طلقًا، وكان طلق يرى الإرجاء؛ ا.هـ.
وقال ابن عباس لأبي صالح ذكوان السمان: لا تُجالِس أهل الأهواء؛ فإنَّ مجالستهم ممرضة للقلوب؛ رواه أبو بكر الآجُرِّي في "الشريعة" ص: 65 بإسناد حسن.
فلا يَسلَم مَن يُخالِط المبتَدِعة ويُجالسهم لغير غرَض شرعي مُعتَبَر، من التأثُّر بهم، ففي أقلِّ الأحوال تجده يهون عليه أمر البدعة والمبتدعة، وربما نصَّب نفسه مُدافِعًا عنهم مُسوِّغًا بدعتهم، ويُشنِّع على مَن يُنكِر عليهم، وربما أثَّرت فيه شُبَههم، فهذا التابعي أبو قلابة عبدالله بن زيد الجرمي يقول: لا تُجالِسوا أهلَ الأهواء ولا تُجادلوهم؛ فإنِّي لا آمَن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يُلبِّسوا عليكم ما كنتم تعرفون؛ رواه الدارمي (391) بإسناد صحيح.
ومَن له أدنى إلمام بسِيَر الرِّجال في الماضي والحاضر، يُدرِك أثَر التأثُّر بمخالطة أهل الباطل من المبتَدِعة وأهل الانحراف العقدي أو الخلقي؛ فعن أبي الأسود الدؤلي قال: قدمت البصرة، وبها عمران بن الحصين صاحب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فجلست في مجلسٍ، فذكروا القدر فأمرَضُوا قلبي، فأتيت عمران بن حصين فقلت: يا أبا نجيد، إنِّي جلست مجلسًا فذكَرُوا القدر فأمرَضُوا قلبي، فهل أنت محدِّثي عنه؟ فقال: نعم، تعلم أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - لو عذَّب أهل السموات وأهل الأرض لعذَّبهم حيث يُعذِّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته أوسعَ لهم، ولو كان لك مثل أُحدٍ ذهبًا فأنفقتَه، ما تُقبِّل منك حتى تؤمن بالقدر كله خيره وشره؛ الحديث رواه أبو بكر الآجُرِّي في "الشريعة" ص: 188 بإسناده حسن.
إخوتي:
يقول ربنا - تبارك وتعالى -: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]، قال الشوكاني في "تفسيره" (2/128) عند تفسير هذه الآية: في هذه الآية موعظةٌ عظيمة لِمَن يتسمَّح بمجالسة المبتدعة، الذين يحرِّفون كلام الله، ويَتلاعَبون بكتابه وسنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويَرُدُّون ذلك إلى أهوائهم المُضِلَّة، وبدعِهم الفاسدة، فإنَّه إذا لم يُنكر عليهم ويُغيِّر ما هم فيه، فأقلُّ الأحوال أن يترك مجالستهم، وذلك يسيرٌ عليه غير عسيرٍ، وقد يجعَلون حضورَه معهم مع تنزُّهه عمَّا يتلبَّسون به شبهةً يشبِّهون بها على العامَّة، فيكون في حضوره مَفسَدة زائدة على مجرَّد سماع المنكر.
وقد شاهَدنا من هذه المجالس الملعونة ما لا يأتي عليه الحصرُ، وقمنا في نصرة الحق ودفْع الباطل بما قدَرنا عليه وبلَغت إليه طاقتنا، ومَن عرف هذه الشريعة المطهَّرة حقَّ معرفتها، علِم أنَّ مجالسة أهل البِدَع المضلَّة فيها من المفسدة أضعاف أضعاف ما في مجالسة مَن يَعصِي الله بفعل شيءٍ من المحرَّمات، ولا سيَّما لِمَن كان غير راسِخ القدم في علم الكتاب والسنَّة، فإنَّه ربما يَنفق عليه من كذباتهم وهذيانهم ما هو من البطلان بأوضح مكان، فينقدح في قلبه ما يَصعُب علاجه، ويعسر دفعه، فيعمل بذلك مُدَّة عمره، ويَلقَى الله به معتَقِدًا أنَّه من الحق، وهو من أبطل الباطل وأنكر المنكر؛ ا.هـ.
