خطبة الحرم المكي - تقــوى اللـــه -تعالى- خــــيـر زاد


مجلة الفرقان





جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ 2021-12-24 الموافق 1443/05/20 للشيخ عبد الله بن عواد الجهني بعنوان: (تقوى الله -تعالى- خير زاد)؛ حيث بين أنَّ طالبَ اللهِ والدارِ الآخرةِ لا يستقيم له سَيرُه وطلبُه، إلا بحبسينِ: حبسِ قلبِه في طلبه ومطلوبه، وحبسِه عن الالتفات إلى غيره، وحبسِ لسانِه عمَّا لا يفيد، وحبسِه على ذِكْر الله، وما يزيد في إيمانه ومعرفته، وحبسِ جوارحِه عن المعاصي والشهوات، وحبسِها على الواجبات والمندوبات، فلا يفارق الحبس حتى يلقى ربه، فيُخلِّصه من السجن إلى أوسع فضاء وأطيبه، ومتى لم يصبر على هذين الحبسين، وفرَّ منهما إلى فضاء الشهوات، أعقبه ذلك الحبس الفظيع عند خروجه من الدنيا، فكلُّ خارجٍ من الدنيا إمَّا متخلص من الحبس، وإما ذاهبٌ إلى الحبس.

وبين الشيخ الجهني أن من رحمة الله بعبده الإنسان أنه لم يتركه سدى، بل جعل له نورًا يهتدي به، وقوةً يرتكز عليها، وسلاحًا يُدافِع به، فأرسَل أنبياءه ورسُلَه مبشرينَ ومنذرينَ، وأمرَه بالاعتصام بالله، والاستعانة به، وحثَّه على التقوى التي تدفع كلَّ سوء.

حقيقة التقوى

وعن حقيقة التقوى قال الشيخ الجهني: التقوى شعور يقع في قلب المؤمن تظهر آثاره على الجوارح، تحمله على الرغبة فيما عند الله، والعمل لتحصيله، وتُورِث الخشيةَ من الله ومن سخطه، فيبتعد عن معاصي الله، فالتقوى إيمان راسخ، وقوة نفسية، لا ترضى الوقوع في معاصي الله، ولا التكاسل عن أداء الواجب لله، تسير بالمؤمن على صراط مستقيم، ومنهج سليم، حتى يصل إلى دار القرار والنعيم، ولقد أوصى الله -عز وجل- جميعَ خَلقِه {الأولينَ والآخِرينَ} بأن يتقوه، وخصَّ المؤمنين بوصية التقوى فقال -تبارك وتعالى-: {وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (النِّسَاءِ: 131)، قال أهل العلم: «هذه الآية هي رَحَى آيِ القرآنِ كلِّه؛ لأنَّ جميعه يدور عليها، فما من خير عاجل ولا آجِل، ظاهر ولا باطن، إلَّا وتقوى الله سبيل مُوصِل إليه، ووسيلة مبلِّغة له، وما من شر عاجل ولا ظاهر ولا آجل ولا باطن إلا وتقوى الله حرزٌ متينٌ، وحصنٌ حصينٌ، للسلامة منه، والنجاة من ضرره».

إن تقوى الله هي عبادته بفعل الأوامر وترك النواهي، عن خوف من الله، وعن رغبة فيما عنده، وعن خشية له، وعن تعظيم لحرماته، وعن محبة صادقة له، ولرسوله -صلى الله عليه وسلم.

التقوى في كتاب الله

وأشار الشيخ الجهني إلى أن التقوى ذُكِرَتِ في كتاب الله، في أكثر من مائتين وخمسين موضعًا، بل إنه قد تكرَّر الأمرُ بالتقوى في الآية الواحدة مرتين أو ثلاثة، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الْحَشْرِ:18)، وقال -تعالى-: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (الْمَائِدَةِ: 93).

التقوى دأب الأنبياء والمرسَلين

وقد كان هذا دأب الأنبياء والمرسَلين -عليهم الصلاة والسلام- مع أممهم بالوصية بتقوى الله -عز وجل-، فنوح -عليه الصلاة والسلام- أولهم، قال -تعالى-: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 105-106)، وبعده عاد -عليه الصلاة والسلام-، قال -تعالى-: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 123-124)، وصالح -عليه الصلاة والسلام- مع قومه، قال -تعالى-: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 141-142)، ولوط -عليه الصلاة والسلام- مع قومه، قال -تعالى-: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 160-161)، وشعيب -عليه الصلاة والسلام- مع أصحاب الأيكة، قال -تعالى-: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 176-177).

التقوى وقضايا التشريع

ولو أمعنَّا النظرَ في بعض قضايا التشريع لَوجدنا التقوى في مقدمتها، تهيئةً لها، أو نتيجةً عنها، وفي مقدمة ذلك قضية الربا، قال الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الْبَقَرَةِ: 278)، وتقوى الله هي سياج الأمان من كل رذيلة، والملاذ من نزغات الشيطان، قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (الْأَعْرَافِ: 201)، والتقوى في الدنيا مجلَبة لبركات السماء والأرض؛ {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الْأَعْرَافِ: 96).

مساق المتقين

وفي أعظم المواقف وأخطرها في الآخرة، حين يجمع الله الخلائق، ولم يبقَ إلا السَّوْق، إمَّا إلى الجنة، وإمَّا إلى النار، في يوم يجعل الولدان فيه شيبًا، ويفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، نجد مساق المتقين كما قال -تعالى-: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (الزُّمَرِ: 73).

عِظَم أمر التقوى

ولِعِظَم أمر التقوى كانت وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر حياته، هي تقوى الله والسمع والطاعة لولاة الأمور، كما جاء في حديث العرباض بن سارية، - رضي الله عنه - وفيه: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن كان عبدًا حبشيًّا، فإنه مَنْ يعش منكم ير بعدي اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّةِ الخلفاءِ الراشدينَ المهديينَ، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كلَّ محدَثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ» (أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح)، قال ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-: «فهاتان الكلمتان تجمعان سعادة الدنيا والآخرة، أمَّا التَّقوى، فهي كافلةٌ بسعادة الآخرة لمن تمسَّك بها، وأمّا السَّمع والطاعة لوُلاة أُمور المسلمين، ففيها سعادةُ الدُّنيا، وبها تنتظِمُ مصالحُ العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعةِ ربِّهم».

أجمل لباس يتزين به العبد

وأكد الشيخ الجهني على أنَّ التقوى هي أجمل لباس يتزين به العبد، وأفضل زاد يتزود به، قال -تعالى-: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} (الْأَعْرَافِ: 26)، وقال -تعالى-: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (الْبَقَرَةِ: 197).

إذا المرء لم يلبس ثيابًا من التُّقَى

تقلَّب عريانًا وإن كان كاسِيَا

وخيرُ لباسِ المرءِ طاعةُ ربِّه

ولا خير فيمن كان لله عاصيَا

التقوى نجاة من الفتن

قال بكر المزني -رحمه الله-: «لَمَّا كانت فتنة ابن الأشعث قال طلق بن حبيب -رحمه الله-: اتقوها بالتقوى. قيل له: صف لنا التقوى، فقال: العمل بطاعة الله، على نور من الله، رجاء ثواب الله، وترك معاصي الله على نور من الله، مخافة عذاب الله»، قال الإمام الذهبي -رحمه الله-: «فلا تقوى إلا بعمل، ولا عمل إلا بتروٍّ من العلم والاتباع، ولا ينفع ذلك إلا بالإخلاص لله، لا ليقال: فلان ترَك المعاصي بنور الفقه؛ إذ المعاصي يَفتقِر اجتنابُها إلى معرفتها، ويكون الترك خوفًا من الله، لا ليُمدح بتركها، فمَنْ داوَم على هذه الوصفة فقد فاز» انتهى كلامه -رحمه الله-، وقال رجل لميمون بن مهران -رحمه الله-: «يا أبا أيوب، لا يزال الناس بخير ما أبقاكَ اللهُ لهم. قال: أَقْبِلْ على شأنِكَ، ما يزال الناس بخير حتى اتقوا ربهم».

أَعْمِلُوا التقوى

ثم وجه فضيلته رسالة إلى المسلمين قائلاً: أَعْمِلُوا التقوى في نفوسكم، وفي أهليكم، وفي أموالكم، وفي أولادكم، وفي معاملتكم، وفيمن تحت أيديكم، وفيما ائتُمنتم عليه من مصالح المسلمين، وفي كل مجال من مجالاتكم، العامة والخاصة، تفوزوا وتفلحوا، قال -تعالى-: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (يُونُسَ: 62-64).


سلاح المؤمن في الدنيا وخير زاد للآخرة

وأوصيكم ونفسي بتقوى الله -تعالى-، والتمسك بدين الإسلام، والعمل بأحكامه، والاهتداء بهديه، والتحلي بفضائله، والوقوف عند حدوده، فإنه لا فَلاحَ للأمة ولا عزَّ لها، ولا كرامة ولا نصر لها، ولا تأييد إلا بدينها وبإسلامها، ولا نجاة لها يوم القيامة ولا فوز لها بالجنة إلا بتقوى الله -تعالى-، فهي سلاح المؤمن في هذه الدنيا، وهي خير زاد له عند لقاء ربه، وهي النجاة من كربات الدنيا والآخرة، فمن اتقى الله وقاه، ومن عمل بطاعته رضي عنه وأرضاه.