فمخالطة المبتَدِعة من غير مصلحةٍ راجحة ضررٌ على صاحبه، ويتعدَّى الضرر إلى غيره إذا كان المُجالِس محسوبًا من أهل العلم، أمَّا مخالطتهم لدعوتهم مع بيان ضلالهم وعدم السكوت عن باطلهم وتدليسهم، فحسنٌ؛ فقد كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُخالِط مَن هم شرٌّ من المبتَدِعة من الكفَّار والمنافقين؛ لكنَّه لم يكن يسكُت عن باطلهم ولا يُداهنهم؛ كما أخبر ربُّنا بذلك في قوله: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9].
وكما أنَّ الشخص يتأثَّر بالمخالطة الحسيَّة للمبتدعة والمنحَرِفين عقديًّا، فكذلك يتأثَّر بمخالطتهم المعنويَّة؛ بقراءة كتبهم، ومتابعة نتاجهم، قال الإمام مالك: أي رجل معمر - يعني: ابن راشد - لولا أنَّه يرى تفسير قتادة؛ رواه اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة" (4/638).
وذمَّ الإمام مالك قتادة؛ لأنَّه يرى نفْيَ القدَر، فالمُشاهَد أنَّ مَن يقرأ لأهل الأهواء والمنحَرِفين عقديًّا يتأثَّر بهم، وأَجِلْ فكرك أخي تجد الأمثلة شاهدةً لذلك.
وكان الصحابة - رضِي الله عنْهم - يُعزِّرون رؤوسَ المبتَدِعة بالهجر وبالضرب إذا كانوا قادرين على ذلك؛ فلمَّا قدم صَبِيغ بن عِسْل من البصرة إلى المدينة وكان خارجيًّا، وبلغ عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - أمرُه، فعزَّره بالجلد والهجر؛ فعن السائب بن يزيد قال: بينما عمر - رضِي الله عنه - ذات يوم جالِسًا يغدي الناس، إذ جاء رجلٌ عليه ثياب وعمامة، فتغدى حتى إذا فرغ قال: يا أمير المؤمنين، {وَالذَّاريات ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} [الذاريات: 1 - 2]، فقال عمر: أنت هو؟! فقام إليه وحسر عن ذراعيه، فلم يزل يجلده حتى سقَطت عمامته، فقال عمر: والذي نفس عمر بيده، لو وجدتك محلوقًا لضربت رأسك، ألبِسُوه ثيابًا واحملوه على قتب، ثم أخرجوه حتى تقدموا به بلاده، ثم ليقم خطيبًا، ثم يقول: إنَّ صبيغًا ابتغى العلم فأخطَأَه، فلم يزل صبيغ في قومه حتى هلك، وكان سيد قومه؛ رواه اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة" (1136)، وصحَّحه الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (1/199).
فكان صَبِيغ بن عِسْل بالبصرة كأنَّه بعير أجرب يَجِيء إلى الحِلَق، فكلَّما جلس إلى حلقه قاموا وتركوه، فإنْ جلس إلى قومٍ لا يعرفونه، ناداهم أهل الحلقة الأخرى: عزمة أمير المؤمنين؛ رواه اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة" (1140).
أمَّا إذا كان المبتَدِعة لهم قوَّة وغلَبَة، فإنَّهم يُناظَرون ويُدفَع شرُّهم بالأخفِّ، واشتهر في كتب التاريخ أنَّ ابن عباس ناقَش الخوارج وفنَّد شُبَهَهم بالأدلَّة النقليَّة والعقليَّة ثلاثة أيام، فرَجَع منهم أربعة آلاف كلهم تائب عن اعتِناق فكر الخوارج.
فيُناظر المبتَدِعة لبيان باطِلِهم من أهل العلم الراسِخين العارفين ببواطن مذهبهم وما في كتبهم من الانحِرفات، ولا تُترَك لهم الفرصةُ ليلبسوا على الناس ويُظهِروا خلافَ ما يعتَقِدون في حال ضعفهم في بعض البلاد، فالمشاهد أنَّ بعضَ اللِّقاءات التي تجرى مع بعض المبتَدِعة يقوم بها غير متخصِّصين، وربما ترك لهم المجال للتلبيس؛ ممَّا يجعل البعض ينخَدِع بهم، وينطَلِي عليه كذبُهم وكلامهم العام الذي يقولونه حينما تَظهَر حقيقتهم مع عدم الرَّدِّ عليهم لدوافع مختلفة.
الصحابة - رضِي الله عنْهم - هم الذين أُمِرنا بالاقتداء بهم، ولن يستَقِيم دينُنا، ولن تُؤتِي الدعوة ثمارها إذا جانبنا سبيلهم، وحِدنا عن طريقهم.
ورَحِم الله الإمام مالكًا حيث قال: لن يَصْلُحَ آخِرُ هذه الأُمَّة، إلا بما صلح به أوَّلها.
فلتكن هذه الحقيقة نصبَ أعيننا حينما نتَعامَل مع واقعنا الدعوي.
مَعاشر الإخوة:
النُّصوص السابقة عن السَّلَف يجب ألاَّ تُعزَل عن واقعهم؛ ففي وقتِهم كانت السنَّة ظاهرة، والبدعة متخفية؛ فعلى هذا يختَلِف الحكم باختِلاف المكان والزمان، قال شيخ الإسلام في "الفتاوى" (28/205-207): التعزير يكون للداعي إلى البدع؛ لأنَّ الداعية أظهر المنكرات، فاستحقَّ العقوبة، بخلاف الكاتم فإنَّه ليس شرًّا من المنافقين الذين كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقبَل علانيتهم ويَكِلُ سرائرهم إلى الله، مع علمه بحال كثيرٍ منهم... وهذا الهجرُ يختَلِف باختلاف الهاجرين في قوَّتهم وضعفهم، وقلَّتهم وكثرتهم، فإنَّ المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامَّة عن مثل حاله، فإنْ كانت المصلحة في ذلك راجحة، بحيث يُفضِي هجرُه إلى ضعف الشر وخفيته، كان مشروعًا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتَدِع بذلك بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحةً على مصلحته - لم يشرع الهجر؛ بل يكون تأليف بعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف.
ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كَثُرت فيها البِدَع، ويفرق بين الأئمَّة المطاعين وغيرهم، فالهجرة الشرعية لا بُدَّ أن تكون خالصة لله، وأن تكون مُوافِقة لأمره، فتكون خالصة لله وصوابًا، فمَن هجَر لهوى نفسِه، أو هجَر هجرًا غير مأمور به، كان خارِجًا عن هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانَّة أنها تفعَله طاعة لله؛ ا.هـ.
وليس معنى هجر المبتدعة الاعتِداء عليهم وبخسهم حقَّهم الذي شرعه الله لهم؛ فالكافر غير المحارب يَحرُم الاعتداء عليه، فالمسلم المبتَدِع أَوْلَى بذلك الحكم.
وليس معنى هجر المبتدع عدم زيارته لمصلحةٍ راجحة؛ فقد زار النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الكفَّار من أهل الكتاب وغيرهم، وغشى مجالسهم لمصلحة الدعوة.
في الختام:
ما سبق من بيان موقف الصحابة من المبتدعة هو اجتهادٌ في البحث عن الحق، والجمع بين الوارد عن سلَف هذه الأمَّة، مستَعِينًا بكلام أهل العلم، فإن أصبتُ فمن فضل الله عليَّ، وإن أخطأتُ فمِنِّي ومن الشيطان.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
______________________________ ___________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان